“الباحثون عن الحرية”.. محاكمة إسرائيلية في بلاد العم سام ضد الفلسطينيين

إذا أتيحت لك الفرصة أن تكون بأرض الأحلام (وتسمى أيضاً بلاد العم سام) بعضا من الوقت، وأن تتفيأ ظلال الديمقراطية فيها، وتستنشق بعضا من عبير العدالة والمساواة هناك، فلا تمنعنّك هذه اللحظات الحالمة من أن تُعرّج قليلا على سجن ولاية “إنديانا”، وتسأل عن شكري أبو بكر، فإذا قالوا لك: آه تقصد الإرهابي؟ فقل لهم: ذلك الذي كان يطعم خمسة آلاف يتيم في فلسطين، تنعتونه بالإرهابي؟ لا بأس، فأنت إذن في بلاد المفارقات الغريبة.
قامت قناة الجزيرة الوثائقية بتسجيل معاناة شكري ورفاقه، من خلال حلقتين، بعنوان “باحثون عن الحرية.. مؤسسة الأرض المقدسة” استمعت من خلالها لعدد كبير من الشهود والقانونيين والسياسيين والإعلاميين، إضافة إلى ذوي المتهمين الذين أجمعوا تقريبا على أن هذه المحاكمة كانت سياسية بامتياز، وأن الأحكام الفلكية الصادرة بحقهم كانت مماحكة كيدية وقف وراءها الصهاينة المحتلون، ولوبيات الضغط اليهودي على أرض الولايات المتحدة، كشكل من أشكال الحرب المستمرة على الشعب الفلسطيني أنّى وُجد.
مؤسسة الأرض المقدسة.. سنبلة عطاء غير محدود
التقينا في البداية بوجدان أبو بكر التي قالت: زوجي شكري أبو بكر كان يشغل منصب مدير مكتب رابطة الشباب المسلم العربي في “إنديانا”، وقد وُلدت لنا ابنتنا سنابل، ولكنها كانت مريضة بالثلاسيميا، ومرض آخر يدعى التليف الكيسي، وهو مرض يصيب الرئة.
أما “خليل ميك” المدير التنفيذي لصندوق الدعم القانوني لمسلمي أمريكا، فيقول عن سنابل: كانت بحاجة إلى عملية لتعيش، ووجد لها والدها جمعية خيرية مولت العملية، الأمر الذي وصفه شكري بأنه غيّر حياته، فقال “أنا مسلم، والأصل أنني أعطي وأعمل الخير”، فترك وظيفته، وأسس جمعية خيرية وهب لها كل وقته وماله وحياته، فنمت وكبرت حتى أصبحت أكبر مؤسسة خيرية في الولايات المتحدة.
وعن هذه المؤسسة يقول المحاسب القانوني محمد يعيش: أنشئت مؤسسة الأرض المقدسة في عام 1989، وكان المؤسسون: شكري أبو بكر وغسان العشّي ومحمد إبراهيم المزين، وقد بدأت التبرعات بحدود مليون إلى مليوني دولار عام 1997، ثم وصلت إلى أكثر من سبعة ملايين في 2001، وكانت منها 10% عبارة عن مصاريف تشغيلية للمؤسسة.
ملاذ اللاجئين والأيتام
تقول زوجة غسان العشي: بعد إنشاء المؤسسة، وفي 1991 قررنا كعائلات ومؤسسة الانتقال إلى تكساس. وفي مداخلة أضافت نور العشي ابنة غسان عن نشاطات المؤسسة: كانوا يقدّمون المساعدات بشكل رئيسي للفقراء في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم فيما بعد إلى اللاجئين في الأردن ولبنان، ثم إلى المحتاجين الآخرين في معظم أنحاء العالم.

ومن بين المستفيدين من تبرعات المؤسسة، نلتقي المدير العام لمستشفى الرازي بمدينة جنين في فلسطين فواز حماد الذي بيّن أن المؤسسة بدأت تقديم المساعدات منذ عام 1994، صُرفت أساسا على البنية التحتية لخدمات طبية في منطقة فقيرة لا تمتلك أي مقومات للعمل الطبي.
أما الشيخ “حاتم شكري” رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية بالخليل، فأضاف بأن المؤسسة قدمت خدماتها لأيتام الجمعية الخيرية الإسلامية بشكل متواصل بين عامي 1998 و2001.
كيد الصهاينة.. ملاحقة الفلسطينيين حتى نهاية العالم
عن بدايات القضية التي أثيرت ضد المؤسسة قالت نور العشي: أثيرت التساؤلات والادعاءات طوال التسعينيات من قبل جماعات الضغط الإسرائيلية حول أنشطة هذه المؤسسة، من مثل ر”ابطة مكافحة التشهير” (ADL) وبعض السياسيين من أمثال “إليوت سبتز” و”أنتوني وينر” و”تشاك شومر”، وكان هؤلاء يتوسلون إلى الرئيس “كلينتون” من أجل إغلاق المؤسسة، ولكنه كان يرفض.

أما الصحفي “بوب راي ساندرز” من صحيفة “ستارز تلغرام” فيرى أن إسرائيل تقف ضد كل من يساند الفلسطينيين، ولا يقتصر الأمر على الدعم المادي، فلو قلت أنا لا تعجبني تصرفات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، فأنت عدو للدولة. ويتابع: بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر كانت الولايات المتحدة على استعداد للتنازل عن أي حق لها؛ عن الحقوق المدنية وحرية التعبير، وحتى عن خصوصيتي الشخصية إذا كان بإمكانك منع هؤلاء المجانين الإرهابيين من الدخول إلى أمريكا.
ويصف الظروف الأمنية آنذاك “ديفيد كول” أستاذ الحقوق في جامعة “جورج تاون واشنطن”: تبني نظاما أمنيا شرسا يتيح لك، ليس فقط مكافحة المؤسسات والأشخاص الذين يثبت تورطهم في دعم الإرهاب، ولكن أيضا كل من تحوم حوله أدنى شبهة أو صلة بهؤلاء، وأولهم العرب المسلمون الذكور.
رأس الهرم الأمريكي.. تقديم فروض الولاء
حول صدور القرار بإغلاق المؤسسة يعلق “أسامه أبو رشيد”، وهو صحفي وكاتب في واشنطن: أعلن “بوش الابن” بنفسه أن وزير خزانته قد قام بتجميد أموال وممتلكات مؤسسة الأرض المقدسة، وعند اتخاذ قرار الإغلاق في 4 ديسمبر/كانون الأول 2001، كان “أرييل شارون” قبلها بقليل في الولايات المتحدة بداعي تقديم العزاء للأمريكيين، والواقع أنه كان يحمل ملفا متكاملا عن المؤسسة، ويتّهمها بدعم الإرهاب، وطلب من “بوش” المسارعة إلى إغلاقها. أخبرني بذلك شكري أبو بكر المؤسس، فاتح ديسمبر/كانون الأول.
ويقول محمد يعيش: “في يوم إغلاق المؤسسة، قامت وكالة “إف بي آي” باستجواب كل موظف عن علاقته بالمؤسسة، وإذا ما كان يستفيد منها شخصيا، أو ما إذا كانت ترسل الأموال لأشخاص على علاقة بتنظيم حماس أو بأي من أذرعها العسكرية.

وعن ظروف القضية علّقت “نانسي هولندر”، محامية شكري أبو بكر قائلة: المستشار العام للخزينة في ذلك الوقت، قال: كان أمرا هزليا، لقد وضعنا في جدول كل الجهات التي نشتبه فيها عادة، وقلنا حسنا لنقم بتجميد ممتلكاتها، وما أنا على يقين به أن وزارة الخزانة أوجدت كبش فداء، وهم الفلسطينيون ومن يدعمونهم، وقالت حسنا لنجمد ممتلكاتهم، لا محاكمات ولا شهادات ولا سماع أقوال ولا أي إجراءات قانونية.
أما “جون كلاين” محامي غسان العشي، فيقول: في 2002 رفعت مؤسسة الأرض المقدسة دعوى قضائية في واشنطن للطعن في قرار تصنيفها مؤسسة إرهابية، وبعد مفاوضات ومناقشات رفضت محكمة الصلح الدعوى، وقمنا بالاستئناف ثم خسرنا كذلك، بعد أن قُدمت “أدلة سرية” لا تقبل الطعن ضد القضية.
اعتقال عصابة مخدرات.. أدلة واهية وتُهم متهافتة
تقول “نانسي هولندر”، محامية شكري أبو بكر: “كان هنالك ملف ضخم من التقارير الصحفية والسجلات الإدارية وكان علينا قراءتها جميعها، وفي الحقيقة أنها كانت مجرد قمامة، مقالات صحفية، ومقابلات مترجمة من العربية إلى العبرية، ثم إلى الإنجليزية، مجرد هراء، وعندما قمنا بالتحقق من الترجمة وجدناها مجرد مغالطات خاطئة تماما، لقد كانت الحكومة تعتمد على تقارير خاطئة ومضللة. حتى تلك “الأدلة السرية” لم يتح لنا الاطلاع عليها أو فحصها.
كانت إجراءات اعتقالهم من قبل “إف بي آي” همجية للغاية، أشبه باعتقال عصابة مخدرات، تفتيش وركل وتقييد أيدي، ولم يعطوا النساء الحق في ارتداء حجابهن، ثم سيق المتهمون إلى سيارات الاعتقال، واختفت أخبارهم لمدة عشرة أيام، سُمح لهم بعدها بالاتصال بذويهم، ثم أفرج عنهم وبقوا رهن الإقامة الجبرية، بعد أن طردوا من أعمالهم.
تقول نور العشي: على مدى ثلاث أو أربع سنوات متتالية حاول الـ”إف بي آي” والاستخبارات المركزية والمسؤولون الحكوميون وأعضاء النيابة العامة الادعاء بأدنى شبهة أن المؤسسة كانت تقدم دعما ماليا لحماس.

كانت النهايات معروفة، وكان على النظام القضائي فقط أن يجد السبيل المناسب لهذه النهاية. يقول “ريتشارد روبر” المدعي العام المسؤول عن قضية الأرض المقدسة: كانت الادعاءات تفيد بوجود دعم مادي تقدّمه المؤسسة لحماس، وكان علينا أن نثبت ذلك، وهذا ما نسميه هنا غسيل الأموال.
وعن المعنيّين بهذه الدعوى قال المحامي “كلاين”: الدعوى كانت مقدمة ضد كل من السيد المزين والسيد أبو بكر والسيد عبد القادر والسيد العشي بأشخاصهم، وضد المؤسسة نفسها.
وعن التهم تقول “نانسي”: كانت هنالك 40 تهمة موجهة ضدهم، على رأسها تمويل الإرهاب، وتهم أخرى مثل التهرب الضريبي.
فقراء في بقعة إرهابية.. ثغرات القوانين
أوضح أسامة أبو رشيد حول إجراءات المحاكمة أن الحكومة جاءت بـ”ماثيو ليفيت”، بدعوى أنه خبير في مجال دعم الإرهاب المصرفي، وهو في الحقيقة يهودي صهيوني، ومن المروجين لفكرة الإسلاموفوبيا في المجتمع الأمريكي.
وقد قال أثناء المحاكمة: حماس من خلال نشاطاتها الاجتماعية تبني قاعدة دعم شعبي للحركة، وتعيل أسر نشطائها، وتوفر فرص عمل لأعضائها، مما يضفي الشرعية على نشاطاتهم، ولن يلومهم أحد عندما يعملون في الصباح كعمال إغاثة، ولكن لا يعلم أحد أنهم يتحولون في الليل إلى إرهابيين. وهذا ما تستطيع الحركة من خلاله تجنيد أعضاء يعملون لحسابها.

وعن الثغرات في قانون تمويل الإرهاب يقول خليل ميك: هناك قانون الدعم المادي، وهو يحرم على الأمريكي أو المقيم تقديم أي دعم مادي لجماعات وهيئات مصنفة في القانون على أنها إرهابية أو تدعم الإرهاب، ولكن هذا القانون لا يجيب للأسف، عن ما إذا أطعمت أطفالا أو فقراء موجودين في تلك البقعة التي توجد بها هذه “الجماعات الإرهابية”، وكانت هذه ثغرة عادة ما ينفذ منها الطامعون لإدانة أي عمل يدعم الفلسطينيين في أرضهم.
شهود إسرائيليون في شأن فلسطيني
يقول المحامون حول غرابة بعض الإجراءات: لأول مرة تستعين الحكومة بشهود سريّين، فكانت المحاكمة أشبه بادعاء عام ضد الشعب الفلسطيني بأكمله، ملصقات صور الشهداء، صور التفجيرات ضد جنود الاحتلال، احتفال الفلسطينيين بهذه التفجيرات، يوميات المقاومة ضد الاحتلال، كلها كانت أدلة ضد الشعب الفلسطيني، وبالتالي أدلة ضد مؤسسة الأرض المقدسة التي تقدم الطعام لأيتامه، وكان القضاة منحازين تماما لطرف الادعاء، ولم يكن مسموحا للمحامين بتقديم لوائح دفاعهم عن المؤسسة موضوع الدعوى.
عندما كان يُسأل الشهود عن لجان الزكاة التي كانت تتلقى الدعم من المؤسسة، وما إذا كانت من المنظمات التي أُدرجت في قائمة وزارة الخزانة، كانت الإجابات “لا”، إذن ما الذي استجد الآن ليكون تقديم الدعم لهذه اللجان جريمة؟ إنه الكيد اليهودي ولا غير.
أما الشهود السريون فتبيَّن أن معظمهم ضباط في أجهزة الأمن الإسرائيلية، وكان غير مسموح لهيئة المحامين حتى معرفة أسمائهم الصريحة، الغريب والهزلي في الأمر أن المحاكمة لم تكن ضد “حماس”، وأن الصور المعروضة، والتي هي من هجمات حماس، ليس لها أي علاقة بالمؤسسة موضوع القضية، وهي مؤسسة أمريكية خالصة تقدم الدعم للمحتاجين في فلسطين.

ويقول أبو رشيد عن وثائق القضية: أكثر من ثمانية آلاف وثيقة قدمت خلال هذه المحاكمة، ولم يكن بها وثيقة واحدة أمريكية تدين مؤسسة الأرض المقدسة، كلها كانت مصادر إسرائيلية.
لقد غابت الشفافية والموضوعية عن هذه المحاكمة، تقول “نانسي”: “بذلت الحكومة الأمريكية جهدا فائقا في محاولة إيجاد أي صلات قرابة بين موكلينا مع أي شخصية معروفة في حماس، وصارت محاكمة الناس على أساس صلة القربى، وليس على أساس العضوية أو حتى الإيمان بالفكرة، وهذا غاية في الغرابة على القانون الأمريكي.
شهادات من أرض فلسطين.. زيف ادعاء الصهاينة
يقول القنصل العام السابق في القدس “إدوارد إبنغتون”، أحد شهود الدفاع: خلال فترة عملي لم يصلني أي تحذير أو مجرد تنبيه بشأن التعامل مع مؤسسة الأرض المقدسة، حيث كان تعتبر مؤسسة خيرية أمريكية شرعية، وكانت لها مصداقيتها وأمانتها في تقديم العون لمن يحتاجونه. والمزاعم الإسرائيلية بتبعية لجان الزكاة لحماس لم تكن أبدا وجهة النظر الأمريكية طيلة فترة عملي في القدس.
يقول شكري أبو بكر من خلال مكالمة هاتفية: أنا شخصيا زرت فلسطين، وقمت بزيارات ميدانية للمؤسسات الخيرية المختلفة، وكانت شروطنا واضحة أن تكون المؤسسات مرخصة حسب القوانين المحلية، وحسب ذلك الوقت فقد كانت كل لجان الزكاة والجهات الخيرية والمستشفيات والملاجئ مرخصة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
في الضفة الغربية، يقول فواز حماد: كل لجان الزكاة كان يجب أن تحصل على ترخيص من السلطات الأردنية في السابق، ثم عن طريق وزارة الأوقاف الفلسطينية حاليا، ولم يكن مسموحا لأي من أعضائها أن يكون ناشطا سياسيا لأي جهة كانت. ثم إن لجنتنا كانت تتلقى الدعم ليس فقط من مؤسسة الأرض المقدسة، بل هناك منظمات أمريكية خالصة مثل “يو إس أيد” وغيرها، كانت تقدم لنا المعونات.
محاكمة أولى وانتصار.. الحق يعلو
المضحك المبكي في هذه المحاكمة المهزلة المليئة بالمفارقات، أن الحكومة الأمريكية بنفسها، وعن طريق منظمات غير حكومية، كانت تقدم دعما لنفس لجان الزكاة التي دعمتها مؤسسة الأرض المقدسة، وعندما وُوجِه ممثل الادعاء بهذه الحقيقة، تغير لونه وقال: لا أعلم، لقد مر وقت طويل على هذا.

“جون براينت” وهو محامٍ وعضو كونغرس سابق، فيقول: التقيت في إطار مهمتي لتقديم دعم قانوني للمؤسسة بأعضاء في الـ”إف بي آي” وسألتهم إذا كانت هناك شبهات ضد المؤسسة قيد التحقق، فأجابوا بالنفي، بل وقابلت الرجل الثاني في السفارة الإسرائيلية وسألته إذا كانت هنالك من مخاوف بشأن عمل المؤسسة، أو كان هنالك ما يقلق حكومتكم تجاه المؤسسة، أو حتى يمكنكم إخباري بأي أخطاء تلمسونها في تعامل المؤسسة مع الفلسطينيين، ويمكن أن أنقلها لهم ليقوموا على تصحيحها، فأجاب بأن هذا اقتراح جيد، وسأتشاور مع الحكومة ونرجع لك، ولم يرجع بأي شيء. وبعد أسابيع تواصلت أنا معه وأخبرني بأن حكومته طلبت ألا يتواصل بشأن المؤسسة أبدا.
انتهت المحاكمة الأولى بانتصار المتهمين ومحاميهم، حيث لم يستطع المحلّفون الإجماع ولو حتى على تهمة واحدة من مجموع التهم الأربعين التي يحاكم على أساسها المتهمون، ولكن القاضي والادعاء العام وعدوا أن القضية سوف يعاد فتحها حتما.
أدلة جديدة واهية.. محاكمة سياسية
تقول “نانسي”: كانت المحاكمة الثانية في 2008، وبرئاسة قاض مختلف، وقد سُمح للحكومة بعرض أدلة أكثر من تلك التي عُرضت في المرة الأولى، وكانت مربكة بكثافتها لهيئة المحلفين، ومن بينها عمليات تفجير أكثر، وعلَم أمريكي يداس بالأقدام، لا أدري ما كانت علاقة هذا بمؤسسة الأرض المقدسة.
ويضيف “كلاين”: تميزت هذه المحاكمة بأربعة أدلة، زيادة عن المرة الأولى:

– الدليل الأول: كان هنالك شاهد عربي قدمته الحكومة وكان متعاونا معها، ويدعى محمد الشربجي، عمل لفترة وجيزة مع المؤسسة، وعليه تُهم اختلاس أموال مع شخص آخر، فكانت بينه وبين الحكومة صفقة إذا شهد ضد المؤسسة فسيعاد النظر في قضية الاختلاس، فشهد أن الجميع في الضفة على علم بأن أموال المؤسسة تذهب لحماس، وهو لم يكن قد زار الضفة أبدا، ولكن اعتمد على مقالات صحفية.
– الدليل الثاني كان مقدما من السيد “روبرت ماكبراين” الذي يعمل في وزارة المالية، حيث قال في شهادته: ليس مهما أن تكون المنظمة مدرجة على قائمة الإرهاب، إذا كانت الأموال التي تجمعها يمكن أن تذهب لجهات إرهابية.
– الدليل الثالث للحكومة هو شاهد خبير يدعى “ستيفن سايمون”، كان يعمل في مجلس الأمن القومي، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط، قال في شهادته: إن تصنيف حماس كمنظمة إرهابية قد ساعد الولايات المتحدة على تجنب هجوم آخر مشابه لهجوم 11 أيلول/سبتمبر، ولا ندري كيف تصب هذه الشهادة في المؤسسة موضوع القضية.
– الدليل الرابع: ثلاث وثائق استولت عليها القوات الإسرائيلية لدى اقتحامها مقر ياسر عرفات، وتتضح في إحداها علاقة مؤسسة الأرض المقدسة بحماس، وقد اعترضنا على هذه الوثائق في المحاكمة الأولى لكونها غير موثوقة ومجهولة المصدر، يومها قبل القاضي الاعتراض واستثناها، أما هذه المرة فقد قبلها القاضي ضمن وثائق القضية.
إطعام الفقراء ليس جريمة
وصف السيد شكري أبو بكر المحاكمة الثانية عبر الهاتف بأنها كانت عبارة عن محاكمة ضد الإسلام بأكمله من خلال قضية المؤسسة. بينما أضاف السيد غسان العشي عبر الهاتف: لم يركز الدفاع على قضية الشعب الفلسطيني ولا على لجان الزكاة ولا على المكالمات مع هذه اللجان، كان هنالك تشويه متعمد للقضية.
وقال السيد مفيد عبد القادر عبر الهاتف: تعاملوا مع القضية كأنها جنائية وليس لها بعد سياسي.
وعن نوعية المحلفين تقول “نانسي”: أبقت المحكمة على محلّفين متدني الثقافة والتعليم لم نكن نرغب بهم، وانتهينا بمجموعة منهم كانوا أكثر ميلا للجانب الحكومي.

كانت مرافعات المتهمين عن أنفسهم قوية للغاية، وفي الحقيقة لم تكن الحكومة تملك أي دليل حقيقي ضدهم، وكانوا يتشبثّون بعدالة قضيتهم، وأنهم سوف ينصَفون في النهاية.
وهذه الناشطة المتعاطفة “داين وود” تقول: علمت أنه كانت هناك محاكمة أولى وانقسام في آراء المحلفين، فقررتُ دراسة القضية والمؤسسة وحتى قضية فلسطين كلها، وتعلمت أشياء لم أكن أعرفها من قبل، فواظبت على حضور الجلسات يوميا وصرت أدعو الناس كذلك حتى امتلأت القاعة، وكنا ننظم مظاهرات أمام المحكمة ونقدم الطعام إلى الفقراء هناك، في إشارة إلى أن إطعام الفقراء ليس جريمة.
الأحكام الفلكية.. شرّ البلية ما يضحك
تلك القضية التي كانت بالأمس القريب مثار جدل حادّ بين المحلّفين أنفسهم، ولم يستطيعوا الإجماع فيها على أي واحدة من التهم، ها هي اليوم وخلال لحظات، تحصل على الإجماع الكامل في جميع التهم بحق جميع المتهمين، إنها عجائب وغرائب القانون الأمريكي بأبهى حللها.
– شكري أبو بكر: الحكم 65 عاما.
– غسان العشي: الحكم 65 عاما.
– مفيد عبد القادر: الحكم 20 عاما.
– محمد المزين: الحكم 15 عاما.
– عبد الرحمن عودة: الحكم 15 عاما.
بعدها، تقدم شكري أبو بكر للمنصة وقال: أنا فخور بكل “شيك” وقّعته يدي لإنقاذ آلاف الأسر التي اقتلعت من ديارها ودمرت بيوتها، وأنا كذلك فخور بكل منحة دراسية قدمتها لطالب تفوَّق رغم كل الظروف التي يعيشها، ونال أعلى الدرجات.

وقد علّق المحامي “كلاين” على الحكم قائلا: عملت كمحامٍ جنائي لمدة 30 عاما، ولم أر في حياتي حكما أشد ظلما من هذه الأحكام.
وصرحت هيئة المحامين فيما بعد أنهم استأنفوا الحكم، وقبلت محكمة الاستئناف اعتراضهم على الأدلة الأربعة التي أضافها القاضي بعد المحاكمة الأولى، “ولكننا في النهاية خسرنا القضية، لقد كان ذلك قرارا سياسيا بامتياز، ولا دخل للقانون به من قريب ولا بعيد”.
أما شكري أبو بكر فقد علّق: في أرض الحضارة ذقت المرارة، فحتى وقت قريب كنت أباً لخمسة آلاف يتيم، أما الآن فأولادي أنفسهم في حكم الأيتام، بعد أن غيّب السجن مُعيلهم ووالدهم، ماتت ابنتي سنابل على بعد 850 ميل مني، كم كان عسيرا أن تموت دون أن أضمها، ومن قبلها مات والدي ولم أستطع أن أودعه.
زيارات ومكالمات قصيرة.. تشبث بأهداب الأمل
تقول نور العشي عن الزيارات: والدي يحصل على مكالمتين أسبوعيا، بواقع 15 دقيقة في المرة الواحدة، يقوم بتوزيعها علينا أنا وشقيقتي وأمي، حيث كل واحدة منا في ولاية مختلفة.
عائلة غسان العشي تستغرقها الرحلة براً مدة 11 ساعة تقريبا حتى يصلوا إلى السجن في “إلينوي” حيث يقبع والدهم هناك، ولذلك فهم يقومون بزيارته مرتين إلى ثلاث مرات كل عام. تقول نور: أسوأ ما في هذا السجن هو أننا لا نستطيع أن نلمس أبانا أو أن نضمه، شيء محزن للغاية.

أما عائلة أبو بكر فتستغرقهم الرحلة أكثر من خمس ساعات براً حتى يصلوا إلى السجن، ومع ذلك فهم سَعيدون لأنه انتقل إلى هذا المكان، ففي السجن السابق كانت الزيارات من خلف الحاجز الزجاجي، وعبر جهاز الهاتف فقط. هذه المرة اصطحبوا حفيده الصغير حتى يرى جدّه ويضمه إليه، وفي المساء أمكنهم مشاهدتهم لمدة بسيطة، باتوا ليلتهم تلك في مكان قريب حتى يتسنى لهم زيارته غدا صباحا لمدة أطول. ولكن حراس السجن لم يسمحوا لهم في الصباح التالي، بحجّة أن عددهم أكثر من الحد المسموح به.
ويقول مفيد عبد القادر: تزوجت ابنتي وأنا في السجن، وولدت مولودها الأول وأنا في السجن كذلك، وعندما جاؤوا به في الزيارة التالية لم يكن مسموحا لي أن أضمه أو أقبله، لماذا؟ هذه لا إنسانية مقيتة، لقد قضيت في أمريكا أكثر من 30 عاما لم أحصل فيها حتى على مخالفة مرور، الآن أصبحت مجرما؟ وما جرمي: إغاثة الملهوفين؟ إنها المهزلة السوداء بعينها.
لائحة ادعاء في يد تمثال الحرية.. فرصة أخيرة
يعلِّق أحد أصدقاء العائلة وهو الكاتب والناشط “ميكو بوليد”: صدمني ما سمعت، كان مروعا للغاية، لم أكن قد سمعت بالقصة كاملة من قبل، ثم ذهبت إلى تكساس والتقيت بعائلات المتهمين، ومنذ شهر فقط تمكنت من زيارة شكري في السجن، صُدمت ولكن في الوقت ذاته سُررت كثيرا لإيجابيته وإقباله على الحياة وتفاؤله. جمعت كل ما ينبغي وحان الآن وقت الكتابة، أعتقد أنهم سجناء سياسيون، مثل أكثر السجناء الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

ويتابع: هذه القضية كانت أكبر رد على ادعاء الصهاينة بعدم وجود شعب فلسطيني أو قضية فلسطينية من الأساس، وأن اللجوء والفقر هي قضايا غير صحيحة، وأنهم حفنة من الإرهابيين ليس أكثر. كانت هذه القضية وصاحِبتها مؤسسة الأرض المقدسة أكبر تكذيب للرواية الصهيونية برمّتها، وهذا بحد ذاته أخطر شيء يمكن أن تفعله بإسرائيل، وهذا أخطر تحدٍّ للوبي الصهيوني هنا، الذي كل همه أن يُجمّل الوجه القبيح لإسرائيل، ويشرع جرائمها ضد الإنسان الفلسطيني.
يقول “خليل ميك”: قدمنا استئنافا للمرة الثانية في محكمة أخرى، ورأى القاضي أن هيئة المحلفين قد فعلت الصواب، ولذلك فقد صادق على الحكم، ولم يقبل الاستئناف، ثم توجهنا إلى المحكمة العليا، لكنها لم تقبل مجرد الاستماع لوجهة نظرنا ورفضت الاستئناف.
أما “غاري أداشين” محامي مؤسسة الأرض المقدسة فيقول: أعمل الآن على أرشفة “التماس 2255” والذي يُعتبر آخر فرصة قانونية لهؤلاء الرجال من أجل الاعتراض على الحكم الصادر بحقهم، وهذا الالتماس يتمثل في جمع شهادات موثّقة من لجان الزكاة أنها ما خضعت يوما ولم تخضع لسيطرة حماس، وأنها تقدم المعونات لمستحقيها دون النظر إلى توجهاتهم السياسية أو الدينية.
استقطاب الشارع الأمريكي.. تقطّعت حبال الوصل إلا بالله
في ظل ارتهان الموقف السياسي الأمريكي للمحتل الصهيوني، فإنه ليس هناك بصيص أمل في المستقبل المنظور للإفراج عن هؤلاء المظلومين خلف القضبان، وفي خضمّ ما يسمى الحرب ضد الإرهاب، فإن حالة الاستقطاب الحاد الذي يعيشه الشارع الأمريكي ستجعل الحصول على التعاطف والدعم المعنوي عسيرا إلا من فئات قليلة جدا ممن يعرفون الحالة الفلسطينية جيدا.

حتى أن محاولات الحصول على عفو رئاسي قد تزيد من تأزيم الوضع، على الرغم من أن هذه الفسحة من الأمل هي كل ما بقي لأبناء وأحفاد المعتقلين، ولكن يبقى الأمل كبيرا بالله العظيم العدل الحكَم الذي لا يُظلم عنده أحد أن يفرّج عنهم في هذه الحياة الدنيا، أو أن يخلّفهم في سجنهم خيرا، وأن يربط على قلوبهم وقلوب عائلاتهم، وأن يشدهم إلى عظمته ورحمته سبحانه بحبله المتين الذي لا ينقطع.