“الحرب السيبرانية في الانتخابات الأمريكية”.. هكذا كشف العم سام نفسه للعدو

لم يتوقف الجدل حول احتمال تدخل جهات أجنبية في الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي أوصلت الرئيس “ترامب” إلى البيت الأبيض.
ويتزايد اليوم الخوف أكثر من تكرار الشيء نفسه مع اقتراب الانتخابات القادمة، والقلق من تداعياتها السلبية على الناخب، ومن بين أخطر ذلك فقدان المواطن الأمريكي ثقته بالنظام الديمقراطي والانتخابي.
هذا ما انتبه إليه السينمائيون “سيمون أرديزوني”، و”راسل مايكيلس” و”سارة تيل”، فقرروا معا إنجاز وثائقي حمل عنوان “سلسلة القتل.. الحرب السيبرانية في الانتخابات الأمريكية”.
يعرض مسار الفيلم العميق الثغرات الموجودة فعلا في النظام الانتخابي الأمريكي، ويكشف الأساليب التي يمكن للعدو التسلل منها لإحداث فوضى تعطل نزاهة العملية.
استعانة القائمين على الفيلم بخبير الأمن الانتخابي والقرصنة الإلكترونية الفنلندي “هاريس هورستي” وبعدد آخر من الخبراء ومبرمجي أنظمة الحواسيب؛ أعطت مصداقية وزخما قويا لوثائقيهم الذي لم يكتفِ بعرض الجانب النظري المعقد لآليات تشغيل وقرصنة البرامج الإلكترونية، بل عمل على تأكيد المعطيات والحقائق على الأرض من خلال إجراء تحريات ميدانية تكشف أوجه القصور في العملية الانتخابية برمتها.

استقلالية الولايات.. فوضى تسهل اختراق نظام التصويت
سهلت حماسة الخبير الفنلندي على صُناع الوثائقي توصيل ما يريدون إلى المُشاهد بأبسط الوسائل والسبل لكونه يعتمد إلى جانب شروحاته المستفيضة على مقابلة الأشخاص المعنيين في أماكن وجودهم.
كما يقوم هو بنفسه بكشف خفايا عمليات القرصنة في أكثر من ولاية أمريكية، لأن من خصوصيات الانتخابات الأمريكية عدم مركزيتها، إذ أن لكل ولاية من ولاياتها استقلالية واسعة ومرونة في إدارة وتطبيق نظام تصويتها.
وقد استغل الخصم هذه الاستقلالية، وسهلت عليه عمليات الاختراق التي أثبت الخبراء وجودها انطلاقا من عدة حقائق؛ أهمها أنه لا يوجد نظام تصويت مرتبط بشكل ما بالإنترنت لا يمكن اختراقه.

ثغرة الارتباط بالإنترنت.. قاعدة البيانات المكشوفة للعدو
يذهب الفيلم لتأكيد أن كل أنظمة التصويت المرتبطة بالإنترنت قابلة للاختراق، وذلك عبر كشفه حقيقة أن آلات تسجيل الأصوات تحفظ في ذاكرتها المعلومات المخزنة داخلها وبالتالي يمكن من خلال الوصول إليها خرقها وتغيير الأرقام وغيرها من المعلومات دون أن يدرك أحد من العاملين عليها ذلك، ويمكن بسهولة تغيير الأرقام المتشابهة مثل تحويل الرقم 906 إلى 960 وهكذا بقية المعلومات.
يجرب الخبير “هاريس” -الذي كان في السابق قرصانا إلكترونيا- أمام عدد من الحضور تغيير أرقام المصوتين في ولاية أمريكية عبر دخوله إلى ذاكرة آلة تصويت استخدمت في انتخابات سابقة وقيامه بتغيير معطياتها وسط دهشة الجميع.
يعرف “هاريس” خفايا ذلك العالم الغامض ويدعو من أجل كشفه إلى التعرف على طريقة تفكير القرصان الخصم، ولا يؤدي هذا الجانب العملي وظيفته كاملة من دون معرفة الهدف النهائي المراد منه.
يفسر عنوان الوثائقي جانبا من الفكرة، فالهدف النهائي من “سلسلة القتل” هو قتل النظام الذي تريد التخلص منه بسلسلة من الخطوات من بينها إشاعة الفوضى داخله، والإيحاء بأن ذلك النظام الديمقراطي تالف، وأنه في الجوهر غير ديمقراطي، وبالتالي فلا بد من استبداله بواحد آخر أفضل.
جيش القراصنة.. سلاح روسيا الأخير لمنافسة الغرب
ما يسعى الروس لتحقيقه عبر حروبهم السيبرانية ضد الغرب هو إثبات أن ديمقراطية الغرب فاشلة، ولهذا الغرض يستشهد الوثائقي بالاستراتيجي الروسي “فالاري جيراسيموف” الذي قال: لا يمكننا منافسة الغرب صناعيا ولا عسكريا، وفي هذه الحالة لا بد من اللجوء إلى الحروب السيبرانية فعبرها يمكننا تهشيم نظامهم السياسي، فعلينا مثلا دعم اليمين الأوروبي المناهض للوحدة الأوروبية وإسناد القادة اليمينيين في حملاتهم الانتخابية.
لن يتحقق هذا الهدف القاتل عبر عمليات الاختراق السري لآلات التصويت فحسب، بل عبر فتح حسابات وهمية في وسائل التواصل الاجتماعي وضخ معلومات مغلوطة وغير صحيحة من خلال فتح مواقع إلكترونية بأسماء وهمية يشرف عليها مركز إلكتروني يوجهها ويعمل على خلق تيار سياسي شعبي معارض للديمقراطية ومشكك بمبادئها.
“الكتاب الأبيض”.. فضح آثار التدخل الروسي في فنلندا
يراجع الخبير الفنلندي ما توصل إليه شخصيا بالتعاون مع بعض خبراء البرمجة والأمن الإلكتروني، ويظهر حجم التدخل الروسي في انتخابات عدة بلدان أوروبية حرص الروس خلالها على دعم وصول الزعامات اليمينية المناهضة للديمقراطية إلى دفة الحكم من خلال سلسلة قتل إلكتروني تحقق الأهداف النهائية المرجوة منها، وقد كانت فنلندا الجارة الصغيرة لروسيا من بين أكثر تلك الدول تعرضا لهذه الحروب السيبرانية.
وقد دفعت الخبير تجربته مع زميل له في كشف أساليب ومحاولات الاختراق الدائمة للأنظمة الإلكترونية الفنلندية من قبل قراصنة روس؛ إلى فضح هذه المحاولات في كتاب أسمياه “الكتاب الأبيض”، وفيه وثقا أسماء القراصنة الروس والشفرات المستخدمة والصفحات المسجلة بأسماء وهمية وغيرها من الحقائق الكاشفة لحرب لم تهدأ يوما، والغريب أن كل ذلك الفضح لم يغير من موقف الروس بل استمروا في محاولاتهم دون خوف.
مركزية الحرب السيبرانية.. يقظة الروس وغفلة الأمريكيين
تكشف مقابلات صناع الوثائقي لخبراء عالميين عن مركزية سياسية روسية للحرب السيبرانية يتمتع العاملون فيها بنفوذ وحماية قويين، وهذا ما دفع الوثائقي للعودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمعرفة الإجراءات الوقائية المتخذة ضدها.
يتوصل الخبير بمعية صناع الوثائقي إلى حقيقة أن أجهزة تسجيل أصوات الناخبين المستخدمة في الانتخابات الأمريكية قديمة جدا وغير محمية إطلاقا، ويرجع سبب ذلك بشكل أساس لشركات إنتاجها الخاصة التي لا يهمها سوى الربح على حساب النوعية، ومعها الشركات الخاصة المكلفة بتأمينها وتشغيلها خلال الانتخابات.
وقد كشف خبراء أمريكيون أن تلك الأجهزة على عكس الدعاية المرافقة لبيعها استخدمت في أكثر من ولاية ثم بيعت كخردة، وصار من السهل شراؤها مرة أخرى وبشكل شخصي من محلات إعادة التدوير بأسعار رخيصة.

“يمكنك الربط بالإنترنت عبر الضغط على الزر”.. فضح ادعاءات السياسيين
يشتري الخبير “هاريس” أحد الأجهزة المستخدمة في الانتخابات بسعر 75 دولارا، ثم يجري فحصا لها، وقد جاءت عملية الشراء والفحص كرد قوي على ادعاء السياسيين والمشرفين على الانتخابات الأخيرة أثناء استجوابهم في الكونغرس حول مزاعم بوجود تدخلات خطيرة خارجية حدثت أثناءها.
وأكد هؤلاء تقريبا بأن تلك الأجهزة لم تكن مربوطة بالإنترنت، وبالتالي فلا يمكن الوصول إلى المعلومات المخزنة داخلها، ولكن التجربة العملية تُكذب ادعاءاتهم، فما إن فتح الخبير آلة التصويت حتى ظهر على شاشتها سطر يقول:
“يمكنك الربط بالإنترنت عبر الضغط على الزر”، وبعد عدة دقائق وصل الخبير إلى ذاكرة الجهاز وكشف كل ما فيه بعد مرور سنوات على استخدامها.
يستعين الوثائقي بتجربة قرصان إلكتروني هندي الأصل استطاع الدخول إلى الأجهزة الخاصة بانتخابات ولاية ألاسكا والاطلاع على محتوياتها، وكان بإمكانه بيعها للروس الذين فاتحوه وطلبوا منه التعاون مقابل المال لكنه رفض ذلك.
“ريالتي وينر”.. ثمن تسريب الحقيقة الباهظ
لم يُكشف التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية عام 2016 عبر الوثائقي لوحده فحسب بل سبقته في ذلك عَميلة مخابرات تدعى “ريالتي وينر”، فأثناء عملها لاحظت ورود إشارات من جهات أمنية أخرى تشير إلى حدوث خرق خارجي لأجهزة تسجيل أصوات الناخبين في ولاية أمريكية، ولكن التقرير توقف عند نقطة “لكن القرصنة لم تتمكن من دخول الباب الخلفي”.
لم تسكت العَميلة وقامت بتسريب الوثيقة، فاعتبر رؤساؤها وبقية الأجهزة الأمنية ذلك تسريبا لمعلومات حساسة تعرض الأمن القومي للخطر، ونتيجة لتسريباتها دفعت الثمن غاليا، حيث سجنت خمس سنوات وطردت من العمل.

فوضى انتخابات ولاية جورجيا.. استغلال هشاشة الآلية الانتخابية
مما يزيد هشاشة آلية الانتخابات عدة نقاط من أهمها المصالح المشتركة بين شركات توزيع وتشغيل آلات التصويت وبين السياسيين النافذين في الولايات، إلى جانب الصراعات بين الحزبين الرئيسيين وعرقلتهما لكل خطوة من شأنها تغيير نظام التصويت الإلكتروني إلى ورقي وإجراء عمليات الفرز يدويا للتقليل من نسبة الخرق والقرصنة.
كما أن الاستفادة من هشاشتها ليس محصورا بالعدو الخارجي، بل تستثمره أطراف سياسية لصالحها تحسن استغلالها.
يوثق الفيلم المنافسة الشديدة التي جرت في الانتخابات المحلية لولاية جورجيا بين المرشح الجمهوري “براين كيمب” وإحدى المرشحات الديمقراطيات القويات، وقد انتهت المعركة لصالحه بعد فوضى عارمة برزت في اللحظات الأخيرة من زمن التصويت وجاءت نتيجة حدوث خلل في المعلومات الخاصة بالناخبين، مما دفعهم بعد طول انتظار وتأخير إلى ترك مراكز الاقتراع.
كانت المعطيات الأولية قبل حدوث الفوضى وتعطيل الأجهزة تشير إلى فوز محقق للمرشحة الديمقراطية، لكن فجأة جاءت النتائج لصالح المرشح الجمهوري، فكيف حدث ذلك؟
يحيل خبراء رياضيات ومبرمجون السبب إلى خرق إلكتروني، لكنه كان هذه المرة محلي الطابع، ومن نتائجه أن نسب الأصوات قد تغيرت وجاءت مغايرة للواقع، أما ثمن ذلك الخلل فقد حصده مدير شركة توزيع وتشغيل آلات التصويت المستخدمة في تلك المراكز الانتخابية، فقد عُيّن مباشرة مديرا لمكتب المحافظ الجديد.

تلاعب بالأجهزة أمام الكاميرا.. دعوة لتدعيم نظام ورقي
لمزيد من التأكيد على ضعف حماية أنظمة التصويت المستخدمة على نطاق واسع وفي كل الولايات تقريبا يطلب الخبير الفنلندي من مجموعة قراصنة اجتمعوا في قاعة صغيرة أثناء عقد مؤتمرهم السنوي فحص أجهزة تصويت اختارها عشوائيا من ولايات مختلفة لمعرفة درجة حمايتها، وبعد عدة دقائق استطاع القراصنة الدخول إلى ذاكرتها وتغيير معطياتها كما يشاؤون.
يلخص الخبير في الختام واقع الانتخابات الأمريكية بعبارات تشير إلى سهولة تعرضها لسلسلة قتل نتيجة الفوضى التي تعيشها مؤسساتها وضعف حماية أجهزة التصويت المستخدمة فيها، وينصح باستبدالها بأخرى ورقية تُفرز يدويا وبعيدا عن الشبكات الإلكترونية التي يشهد العالم عبرها حربا سيبرانية لا هوادة فيها.