“ألفينيات أمريكا”.. حروب وثورات في العشرية التي غيرت العالم

يطلق البعض على تسعينيات القرن العشرين ألفينيات أمريكا، لكونها تلك الفترة الرومانسية القصيرة التي اعتقد معها البعض أن حروب ومصاعب البشرية قد انتهت بسقوط جدار برلين، وانفراد قوة واحدة ووحيدة بريادة العالم، هي الولايات المتحدة الأمريكية.
انساقت الولايات المتحدة أيضا مع هذا الشعور الجامح، معتقدة أن كوكب الأرض بات بالكامل تحت مسؤوليتها، واتخذ ذلك طابعا أخلاقيا رغم أن ذلك العقد أيضا لم يخل من حروب مدمرة، كتلك التي شنّتها واشنطن على العراق في بداية التسعينيات.
إلا أن الهالة الرومانسية سرعان ما ستندثر مع بزوغ فجر الألفية الجديدة، فقد تبدّدت بالكامل بعد انهيار برجي مركز التجارة العالمية في أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبدا أن البشرية تعود من جديد إلى قلقها الوجودي الأصلي. لكن شيئا واحدا استمر على حاله، وهو تركيز لم يشهد له التاريخ مثيلا، للأحداث والتطورات السياسية والاقتصادية والعلمية التي ستنعكس على حياة البشر داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
سلسلة وثائقية من أربع حلقات بثتها “الجزيرة الوثائقية”، تحاول أن ترصد أهم وأكبر هذه الأحداث التي جرت في مجملها خلال السنوات العشر الأولى من الألفية الحالية.
انتخابات الألفين.. هدوء ما قبل العاصفة
رفع الستار عن الألفية الجديدة على مشهد انتخابات رئاسية أمريكية غير مسبوقة في شكلها ونتائجها، حيث أفرزت النتائج الأولية التي جرى اعتمادها وإعلانها من طرف كبرى وكالات الأنباء والشبكات التلفزيونية، عن فوز الديمقراطي “آل غور”، لتندلع معركة قضائية نادرة الوقوع في التاريخ السياسي الحديث لأمريكا، ولم تنته إلا بعد أكثر من شهر، بإعلان فوز حاكم ولاية تكساس، الجمهوري “جورج دبليو بوش”.
كان الأمر يتعلّق بنتيجة الانتخابات في ولاية فلوريدا التي أفرزت أرقاما متقاربة بين المرشحين الديمقراطي والجمهوري، كما سجّلت عدة مخالفات انتخابية في هذه الولاية التي لم يكن حاكمها سوى “جيب بوش”، الأخ الشقيق للمرشح الجمهوري، لكن المحكمة العليا حسمت الجدال القضائي برفض مطالب المرشح الديمقراطي بإعادة العد، وآلت مقاعد هذه الولاية للمرشح “جوج بوش” الابن، ليكون بذلك أولى مفاجئات القرن الجديد التي قدمتها أمريكا للعالم.
لم يسبق للنظام السياسي الأمريكي أن مر بذلك النوع من الاختبارات، حيث اضطر الأمريكيون ومعهم قسم كبير من الرأي العام العالمي، إلى انتظار معرفة اسم الرجل الذي سيحكم أقوى دولة في العالم لمدة تربو على الشهر، وكان ذلك أول علامة على دخول أمريكا مرحلة مختلفة، على الأقل حين تقارن بالمرحلة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية.
وعود الخطاب الأول.. حادثة تقلب وجه العالم
في أولى خطاباته الرسمية الموجهة إلى الأمريكيين، كان المراقبون يحاولون استنتاج أبرز التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية وهي على أعتاب الألفية الجديدة، فقد كان “جورج وولكر بوش” يتحدث عن تحدي عدم بقاء أي طفل بدون تعليم فوق التراب الأمريكي، وعن المخاطر التي تمثلها تكنولوجيا الخلايا الجذعية التي تستخرج من الأجنة، وما ينطوي عليه التعارض بين العلم والدين في بعض المواضيع، ليتوقّف كل ذلك فجأة وتتغيّر كل الأجندات والمخططات، على وقع مشهد استهداف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001، بواسطة طائرات مدنية مأهولة.
كان الرئيس “جورج بوش” يجلس مبتسما أمام أطفال في مدرسة “إيما إي بوكر” الابتدائية الواقعة في ولاية فلوريدا، حين جاء أحد مساعديه وهمس في أذنه منبئا إياه بما يحدث في مانهاتن، ومنذ تلك الساعة طوت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها العالم صفحة وفتحت أخرى جديدة ومختلفة تماما، خاصة أن مشاهد أخرى جاءت لتضاعف من قسوة المشهد، حين كانت طائرة أخرى تستهدف مقر وزارة الدفاع الأمريكية البنتاغون في قلب واشنطن.
حتى تلك اللحظة لم يكن ينظر إلى الرئيس “بوش” على أنه رجل ذو شأن، بل كانت الشكوك حول قدراته تراود حتى بعض الأوساط داخل الحزب الجمهوري، لكن بعد موجة الذعر والفزع التي أثارتها الهجمات تحوّل “بوش” الابن إلى قائد وطني يواجه إحدى أكبر الأزمات التي ضربت الولايات المتحدة في التاريخ الحديث. وحين كان يتوسط مجموعة من العمال وعناصر الإنقاذ غير بعيد من أنقاض مركز التجارية العالمي وخاطبه أحدهم قائلا “إننا لا نسمعك يا بوش”، ردّ عليه الرئيس قائلا: “لكنني أسمعكم ويسمعكم العالم كله، بمن فيهم هؤلاء الذين فجروا هذه البنايات”، وكانت تلك رسالة واضحة عن استعداد أمريكا لخروج جديد نحو العالم الذي طالما اختارت الانعزال عنه.

“حربنا ستبدأ بتنظيم القاعدة، لكنها لن تقف عند هذا الحد”
كانت الوجهة الأولى وشبه الفورية هي أفغانستان التي كانت تأوي تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن المشتبه به الرئيس في الوقوف خلف تلك الأحداث المروعة، وفي أولى اجتماعاته بمستشاريه وقادة المؤسسات الأمنية والعسكرية كان القرار واضحا: اجتثاث حركة طالبان من أجل التأكد من القضاء على القاعدة ومخابئها.
لم يتأخر “بوش” -ومعه أقرب مساعديه يتقدمهم نائبه “ديك تشيني”- في إعلان قرار القصاص من كل المنظمات والدول التي تعتبرها أمريكا داعمة لتنظيم القاعدة، أي أن اللائحة طويلة ومفتوحة. فقد قال حينها: حربنا ستبدأ بتنظيم القاعدة، لكنها لن تقف عند هذا الحد.
اتخذت الحرب الأمريكية على ما سمي بالإرهاب شكل الحرب الحضارية الشاملة، وصدرت قوانين أمريكية جديدة تمنح الجيش الأمريكي ووكالة المخابرات “سي آي إي” مطلق الصلاحيات في التعقب والتنصت والاحتجاز، في حرب كونية غير مسبوقة منذ هدأت البنادق والمدافع نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم مخاوف بعض الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية من هذه السلطات المطلقة، فإن السياق لم يكن يسمح بأكثر من إبداء التحفظ ثم التزام الصمت.
لم يتطلب إخراج حركة طالبان من العاصمة الأفغانية كابول أكثر من ستة أسابيع من القصف الأمريكي، لكن رحلة طويلة من التعقب والمطاردة انطلقت بعد ذلك، فقد بعثت إدارة “بوش” مجموعات مدربة من عملاء الـ”سي آي إي”، حاملين أكياسا من الأموال اشتروا بها خدمات عناصر من بعض القبائل الأفغانية، لتتولى عملية المطاردة مدعومة من طرف قوات أمريكية خاصة.
وبشكل تدريجي تركزت الهجمات الأمريكية على منطقة تورا بورا الجبلية، حيث كان يتحصن أسامة بن لادن، لكن القصة سرعان ما انتهت بفرار زعيم القاعدة نحو باكستان، وباتت الأنظار تتجه أكثر نحو العراق، رغم غياب أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة لنظام صدام حسين بالقاعدة أو عمليات 11 أيلول/سبتمبر.
سلاح العراق الكيميائي.. دعاية الحرب ضد محور الشر
أسست الولايات المتحدة الأمريكية معتقل غوانتانامو في جزيرة تابعة للسيادة الأمريكية لكنها لا تخضع لقوانينها، ونقلت إليه دفعات من الأشخاص الذين كان الجيش الأمريكي يعتقلهم في أفغانستان، مطلقا عليهم ألقابا تحرمهم من صفة أسرى الحرب، وقد بدا العالم بأكمله وقتها عاجزا عن القيام بأي رد فعل، حتى دول “العالم الحر”، فلم يحرك أحد ساكنا حتى وهو يشاهد أمريكا تتخلى عن مثلها القانونية والحضارية، وتقوم بممارسات تعتبر بدائية وغير إنسانية.
دون سابق إنذار أصبح العراق يحتل الصدارة في خطاب “جورج دبليو بوش” حول المعركة الشاملة ضد الأشرار، ويوجه إليه الاتهامات بالتخطيط لامتلاك السلاح البيولوجي واستغلال الجمرة الخبيثة وتطوير سلاح نووي، لتنطلق الحرب ضد “محور الشر” باستهداف النظام العراقي الذي لم تنجح حرب الرئيس “بوش” الأب في إسقاطه في حرب الخليج الثانية التي قادتها واشنطن إثر اجتياح العراق للأراضي الكويتية.
راح وزير الدفاع “دونالد رامسفيلد” يخوّف الأمريكيين ومعهم العالم من سيناريو هجمات مماثلة لأحداث 11 أيلول/سبتمبر بواسطة أسلحة دمار شامل ادعى أن العراق يملكها، بينما رددت الإدارة بصوت واحد أنها لن تنتظر مشاهدة سحابة تفجير نووي أو سلاح كيميائي كي يقتنع العالم ويوافق على استهداف العراق، ولم تفد تحفظات وزير الخارجية “كولن باول” في لجم اندفاع صقور الإدارة الأمريكية وقتها، من نائب الرئيس “ديك تشيني” ووزير الدفاع “دونالد رامسفيلد”.

وحدة الأمة الأمريكية.. معركة في الكونغرس لتفويض الحرب
حاول الديمقراطيون معارضة خيار الحرب في العراق، وخاضوا من أجل ذلك معركة داخل الكونغرس، لكن هذه المعارضة تلاشت تدريجيا أمام زخم الحشد الذي قام به البيت الأبيض من داخل صفوف الحزب الديمقراطي، وبات الجميع محرجا أمام ضرورة الحفاظ على وحدة الأمة الأمريكية في مواجهة تهديدات خارجية.
حصل الرئيس “بوش” في النهاية على تفويض الكونغرس لخوض المعركة في العراق، وذهب إلى اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في الذكرى السنوية الأولى لأحداث 11 أيلول/سبتمبر، معلنا اعتزامه استهداف العراق، ثم انتزع قرارا من مجلس الأمن الدولي يخيّر العراق بين قبول مهمة جديدة للمراقبين الدوليين أو “تحمّل العواقب”.
قبل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعودة المفتشين الدوليين، وراح هؤلاء يباشرون مهامهم بسلاسة وتعاون كبيرين، لكن واشنطن كان لها رأي آخر: لم يعد الوقت يسمح بانتظار انتهاء مهمة المراقبين، فالعراق يخفي أسلحته بإحكام وعلينا أن نتدخل.
سقوط بغداد.. ألاعيب المخابرات تحرك الجيوش
رغم تحفظات “كولن باول” الشديدة، فإن رئيس المخابرات المركزية الأمريكية “جورج تينت” انتهى إلى إقناعه بوجود أسلحة كيميائية وعناصر صالحة لصنع سلاح نووي في يد العراق، وذهب “باول” شخصيا إلى مجلس الأمن الدولي محاولا الإقناع بوجود روابط بين النظام العراقي وشبكة القاعدة، لكن كل المحاولات فشلت في إقناع مجلس الأمن الدولي، ليعلن الرئيس بوش في 17 مارس/آذار 2003، أن أمام صدام حسين ونجليه مهلة 48 ساعة لمغادرة العراق، أو مواجهة حرب أمريكية.
لم يستغرق الأمر إلا أقل من شهر بعد أولى الضربات التي وجهها الجيش الأمريكي إلى بغداد، لينهار النظام العراقي، ووصلت القوات الأمريكية التي زحفت انطلاقا من الجنوب إلى قلب بغداد بعد 22 يوما من انطلاق الحرب، لينتهي الأمر بمشهد الإطاحة بتمثال صدام حسين الكبير وسط العاصمة العراقية بغداد، إيذانا بنهاية نظام عاش أكثر من ربع قرن.
لكن بدلا من بشرى الديمقراطية والحرية التي رافقت الحملة الأمريكية، توقفت عقارب العراق منذ عمليات النهب والفوضى الأولى التي تلت دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد، ليغرق واحد من أكبر البلدان العربية في بحر من الدماء طيلة سنوات.
إرث “بوش” الابن.. سعي “هيلاري كلينتون” للعودة إلى القصر
بعد ولايتين متتاليتين للرئيس “جورج بوش” الابن كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية، تخللتهما الحرب الكونية على الإرهاب وحربان مدمرتان ضد أفغانستان والعراق؛ كان كل شيء في العام 2007 يشير إلى ضرورة حدوث تغيير، وعودة الإدارة الأمريكية إلى إيلاء اهتمام أكبر بشؤونها الداخلية، خاصة ملفات البطالة والصحة، في وقت كانت الأزمة المالية العالمية تضرب أطنابها.
اعتقد كثيرون يومها أن خطوة التغيير هذه سوف تقع على يد سيدة لم تكن غريبة عن البيت الأبيض، وهي “هيلاري كلينتون” زوجة الرئيس الأمريكي السابق “بيل كلينتون”، فقد كان البعض يراهن حينها على حدوث تغيير مزدوج، أي صعود الديمقراطيين للحكم بدل الجمهوريين، وانتخاب أول امرأة رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية، لكن مفاجأة أخرى كانت في الانتظار، حين تمكن السيناتور المنحدر من أصول إفريقية “باراك أوباما” من الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي بدلا من “هيلاري كلينتون”.
بنت سيدة البيت الأبيض السابقة حملتها الانتخابية على كونها كانت رافضة للحرب على العراق، وأنها لو كانت رئيسة مكان “جورج بوش” لما قامت بشنها، لكن الأمريكيين بدوا كما لو أنهم سئموا من النقاشات حول ما يحصل خارج حدودهم، وتوجهوا نحو “باراك أوباما” الذي وعد بالخروج من الأزمة وضمان التأمين الصحي للجميع.

“باراك أوباما”.. رحلة الرجل الأسود إلى البيت الأبيض
لم يكن “باراك أوباما” أقل معارضة للحرب على العراق من “هيلاري كلينتون”، وتفوّق عليها بأسلوب تواصله البسيط والمباشر ومخاطبته الفئات العمرية الشابة التي التحقت لأول مرة بقائمة الناخبين، مستعملا قوة الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية لحشد التأييد وجمع التبرعات، فقاده ذلك إلى الزحف على ولايات تكاد تخلو من الناخبين السود في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، مرددا على أسماع مؤيديه: “نحن أمة واحدة، نحن دولة واحدة”.
بعد فوزه بترشيح الحزب الديمقراطي، اختار أوباما السيناتور “جو بايدن” ليرافقه في معركة الترشح لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكي كنائب للرئيس، وقد كان الهدف من اختيار رجل مخضرم خبر كواليس السياسة الأمريكية هو سد الفراغ الذي يقول خصوم “أوباما” إنه يعانيه في هذا المجال. كما كانت مهمة “بايدن” الأساسية استمالة الناخبين البيض الرافضين لفكرة الرئيس الأسود، وطمأنتهم إلى أنه سيكون إلى جانب “أوباما” في البيت الأبيض.
في الجانب الآخر كان الحزب الجمهوري يقدم مرشحا لا يحوز حظوظا كبيرة للفوز، وهو السناتور “جو ماكين” الذي كان يقدم نفسه كحامل لمشروع التغيير وإن كان ينتمي إلى الحزب نفسه مع الرئيس المنتهية ولايته، جورج بوش الابن. وإلى جانب الناخبين البيض راهن “ماكين” على دعم النساء لكون الحزب الديمقراطي حرمهن من مرشحة للرئاسة، لكن “ماكين” لم يستطع -على غرار “هيلاري كلينتون”- التخلص من عبء اعتباره واحدا من رموز النخبة السياسية التقليدية التي حكمت البلاد طويلا.
كان انتخاب “باراك أوباما” بمثابة ثورة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية، بالنظر إلى الماضي الأليم للسود مع ممارسة العنصرية والعبودية في هذا البلد، وقد بحث مسلحا بشعار “معك نستطيع” فور دخوله البيت الأبيض عن تأييد الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بهدف إطلاق خطة إنعاش اقتصادي شامل للحد من تداعيات الأزمة المالية العالمية. لكن الرئيس الأسود الأول في تاريخ أمريكا اصطدم بواقع عنيد، إذ رفض الجمهوريون التصويت على خطته الاقتصادية، لكنه لم ييأس من تحقيق حلم راود الرؤساء الأمريكيين منذ عهد “ثيودور روزفلت”، بتمكين جميع الأمريكيين من الخدمات الصحية والتأمين الصحي.

“بيل غيتس”.. رائد ثورة وادي السيليكون
شهد العقد الأول من هذا القرن ثورة تكنولوجية هائلة وسريعة بشكل لا مثيل له عبر التاريخ، وكان الجزء الأكبر من هذه الثورة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بدأت القصة باختراعات وأجهزة غيرت نمط حياة الانسان، مثل البلاك بيري وكاميرا التصوير الرقمية والشاشات التي تعمل باللمس، ورافق ذلك كله نمو اقتصادي هائل مرتبط بالتكنولوجيا، إذ نشأ عمالقة جدد أسسوا نجاحاتهم بشكل خاص على الاستثمارات التكنولوجية.
قاد هذه الثورة أشخاص مثل “بيل غيتس” عبر شركته مايكروسوفت التي بنت مجدها على نظام التشغيل الخاص بالحواسيب وعدد من البرمجيات الأخرى، وكانت الشركة مع كل نسخة جديدة من نظام التشغيل “ويندوز” تعتبر أنها تمنح البشرية أعظم ما اختُرع عبر التاريخ، بينما كانت شركة آبل تبدو أمامها كلاعب فاقد للبوصلة رغم إنتاجاتها التكنولوجية، لكن شخصا مثل “ستيف جوبز” كان واثقا من قدرته على تحقيق معجزة مضادة، رغم أنه في بداية الألفية كان يحاول إنقاذ الشركة من الاندثار.
“ستيف جوبز”.. انتشال آبل من القاع إلى القمة
تحققت الانطلاقة الكبيرة لشركة آبل مع “ستيف جوبز” من خلال اختراعات جديدة مثل الآيبود الذي غير حياة الكثيرين حين سمح لهم بحمل أغانيهم معهم دون حاجة إلى أقراص مدمجة أو ما شابه، ثم تلا ذلك تأسيس آبل لمتجر إلكتروني يسمح بشراء الأغاني بطريقة قانونية.
لكن كان اختراع الآيفون بمثابة دمج سحري لثلاثة أجهزة في جهاز واحد، هي جهاز آيبود للاستمتاع بالموسيقى، وجهاز هاتف محمول، وجهاز ارتباط بالإنترنت، هكذا زف “ستيف جوبز” البشرى للأمريكيين ومعهم بقية العالم مستهل العام 2007.
وعلى ضفة أخرى من الاقتصاد كان رجل آخر اسمه “جيف بيزوس” يصنع مجد عملاق آخر اسمه أمازون، رغم بداياته الصعبة في سوق البورصة. وفي الوقت الذي كانت فيه شركات وادي السيليكون تعاني بين صعود وهبوط، تأسست شركة جديدة في كاليفورنيا غيرت من طريقة استكشاف الإنسان للعالم من حوله اسمها غوغل.
كان الأمر أشبه بالمعجزة، حين بات بين أيدي الناس محرك بحث يمكنه تصفح أكثر من أربعة مليارات صفحة موجودة في الإنترنت ليأتيهم بما يبحثون عنه بالضبط، وبطرح أسهم هذه الشركة الجديدة للاكتتاب عاش وادي السيليكون ولادة جديدة، وعادت الثقة إلى الذين كانوا يؤمنون بأن الإنترنت سيكون لها أثر السحر على حياة البشر.
عائلة الإنترنت.. ميلاد العملاق الأزرق والمارد الأحمر
تدريجيا راحت الرحم الخصبة للأنترنت تضع مواليدها الجدد، وعلى رأسهم فكرة الشبكات الاجتماعية التي تتلخص فكرتها في تمكين أي إنسان من نشر نصوصه وصوره وتقاسمها بنفسه مع الآخرين، بدلا من تحكم أصحاب المواقع الإلكترونية في عملية النشر بشكل كامل. وهكذا ظهرت منصات مثل “ماي سبيس”، ثم سرعان ما جاء فيسبوك الذي تأسس على فكرة التواصل المباشر بين الطلبة عبر أنحاء العالم، ليتسيّد المشهد. كان خلف المشروع شاب لم يتجاوز عمره 19 سنة اسمه “مارك زوكربرغ”، وبينما كان يراهن على بضع مئات من المشتركين في موقعه، فإنه فوجئ بمئات الآلاف يشتركون فيه ليولد بذلك العملاق الأزرق.
غير بعيد من ذلك من الناحية الزمنية، كان مارد آخر يخرج إلى الوجود، وهو موقع يوتيوب الخاص بتقاسم مقاطع الفيديو، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، أصبح بإمكان البشر إنتاج وتقاسم ومشاهدة مقاطع فيديو خارج ما يقدم لهم عبر شاشات التلفزيون والسينما، ومن هذه المنصة ولد الكثير من مشاهير ثقافة الإنترنت والفنانين، قبل أن يقدم العملاق غوغل على شراء هذه المنصة، لتصبح جزءا من إمبراطوريته التي تهيمن على العالم الرقمي حاليا.

أزمة العقارات.. وول ستريت يخذل اقتصاد العم سام
تعود جذور الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها العالم بدءا من 2008، إلى موجة توسع ملكية المنازل من طرف الأمريكيين التي انطلقت في بداية العقد الأول من الألفية ومنتصفه، وكان ذلك نتيجة لسياسة مقصودة من جانب إدارة بوش، حيث جرى إصدار قوانين تحفز على الاقتراض من خلال خفض معدل الفائدة، وبات عدد كبير من الأمريكيين يسارعون لشراء العقارات، لكن الخطر بدأ حين أصبح أغلب المقبلين على الشراء يفعلون ذلك بغاية إعادة البيع وتحقيق الأرباح، ولم يكن أحد يتوقع انهيار خرافة الاستثمار الخالي من المخاطر، أي الاستثمار في العقارات.
بدأ الانهيار حين تزايدت أعداد الذين يتخلفون عن الدفع بعد شرائهم البيوت بواسطة قروض بنكية، وباتت تدريجيا نسبة الخسائر تفوق الأرباح في هذا المجال. وكانت الفقاعة الأخطر هي التي تتعلق بالرهون العقارية عالية المخاطر، أي عمليات التمويل التي جرت لفائدة أشخاص ليست لديهم أي أصول أو عمل ثابت يمكنهم من سداد أقساط القروض.
ويفسّر إقبال شركات التمويل على هذا النوع من القروض بمردوديتها الكبيرة، حيث تفرض على المستفيدين شروط مرتفعة الكلفة نظير تمكينهم من القرض، وبدل بقاء عقود القروض والرهون في حوزة مالكيها الأصليين، جرى بيعها لشركات استثمار وفي البورصة، لتتحول الفقاعة المالية إلى كرة ثلج تكبر كلما تدحرجت أكثر، وعن طريق وول ستريت انتقل الفيروس إلى جميع أنحاء العالم ولم يقتصر على أمريكا.
هيمن القلق والتوتر على الأمريكيين على مدى شهور وأسابيع وهم يراقبون كبريات شركات التأمين والاستثمار المالي تتهاوى في البورصات، بينما تعجز الإدارة الأمريكية عن إنقاذ الوضع، لفداحة الخسائر في الأسواق من جهة، وللانقسامات السياسية في الكونغرس من جهة أخرى.
ونظرا لترابط الأسواق المالية الدولية، فإن ملايين الأشخاص عبر العالم أصيبوا بتداعيات الأزمة، لدرجة أن شعوبا كثيرة وجدت نفسها فجأة عاجزة حتى عن سحب الأموال من آلات الصراف الآلي لانعدام السيولة، وشعرت أمريكا بأن وول ستريت التي كانت مصدرا للفخر قد خانتها، وهو ما شكّل نهاية جديدة لدورة التاريخ المتكررة.