“أمريكا بعد 11 سبتمبر”.. تناقضات الرؤساء الثلاثة تثخن جسد الأمة الأمريكية
ردود الفعل الأمريكية على أحداث 11 سبتمبر العنيفة والانتقامية غيّرت العالم والمجتمع الأمريكي نفسه إلى الأبد، وبسببها شنت حروبا على أفغانستان والعراق، ومارست أساليب تعذيب شنيعة لأشخاص اقتيدوا من مناطق أخرى من العالم إلى سجون سرية، ورفعت أجهزة مخابراتها من درجة مراقبتها وتجسسها على الحياة الشخصية للمواطن الأمريكي آلاف المرات عما كانت عليه سابقا.
ردود أفعال عنيفة شوّهت صورة أمريكا وأحدثت انقساما حادا في صفوف مواطنيها، بحيث أضحى الحديث عن أمة أمريكية موحدة بعد 11 سبتمبر أمرا عسيرا.
ذلك التوصيف الدقيق للمشهد الأمريكي يأتي عن طريق خبراء عسكريين ومحللين سياسيين وصحفيين شاركوا في وثائقي “أمريكا بعد 11 سبتمبر” (America After 9/11)، للمخرج الأمريكي الحصيف “مايكل كريك”، ويحلل فيه آثار ما جرى خلال عشرين عاما من ارتباك سياسي وفوضى قرارات نتجت عنها ممارسات خاطئة عدائية، متأتية من خوف ورعب أشيع بتعمد بعد أحداث سبتمبر، وأدى عمليا إلى زعزعة مكانة الولايات المتحدة الأمريكية وغيّر نظرة العالم إليها.
مهاجمة مبنى الكونغرس الأمريكي.. نقطة النهاية
لعرض المشهد السياسي والاجتماعي المُتشكل بعد مرور عشرين عاما على أحداث 11 سبتمبر، يراجع فيلم “أمريكا بعد 11/9” أحداثا كثيرة لها صلة بما حدث، مُعتمدا على أرشيف ضخم من التسجيلات الفيلمية، وبوجود شخصيات مهمة لها دراية بما جرى، ولديها القدرة على تحليلها، فجاءت بمثابة مراجعة نقدية تاريخية لتلك الفترة الحرجة من تاريخ أمريكا.
يجد الوثائقي صلة قوية بين مهاجمة مبنى الكونغرس الأمريكي “كابيتول” يوم السادس من يناير/كانون الثاني عام 2021 وبين 11 سبتمبر، بل يعتبر الحدث الأخير بمثابة نقطة في نهاية الجملة الدراماتيكية التي بدأت كتابتها مع اللحظة التي أعقبت الهجوم على مركز التجارة العالمي ومقر البنتاغون، ومع نقل الرئيس السابق “بوش” سرا من ولاية فلوريدا بطائرة هليكوبتر إلى البيت الأبيض، وعلامات الخوف والارتباك ظاهرتين عليه.
غزو أفغانستان.. إعلان الحرب ضد تنظيم القاعدة
عقب خطابه إلى الأمة التف حول الرئيس “بوش” السياسيون من جمهوريين وديمقراطيين وغيرهم، وأعلن زعماء العالم تضامنهم معه وتنديدهم بما جرى. يُثَبت الوثائقي لقطة يظهر فيها قادة البلد وهم ينشدون نشيدا يتغنى باسم أمريكا ومجدها، ففي لحظتها ظهرت أمريكا موحدة ضد عدو واحد.
هذا المشهد لن يتكرر بعد سنوات، وعلامات تفككه ستظهر بعد مرور فترة قصيرة على إعلان إدارة الرئيس “بوش” أفغانستان هدفا مشروعا لعمليات الجيش الأمريكي، وما سيلحقها من نتائج كارثية، وقد بدت مُبررات الهجوم بداية لدى جميع سياسيي الولايات المتحدة مُبررة، لأن تنظيم القاعدة -حسب تقارير أجهزة المخابرات “سي آي أي” والبنتاغون- هو من خطّط ونفّذ الهجوم، وبإشراف مباشر من زعميه أسامة بن لادن.
بعد أسبوعين من الهجوم هبطت قوة خاصة من طائرة هليكوبتر حطّت فوق الأراضي الأفغانية، وكان بينهم “جاري شرويد” المكلف بعملية البحث عن زعيم القاعدة وتصفيته.
فشل الجيش الأمريكي.. قنابل الانتقام تدك جبال تورا بورا
يقدم خبراء عسكريون ومحللون سياسيون ما جرى من تطورات عسكرية أعقبت فشل القوات الخاصة في القبض على الهدف المراد. وكردّ فعل على الإخفاق راح الطيران يقصف جبال تورا بورا وكابل العاصمة بوابل من القنابل، ومن كل الأصناف، وعلى الأرض استعانوا بقادة من تجار الحروب الأفغان.
كل ذلك لم يمنع من انتقال أسامة بن لادن إلى باكستان حرا طليقا، أما إخفاقات الوضع الأفغاني فقد أحدثت انشقاقا في مواقف إدارات وشخصيات أمريكية مختلفة، بعضها طرح أسئلة عن طبيعة المهمة الأمريكية في أفغانستان وأهدافها، بعد ما ظهر من جهل وضعف في أداء الجهات المشتركة فيها، وبسببها فقد تحمل الشعب الأفغاني أثمانها، وأساءت لسمعة الجيش الأمريكي.
“ديك تشيني”.. عُقدة انتقام من “الجانب المُظلم” للعالم
لمزيد من التحليل ومعرفة الدوافع القوية للمضي قدما في سياسة التدخل المباشر في أفغانستان، يرجع الوثائقي إلى واشنطن ليعرض المشهد السياسي والأطراف الفعالة فيها لحظتها. وكان من بين أبرز الوجوه السياسية المتشددة في موقفها والمتحمسة لاحتلال أراضي الغير نائب الرئيس “ديك تشيني”، فقد كان -كما يرى المحللون والصحفيون- يعيش تحت تأثير عقدة الخوف والانتقام مما يسميه “الجانب المظلم” من العالم.
في المقابل كان الرئيس “بوش” منطلقا في توجهاته من فكرة تعارض قوى الخير مع الشر، ومن تعرض القيم الأمريكية لهجوم ظالم لا بد من محاسبة الواقفين وراءه، وعلى المستوى الشخصي كان يعاني من تأنيب ضمير لفشله كرئيس حاكم من منع الهجوم الذي راح ضحيته قرابة ثلاثة آلاف مواطن أمريكي.
كان “تشيني” مقتنعا تماما بضرورة مهاجمة “الجانب المظلم” بكل السبل الممكنة، بما فيها تلك التي تتعارض مع القوانين الدولية وتنتهك حقوق الإنسان، وقد سمحت نظرته الانتقامية لأجهزة المخابرات الأمريكية باعتقال شخوص من الخارج لمجرد الشبه، وأجيز لها سجنهم وتعذيبهم.
في معتقل غوانتانامو مارس المحققون أبشع أنواع التعذيب ضد السجناء. وبعد كشف ما يجري فيه من انتهاكات لحقوق الإنسان صار “غيتمو” (الاسم السري الذي يطلق على المعتقل) وصمة عار في جبين الولايات المتحدة الأمريكية، وعلامة على تجاوز قادتها الأعراف المنادين بها.
“الحرب على الإرهاب”.. فشل في أفغانستان يدفع لاحتلال العراق
ظلّ “ديك تشيني” وبمساعدة تقارير مضخمة من قبل أجهزة مخابرات تولى الأشراف عليها قادة متشددين مثله، من بينهم وزير الدفاع “دونالد رامسفيلد”؛ يدفع “جورج بوش” لاتخاذ مزيد من الخطوات التصعيدية.
كانت تصل للرئيس تقارير يومية غالبا ما يُسمع صدها في وسائل الإعلام، مثل “القاعدة تعد لامتلاك قنابل نووية”، وأنها تجهز في مختبرات سرية قنابل جرثومية، وأنها تخطط لهجمات جديدة بمساعدة زعماء عرب يدربون أعضاءها، ويشكلون معا خطرا جديا على أمريكا وقيمها.
كل تلك التقارير والضغوطات الهائلة في السر كانت تدفع الرئيس للمُضي في نفس خط “تشيني”، والعمل معه على تشكيل اللبنة الأولى لما سيسمى لاحقا “الحرب على الإرهاب”.
يُقوي الشعار مواقف التكتل اليميني المتشدد في الإدارة الأمريكية، وينتبه بعض المشاركين في الوثائقي إلى الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الأمريكية وحتى الرصينة منها في تقوية ذلك الطرف، وذلك يوم قرر خلق عدو جديد له يتستر على فشله في أفغانستان، وهذه المرة اسمه العراق.
أسلحة الدمار الشامل.. كذبة الحرب التي دمرت صورة أمريكا
تبنت كبريات الصحف الأمريكية قصة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وروجت لها قنوات تلفزيونية كثيرة. فقد صدقت مزاعم وزير الخارجية آنذاك “كولن باول” ولم تعارض فكرة التدخل العسكري الذي يذهب الوثائقي لعرض الكثير من تفاصيله، وما نتج عنه من فشل ذريع أدى إلى تقوية الحركات الإسلامية المتشددة، ووصول سياسيين عراقيين إلى الحكم على أساس طائفي ومذهبي.
أما صورة أمريكا بعد انكشاف أكاذيبها حول امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، فقد أظهرها بمظهر المخادع الذي لا يتورع عن فعل كل شيء في سبيل تحقيق أهدافه، وبالتعارض التام مع قيم الحرية والعدالة التي كشفت “فضيحة سجن أبو غريب” انتهاكا شنيعا لها.
ما بعد الحرب.. إرث سياسي ثقيل في مستنقع العراق
ورث الرئيس “باراك أوباما” وضعا سياسيا وعسكريا سيئا، وكان يريد أن يضع حدا له بالانسحاب من العراق وتركه في مهب الريح.
فعل “أوباما” ذلك في البداية وسحب قواته، لكنه بعد سيطرة داعش على مساحات كبيرة من الأراضي العراقية؛ عاد وأرسل جنودا لمحاربة التنظيم، ليجد نفسه ثانية متورطا في العراق مثل من سبقه.
ارتفاع أعداد القتلى بين صفوف الجيش الأمريكي خلال فترة حكم “بوش” وما تلا ذلك من تبعات لسياسة “أوباما” في أفغانستان، واعتماده بشكل خاص على طائرات “درون” من غير طيار لتصفية قادة التنظيمات المسلحة؛ ولدت ردود أفعال عكسية داخل المجتمع الأمريكي وفي العالم، فقد بدأ الناس يدركون حجم الكارثة التي يتسبب بها السياسيون، وفداحة انعكاساتها داخل أمريكا.
“أوباما”.. يد تحمل جائزة السلام وأخرى تقصف
زاد الفشل العسكري من مستويات الكراهية والعنف داخل المجتمع الأمريكي، فانتشرت ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، وكثرت الهجمات ضد الأجانب والمسلمين، وفي المقابل خرجت إلى الشوارع مظاهرات سلمية تدعو لوقف العنف وإدانة التدخل الأمريكي في مناطق أخرى من العالم.
أحالت نظرية “الخير والشر” التي وضعها “بوش” الوضع الأمريكي بعد سنوات قليلة إلى كارثة، حتى أن نيل خلفه “أوباما” جائزة نوبل للسلام أضحت مدعاة للسخرية، لأنها منحت في الأصل على أساس تعارض سياساته المعلنة مع توجهات اليمين الأمريكي، لكن الوقائع أثبتت عجزه عن تجاوزها، وأيضا خضوعه لمشيئة الأجهزة الأمنية التي منعت عليه إغلاق “غوانتانامو”، أو الانسحاب الكامل من العراق وأفغانستان.
الرجل الذي أعلن مرات ومرات رغبته في عدم التدخل في شؤون الغير أعلن عن إيمانه بـ”ضرورة الحرب أحيانا”، ووجد نفسه يوافق على تصفية أسامة بن لادن في باكستان، ويستخدم الطيران المسير على نطاق واسع، وهو ما أدى إلى سقوط مزيد من الضحايا بين المدنيين الأبرياء.
انعكست الحروب وانتهاك حقوق الإنسان على الوضع الداخلي الأمريكي، وعمّقت من انقساماته التي راهن عليها الرئيس “دونالد ترامب”، وعمل على استغلالها لمصلحته.
“ترامب”.. عنصرية تمس الرئيس وتهدد الوحدة
عزز “دونالد ترامب” مشاعر الخوف من الآخر، ودعم فكرة محاربة “الجانب المظلم” من العالم، لكنه أراد تطبيقها في الداخل أكثر من الخارج، فقد أشاع الأفكار العنصرية والخوف من المهاجرين والمسلمين، حتى الرئيس “باراك حسين أوباما” لم يخلص منها، فقد أشاعت الصحافة اليمينية كذبة عن تربيته الإسلامية، وانحيازه للمسلمين على حساب الأمريكيين والبيض. لقد روج “ترامب” لهذه الفكرة بنفسه أثناء حملته الانتخابية، ليضفي مزيدا من الانقسام على المشهد الأمريكي الممزق أصلا.
أما على مستوى التعامل مع السجناء المشتبه بهم والمحتجزين في “غيتمو”، فقد أعلن صراحة تأييده للأساليب المستخدمة ضدهم. وفي مقابلة تلفزيونية يثبتها الوثائقي يعترف بتأييده للتعذيب المستخدم هناك، وحرصه على إبقاء السجن موجودا، إلى جانب موافقته على استخدام الطائرات من دون طيار، رغم أنه حاجج بها “أوباما” وانتقدها بشدة أثناء حملته الانتخابية.
أسهم التناقض في المواقف بين ليلة وضحاها في تعميق انعدام ثقة الشعب الأمريكي بقياداته وسياسييه، وقد تجسد ذلك في اللحظة التي دخل فيها مؤيدو “ترامب” إلى الكونغرس الأمريكي، وجاء كإعلان عن فشل سياسي ذريع بدأ مع أولى الخطوات الانتقامية التي اختطها “بوش” وإدارته بعد أحداث سبتمبر، ولم تنته خلال عشرين عاما.
أمر يثير أسئلة عن الحلول المطلوبة لتصحيح مسار الديمقراطية وأساليب الحكم في أمريكا يحملها الوثائقي إلى المشاركين فيه، فأغلبيتهم يشددون على ضرورة الشروع بمراجعة حقيقية وشجاعة لكل ما جرى بعد 11 سبتمبر، وتشخيص الأخطاء والسياسات التي أدت لوصول أمريكا إلى ما وصلت إليه اليوم من افتراق وانقسام يهدد وجودها كأمة، إلى جانب تهديدها الجدّي للسلم العالمي والقيم الإنسانية.