“أمي.. أنا بالمنزل”.. الأم التي وقفت في وجه “فاغنر” الروسية
يبقى الفراق من أكثر الأحاسيس البشرية إيلاما، يختلف وقعه من شخص لآخر، ومن خلال هذا الاختلاف يكبر الألم أو يصغر، لكن هذه المقاييس لا يمكن إسقاطها على شعور الأم ووجع فراقها عن ابنها، خاصة إذا كان فراقا أبديا لن يمكّنها من رؤية فلذة كبدها. وهو ما حدث للأم تونيا الروسية التي أرسلت ابنها للحرب في سوريا، بعد أن انخرط في فرقة المرتزقة “فاغنر” التي تتاجر بالحروب لتكسب المال وتغير الخرائط السياسية، وهي الفكرة التي ركّز عليها هذا الفيلم الجريء الذي كسر “تابو” يصعب التعرض له في روسيا.
“فاغنر”.. خفايا الفرقة الروسية التي بقيت “تابوها”
بعد فيلمه “الأنهار العميقة” ذهب المخرج الروسي فلاديمير بيتوكوف (مواليد 1985) في فيلمه الروائي الطويل الثاني الجديد “أمي.. أنا بالمنزل” (Mama, I’m Home) (من إنتاج 2021) صوب موضوع معقّد يعتبر من “التابوهات” التي يصعب الاقتراب منها في روسيا، والحديث هنا عن المرتزقة الروس المعروفون باسم “فاغنر”، وهي فرقة عسكرية روسية غير نظامية مشكّلة من جنود متقاعدين وشباب يبحثون عن الربح السريع، ترسلهم روسيا للعديد من المناطق الساخنة في العالم من أجل تغليب طرف على آخر، وتغيير الخرائط السياسية في تلك المناطق التي تشهد الفوضى والحروب والمواجهات الدامية.
وقد سبق للعديد من الجهات والمنظمات والدول أن اتهمت روسيا بتشكيل هذه الفرقة العسكرية من المرتزقة وإرسالها للعديد من الدول، وقد سببت المآسي في كل منطقة تدخلها، من بينهما ليبيا وسوريا، وجهات أخرى في أوروبا الشرقية.
لكن روسيا لم تعترف بوجودها، وأكثر من هذا تتعامل مع الأمر ببرودة كبيرة، ولقد جاءت مغامرة هذا المخرج الشاب في ثاني تجاربه السينمائية ليقوم بتفكيك هذا الموضوع، وإظهار حقائق وجود هذه الفرقة العسكرية غير النظامية، وذلك عبر سرد قصة مليئة بمشاعر الحزن والألم والخوف والترقب تتعلق بعلاقة الأم “تونيا” (كيسينيا رابوبورت) مع ابنها الذي قُتل في أتون الحرب الجارية في سوريا.
والعبثي في الموضوع أن الأم هي التي حرّضت ابنها لينخرط في فرقة “فاغنر” من أجل وظيفة تُدرّ عليه المال ليواجه بها البطالة وقلة الفرص في مدينته، لكن ابنها قتل ولم يتمكنوا حتى من استرجاع جثته، ولا يمكنهم أن يعلنوا الخبر بسبب اتفاق السرية، ولا يمكن أن يتم الاحتفال به وبإنجازاته حسب ما قال رئيسه، فقط أعطوا أمه رزمة مال مع وسام شرف مُزوّر غير معترف به، وتهديدات بعدم البوح بهذا السر لأي طرف من خلال وثيقة السرية.
خيار المواجهة.. الأم تصعّد وفاغنر تناور
رغم أن الأم “تونيا” هي من أرسلت ابنها ليحارب مع المرتزقة في سوريا، ووقعت وثيقة تفيد بسرية هذا الانخراط وقبضت المال بعد وفاته، فإنها قررت إعلان الحرب وتفعيل خيار المواجهة، لأنها باتت تعتقد أن ابنها لا يزال على قيد الحياة، ولهذا كانت بدايتها من خلال الخيارات السلمية والمؤسسات الرسمية المعترف بها في روسيا، فقد قدمت شكوى للعدالة، واستفسرت لدى وزارة الدفاع الروسية، وسألت عنه في العديد من المؤسسات، لكن كل هذه الجهات نفت الأمر، لأن “فاغنر” غير موجودة بشكل رسمي بالنسبة لهم، وبالتالي عادت إلى نقطة الصفر.
لكنها لم تسكت طبعا، وبدأت تُصعّد الموقف، وأخذت تُنظّم وقفات احتجاجية أمام المقرات الحكومية، وترفع شعارات وصور ابنها وتنادي بإرجاعه لأحضانها. هذا كله أمام عدسات الكاميرات التي سيتم احتواؤها لاحقا قبل بث الخبر في نشراتها.
وقد أثار هذا التحرك “فاغنر” التي حاولت استمالة الأم بكل هدوء، لكن الأم ركبت رأسها وطالبت بإرجاع ابنها من سوريا لأنه في نظرها لم يمت. غيرت فاغنر طريقتها، فمن أجل احتوائها أرسلوا لها شابا غريبا (يوري بوريسوف) على أساس أنه ابنها الغائب الذي تنادي به، وبثوا تقارير تلفزيونية، وقالوا إن الأم مجنونة ومهووسة، فابنها معها وهي تبحث عنه. وقد لازمها هذا الغريب في البيت، أصبح لا يتركها بمفردها مهما كان الأمر، حتى يحتويها ويضمن بأن لا تأتي بأي حماقة تغضب رؤساءه، لكن الأمر تغير بعد أن نشأت علاقة عاطفية بين الأم “تونيا” وهذا الشاب الذي تحوّل تقريبا إلى ابنها والعكس صحيح، فقد بات ينظر له هو الآخر كأنها والدته، وذلك انطلاقا من شعور الفقد واليأس والوحدة الذي يعاني منه بسبب الحياة التي عاشها، فلديه العديد من القصص التي حدثت له في الماضي، لهذا قرر الوقوف مع الأم في خطواتها لتثبيت موقفها من الفقد واليأس.
ومن بين المواقف التي قام بها ذهابه لطليقها الذي سرق لها رزمة المال من البيت، حيث أخرجه من منزله وضربه وانتزع منه سلاحه وأعاد لها رزمة المال، أي أن العاطفة التي بينهما أصبحت أكثر قوة، لأنه أراد من خلال خدمتها أن يُكفّر عن الأفعال التي ارتكبها خلال خدمته مع فاغنر.
مواجهة مُحتدمة.. الأم تصارع قوى الشر
لم تستطع “تونيا” العودة لحياتها الطبيعية القديمة، فقد أهملت وظيفتها كسائقة حافلة مهترئة لنقل المسافرين في القرى الصغيرة، وأصبحت بلا عمل بعد أن طردها رئيسها بسبب مشاكلها، لتتخذ خيار المواجهة الكبرى، حيث أخذت الحافلة واعترضت طريق أحد المسؤولين الكبار، وذلك بعد أن ركنت الحافلة وأغلقت الأبواب على نفسها.
حاولت الشرطة بكل الطرق ثنيها عن هذا الفعل الخطير، لكن كل محاولاتهم باءت بالفشل، إلى أن وصلوا إلى محاولة قتلها وتلفيق أي تهمة لها، لكن الشاب الغريب أنقذها في آخر لحظة، وأحرقوا حافلتها فيما بعد، واقتربوا من النيل منها، ولم تتوقف “تونيا” عن محاولاتها للتعريف بقضية ابنها وتجريم فعل فاغنر.
لهذا أرادت الانسلال أثناء الليل والذهاب إلى أحد البيوت القديمة للكتابة على جدرانها الداخلية عبارات تلفت نظر أحد الشخصيات المهمة الذي سيزور هذا البيت الأثري، لكن الشاب الغريب منعها وقام هو بهذه المهمة، وتعرّض لإطلاق نار كثيف من أجلها.
ورغم كل ذلك لم تتوقف تونيا عن المواجهة، بل أصبح موتها ضروريا في نظر كثير من المسؤولين، وباتوا يبحثون عن طريقة لتنفيذ الأمر، لكن تونيا بقيت عنيدة، وأصبح الأمر في نظر الكثيرين عبارة عن مواجهة محتدمة بين المرأة وقوى الشر.
القدرة على التغيير.. من قلب حجري لا يرحم إلى محب حنون
قدّم المخرج “فلاديمير بيتوكوف” قصته باشتغال سينمائي بالغ الحساسية، وذلك تماشيا مع طبيعة أحداث العمل وخصوصيته، حتى إن وتيرة الفيلم كانت تتقدم ببطء شديد خدمة للمشاعر المختلفة التي صاحبت العمل، وبالتالي انسجم الطرح مع تركيبة القصة المختلفة والراهنة.
وقد أظهر المخرج فلاديمير -الذي استعان بكاتبة السيناريو “ماريا إيزيوموفا”- موهبة سينمائية استثنائية، وأكثر من هذا أظهر موقفه من الأحداث السياسية الراهنة التي تحدث في العالم عن طريق كشف وفضح آلية من آليات القتل والتخريب وزراعة الفوضى في بؤر المواجهة، وهذا من داخل بلاده روسيا، وليس خارجها حيث حقق فيلمه.
من هنا يزداد موقفه قوة، وقد أظهر من خلال الأم تونيا صلابة المرأة وشجاعتها في مواجهة الأهوال التي تحدث، وقدرتها الخارقة على التغيير والمواجهة إن أرادت ذلك، بوصفها ركنا مهما في بناء المجتمع وتفكيكه، وانطلاقا من فكرة أن الفرد يبحث دائما على نور يرشده ويدله لنهاية النفق. وقد عكست هذه القدرة الكبيرة على التغيير، فهي وإن لم تستطع أن تُغيّر نظاما، فإنها غيّرت قلبا حجريا كان لا يعرف الحب ولا الرحمة، فتحول بفضلها إلى قلب نقي يضحي في سبيل أن يرى على وجهها ابتسامة الأم التي ضاعت وسط هذه المآسي.
ولقد قال عنها المخرج خارج سياق الفيلم “تونيا هي المرأة التي تسكن المنزل المجاور لك بغض النظر على أي بقعة تعيش أنت في العالم”، بمعنى أن تونيا أقرب لنا مما نتخيل، وهذا ما يثبت ويؤكد مرجعية المخرج “فلاديمير بيتوكوف” ووعيه بما يحدث.
من هنا تظهر أهمية هذا العمل الذي اختير في العديد من المهرجانات السينمائية -من بينها مشاركته في مهرجان الجونة السينمائي في الدورة الخامسة (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021)- كخيار رسمي خارج المسابقة.
تعددت جماليات الفيلم في العديد من عناصره، أهمها التصوير (كسينيا سيريدا) الذي نقل جمال الطبيعة الروسية وهدوءها، واستطاع أن يبرز ملامح الشخصيات وتقلباتهم المختلفة مع كل حدث، إضافة إلى الصياغة السردية التي قلّبت الموضوع من كل اتجاهاته حتى يسهل تقبله وتلقيه من طرف الجمهور الذي فهم القصة وأبعادها السياسية بشكل دقيق، خاصة مع احترافية الممثلين وأدائهم المبهر، وأذكر منهم الممثل الشاب “يوري بوريسوف” الذي يعرف كيف يتلاعب بملامح وجهه انطلاقا من كل فعل عاطفي من أفعال الفيلم، حيث عكس القسوة والغضب والهدوء وحتى الحزن الدفين والندم.
هذه الاحترافية سمحت له بالمشاركة في العديد من الأفلام الروسية الأخرى وفي السنة نفسها، فقد مثّل في أعمال غير روسية، ومن اللافت أن يعرض مهرجان الجونة في مختلف مسابقاته الرسمية ثلاثة أفلام كان يوري بطلا فيها، من بينها فيلم “هروب الرقيب فولكونوغوف” للمخرجين “ألكسي تشوبوف” و”ناتاشا ميركولوفا”، وفيلم “مقصورة رقم 6” للمخرج “يوهو كوشمانين”، وقد حقق هذا الفيلم الذي حمل الجنسية الفنلندية نجاحا عالميا لتكون هذه المعطيات مؤشرا قويا على قوة هذا الممثل وتميزه، إضافة إلى نفس القوة التي عكستها “مايا فاندربيك” وبقية الممثلين، ليكون فيلم “ماما.. أنا بالمنزل” من الأفلام المهمة التي صدرت سنة 2021.