“حكاية العربي الأخير”.. تنبؤات اندثار الأمة العربية

“سكان أريبيا لم يكن لهم حتى حظ تجميعهم وحمايتهم مثل الهنود الحمر، يتآكلون في عزلة الرمل ويأكل بعضهم بعضا، والمنتصر منهم يموت اليوم عطشا وجوعا في أرض امتصت كل شيء، ولم تعد تنجب إلا الموت”. من رواية “2084.. حكاية العربي الأخير”، للكاتب “واسيني الأعرج”.
رواية المثيرة للجدل على امتداد الساحة الثقافية العربيةن أفردت لها الجزيرة حلقة من برنامج “خارج النص”، واستضافت لمناقشتها كاتبَها الجزائري “واسيني الأعرج”، برفقة ثلّة من النقّاد والباحثين والمهتمين بالنتاج الأدبي العربي، والذين أوسعوها دراسة ونقدا، وتباينت آراؤهم حولها بقدْرِ التناقضات وألوان الظل والنور في الرواية نفسها.
رمال أريبيا القاحلة.. بين بطش أميروبا وغدر أزاريا
تحكي الرواية التي خطَّها واسيني الأعرج حكايا الموت وانتهاء تفاصيل الحياة، وتتحدث عن اندثار أمة العرب واضمحلال تاريخها، ويستشرف كاتبها من خلال “2084.. حكاية العربي الأخير” فداحة المستقبل الذي ينتظر العرب، في سردية لا تنفصم عن الواقع العربي بعد ثورات الربيع العربي.
تصوِّر الرواية المنطقة العربية (أريبيا) وهي تتلاشى، ويموت سكانها العرب تحت وطأة الجوع والموت وقتلِ بعضهم بعضا، فيما يتربص بهم عن قرب سكان قلعة “أميروبا”، التي ترمز للتحالف الأوروبي الأمريكي الذي استنزف ثروات أريبيا، ويمتص دماء أريبيا كيان مزروع في وسطها يدعى “أزاريا” الذي يرمز لإسرائيل.

وقد تباينت آراء النقاد بشأن الرواية، فقال عنها الشاعر سلطان القيسي: “المتابع لمشروع واسيني يدرك أنه بين الفترة والأخرى يصدر رواية معتمِدة على رواية أخرى، والأمثلة كثيرة؛ لدينا “أصابع لوليتا”، ولدينا أخيرا هذه الرواية التي يذكرنا عنوانها مباشرة برواية “1984” لجورج أورويل، لكن بتوجهات ومعطيات ونتائج مغايرة تماما، بحيث يمكن وصفها بأنها موازية لرواية أورويل وليست تقليدا لها”.
ولم تسلم الرواية من نقد لاذع أحيانا، فهذا جمال الدين طالب، الكاتب والصحفي يقول: “ليس في الرواية بصمة خاصة، بل يغلب عليها الكثير من الحشو والتسمين بغير داع، ربما استطاع واسيني إضافة بعض الخطوط والألوان للتسويق على أنها رواية عربية أصيلة، ولكنها في الحقيقة سلعة مقلَّدة. هذه الفكرة “الديستوبية” ليست من نتاج واسيني وحده، بل تكررت في أعمال الكثير من الكتّاب قبله”.
2084.. بين الاتهام بالتقليد والتعرض للسرقة
صدرت الرواية عام 2016، وأثارت جدلا واسعا عبر منصات الثقافة العربية، بداية من اتهامها بسرقة وتقليد مشروع أورويل، وانتهاء باتهام أعمال أخرى بأنها قامت بسرقة مشروع واسيني الأعرج، منها مسلسل تلفزيوني مصري حمل عنوان “النهاية” وتم بثه في شهر رمضان عام 2020.
وقد اتَّهم واسيني صناع المسلسل بسرقة مضمون روايته، وقبل ذلك اتهم الروائي الجزائري “بوعلام صنصال” فور صدور روايته “2084.. نهاية العالم”، وهو الاتهام الذي عدل عنه واسيني الأعرج لاحقا.

عن ذلك يقول الأعرج: “اتصل بي مجموعة من الشباب العربي، ممن كانوا قرؤوا روايتي وشاهدوا مسلسل “النهاية”، وقد لاحظوا وجود تقاطعات عديدة بين المسلسل والرواية، فاضطررت لمشاهدة بعض حلقات المسلسل وقد وجدت تقاطعات غريبة بالفعل، في التفاصيل وفي النهايات، طبعا كان هنالك حشو كبير وتفاصيل درامية كثيرة لمحاولة طمس السرقة، ولكنها لم تفلح”.
من جهته، أثنى د. محمد عبيد الله، عميد كلية الآداب والفنون في جامعة فيلادلفيا الأردنية على الرواية بالقول: “مشروع واسيني لا يمكن وضعه في إطار التقليد، بل الإضافة والتجديد، بمعنى تكييف هذا الشكل الغربي المنجَز مسبقا ليتلاءم مع مضمون عربي جديد، وهذا أعطى لونا مختلفا، إضافة إلى أن هذه الرواية جاءت في فترة النضج الأدبي المتقدم للكاتب الأعرج”.
الشخوص.. عالم نووي وجنرال مختل
تبدأ فصول الرواية بحدث مفصلي، وهو حبس بطل الرواية العالم النووي العربي “آدم غريب” في قلعة أميروبا التي زرعها الغرب الاستعماري في قلب أريبيا، ونَصّب عليها قائدا مختلّا هو الجنرال “مالكوم بلير” الملقب بـ”ليتل بروز”، حيث اختار هذا اللقب تيمنا بشخصية “الرفيق الأكبر” في رواية أورويل 1984.

وقد استُدرج آدم إلى القلعة من أجل تصنيع قنبلة صغيرة (بوكيت بمب)، يكون تأثيرها محدودا يطال أفراد التنظيم الإرهابي فقط، دون الإضرار بالمدنيين العرب. ويغوص واسيني في ذكر تفاصيل غرفة المراقبة في القلعة الحصينة، حيث يراقب الجنرال كل صغيرة وكبيرة في أرض أريبيا، ولا يغفل أن يراقب كل تقلبات آدم في محبسه الضيق.
سكّان أريبيا.. جدلية الإبداع الفردي والانسياق الجماعي
بالعودة إلى آراء النقاد بشأن الرواية، تقول د. رشا جليس الباحثة في المعهد الفرنسي للأبحاث في عمّان: “في احتياج أميروبا إلى خبرة وذكاء آدم في تصنيع قنبلة انتقائية، أراد واسيني أن يثبت تفوق العقل العربي المفرد وذكاءه، ولكنه في الوقت ذاته أراد إبراز حقيقة أن هذا العقل مكبل وعليه قيود عديدة في محيطه العربي”.
ويضيف د. عبيد الله: “تصنف هذه الرواية من النوع الكلّي أو الشمولي، وهو النوع الذي يصعب على الكاتب كما القارئ التعاطي معه، فهو يريد أن يقول كل شيء، وفي الواقع يقول شيئا قليلا أو قريبا من اللاشيء، فهو مطالَب أن يتحدث في الاقتصاد والعلوم والسياسة والحروب ودواخل النفس وقضايا أخرى كثيرة، والكاتب هنا يريد أن يتحدث عن الحالة العربية بكل معطياتها وتجاذباتها”.

يصور واسيني المآلات التي أفضى إليها العرب بشكل قاسٍ وصادم، فهم جياع وعطاشى، ومستعدون لقتل بعضهم من أجل شربة ماء، وتعطف عليهم أميروبا بالطعام والشراب لمن يستطيع أن يصل إلى أسوارها، فيركضون إليها منساقين مستجدين، يدوس بعضهم بعضا في لوحة تصل إلى الحدود القصوى من البؤس والديستوبيا.
ثم تصف الرواية مشهد تدافع سكان أريبيا على الطعام، والدهشة التي تصيب آدم وهو ينظر إلى قومه يتصارعون بهمجية على اللقيمات، حتى إن أكثرهم لم يجلس على المقاعد التي أعدها سكان أميروبا للجلوس، وعلامات الدهشة بادية على آدم وهو يقول في نفسه: يا إلهى، أهؤلاء قومي الذين كانت الأنفة والعزة أهم صفاتهم؟!
يستوحي واسيني هذه الصور المريعة من التاريخ القريب للعرب، ففي أثناء الحرب العالمية الأولى أغرى الأوروبيون العرب بالثورة على العثمانيين من أجل الحصول على الاستقلال والحياة الفضلى، ولكن هذه الوعود والأحلام ذهبت أدراج الرياح، وتشظّى العرب ومُزِّقوا بعد الحرب كل ممزق.
أما جمال الدين طالب فتابع نقده للرواية قائلا: “بالغ الكاتب في إعطاء البعد البوليسي للرواية، واستخدم التطرف الديني والجماعات الإرهابية في إيحاءٍ للأخطار التي تتهدد العرب، وأغرق في استخدام الصور التشويقية من أجل إضفاء طابع من الاهتمام وترقُّب الأحداث، بما حمّل الرواية من الحشو أكثر مما تحتمل”.
علاج بالصدمة.. الشوك لا يُزهِر وردا
أراد واسيني توجيه صفعة قوية للقارئ العربي، وقد تحدث أكثر من مرة عن أسلوب العلاج بالصدمة، وعالج في روايته علاقة الشرق المهزوم بالغرب المحتل، الذي يحاول تسويق الشعارات الناعمة في المنطقة العربية مقابل سلب ثرواتها واستغلال شعوبها لخدمة أهدافه، ثم التخلص منهم بطريقة بشعة.
وظهر هذا واضحا في الرواية عندما استخدمت أميروبا قنبلة الجيب التي صنعها العالِم العربي آدم في قتل من تبقى من سكان أريبيا، وكانوا أوهموه أنهم إنما أرادوا منه تصنيعها للقضاء على الجماعات المتطرفة فقط.

وكما أن المآلات غالبا ما تشبه البدايات، فإن هذا الواقع الكئيب الذي يعيشه العرب في أوطانهم لن يزهر ربيعا، بل خريفا أسود مجردا من كل أشكال الحياة، وواقعٌ مظلم مثل هذا استدعى من ذهن الكاتب خيالا عصيبا أشد سوادا من هذا الواقع المؤلم. وإذا لم تكن هنالك مبادرة عربية للنهوض، فلن تأتي المساعدة من أي جهة أخرى، فهم يسرقون فقط بدون عطاء.
بصيص أمل.. انقاذ ما تبقى من رماد الذئب
تباينت آراء القراء إزاء رواية العربي الأخير لواسيني الأعرج، فمن قائلٍ إن الرواية أغرقت في التفاصيل إلى حد الملل حتى بات تَتابُع الأحداث ثقيلا بطيئا، وبالغ الكاتب في الوصف على حساب السرد، إلى رأي يقول إن كل تفصيلة كانت في محلها وضرورية لإثراء الفكرة، وإن هذا النوع من الروايات غير النامية -أي التي لا تنمو فيها الشخصيات ويكون زمنها قصيرا- فإنها تحتاج إلى وصف أكثر.
ينهي واسيني روايته بشكل مفتوح، فلا أحد يعرف مصير العربي الأخير آدم، ولم يقدم الكاتب بصيص أمل لنجاة أريبيا من الموت المحتم، في ظل وجود الكيان الغريب “أزاريا” في قلب أريبيا، ونهبه لمياهها وخيراتها، والتلذذ بقتل سكان أريبيا الواحد تلو الآخر.

فيما يتابع جمال الدين طالب هجومه على الرواية بالقول: “لا أحد يشكك في قدرة واسيني الأعرج على الكتابة، ولكن المتابع لأعماله يجد أنه يسوِّق سلعة معينة في موسمٍ رابح، كأنه يقدم برنامج ما يطلبه الجمهور، بل ويتماهى كثيرا مع الطيف السياسي الرائج والمزاج الشعبي الطاغي، فتراه مرة يشيطن الربيع العربي، وتارة يتراجع”.
وعلى الرغم من السوداوية الطاغية في الرواية، فإن واسيني الأعرج بقي حتى اللحظة الأخيرة يتعلق بأهداب الأمل في تتبُّعِ آثار آدم، علّه يجد بين الرماد ما يمكن أن يعيد سلالة هذا العربي الأخير، وهذا يؤيد فكرة تجذّر الهوية لدى الكاتب، وعدم التفريط فيها في أحلك المواقف.