“فاغنر.. جيش الظل”.. ذراع القيصر السرية تضرب في أرجاء العالم
يتنكر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للعلاقة التي تربطه بشركة “فاغنر” العسكرية الروسية، وينفي أي صلة لها بالجيش الروسي أو المؤسسات الحكومية، وكلما سأله الصحفيون عنها يعلن أنها لا تمتلك وجودا قانونيا في البلد، وبالتالي لا هو ولا دولته مسؤولان عن نشاطها العسكري في مناطق مختلفة من العالم، وبشكل خاص تلك التي تشهد صراعات مسلحة وتسودها الفوضى.
الوثائقي الفرنسي “فاغنر: الجيش الظل لبوتين” (Wagner, l’armée de l’ombre de Poutine) يستقصي حقيقة ارتباط شركة “فاغنر” الأمنية بالدولة الروسية، وتلقيها الدعم من الكرملين من أجل تحقيق أهداف بوتين التوسعية خارج حدود بلاده، وذلك توافقا مع طموحه لبناء إمبراطورية روسية جديدة من دون أن يظهر للعلن حقيقة استخدامه للمرتزقة كذراع عسكري سري يعزز من خلالهم حضوره السياسي والعسكري في المناطق التي تشهد صراعات، مثل سوريا وليبيا وعدة بلدان أفريقية.
“لا يقاتلون في سبيل روسيا”.. جواب الرئيس المتكرر
المشهد الافتتاحي مأخوذ من تسجيل مصور (فيديو) يظهر فيه الرئيس “بوتين” وهو يرد في مؤتمر صحفي على سؤال أحد الصحفيين حول سبب عدم اعترافه بالعلاقة التي تربط شركة “فاغنر” بالمؤسسة العسكرية الروسية وبأشخاص مقربين منه.
وكان جوابه عليه بذات العبارات التي طالما كررها مرات؛ هؤلاء المسلحون لا يقاتلون في سبيل روسيا، وهم ليسوا جزءا من القوات المسلحة الروسية. إنه جواب يدفع صانعا الوثائقي “ألكسندرا جوسيه” و”كسينا بولخاكوفا” للبحث عن أدلة تدحض ادعاءات “بوتين” وأكاذيبه.
خلال البحث يحالفهما الحظ، ويعثران على أحد العاملين السابقين في شركة فاغنر اسمه “مارات غابيدولين” (56 سنة)، وقد أبدى استعداده للحديث عن تجربته الشخصية بصراحة، وبذلك يكون أول شخص يظهر للعلن ويدلي بحقائق لم يدل بها أحد من قبل، مما أعطى للوثائقي مصداقية عالية، ووفر للمُشاهد فرصة جيدة لمعرفة جوانب خفية عن نشاط المرتزقة الروس في مناطق عدة من العالم.
أموال فاغنر.. مغناطيس التجنيد وميثاق الولاء
الجندي المرتزق السابق “مارات غابيدولين” عسكري قديم خدم في صفوف الجيش الروسي، وحُكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات لقتله زعيم عصابة إجرامية منافسة للعصابة التي كان يتعاون معها، وقد انضم بعد خروجه من السجن إلى “فاغنر”.
عن تجربته وطريقة انضمامه يتحدث الرجل بكل وضوح، ويؤكد أن المال كان الدافع الحقيقي لقبول العمل في شركة أمنية سرية لا تخفي عن المتطوعين فيها الأخطار التي تنتظرهم، ولا تتستر على طبيعتها العسكرية التي تتطلب خبرة والتزاما بسرية المهام التي يقومون بها.
أخبره أحد مسؤوليها أثناء اختباره أنه سيتقاضى راتبا شهريا قدره 150 ألف روبل روسي (2500 دولار أمريكي)، وسيرتفع سقف الراتب كلما نفذ المتطوع المهمات التي يُكلف بها سواء داخل روسيا أو خارجها، وأن احتمال موته في المعارك وارد جدا.
دونباس.. من تدريب الانفصاليين الأوكران إلى دعم النظام السوري
يعرض الجندي السابق “مارات” أمام كاميرات الوثائقي الأوسمة التي حصل عليها من قادة الشركة، شعاراتها (الصليب الأسود) قريبة من شعارات النازية الألمانية. ويكشف لصُناع الفيلم أن قادة الشركة الأمنية السرية لم يخفوا عنه إيمانهم بالأفكار النازية، كما يخبرهم بعلمه المسبق بأن الانضمام للشركة السرية لا يضمن له أي حماية قانونية، لأنها غير مسجلة رسميا في البلد.
يتحدث “مارات” عن أول مهمة كلف بها في أوكرانيا عام 2014، فقد أرسلوه إلى هناك لتدريب وقيادة مجموعة من الانفصاليين الروس في منطقة دونباس، وقد كان عدد الجنود المرتزقة الذين شاركوا في المعارك التي خاضها الانفصاليون الروس ضد الجيش الروسي وقتها حوالي 3000 مقاتل، لكن أعدادهم زادت كثيرا بعد ذلك التاريخ.
بعد دونباس كلف بالذهاب إلى سوريا، وفي البداية ادعى ضباطها هناك أن وجودهم نابع من قناعتهم بضرورة دعم الرئيس السوري، لأنه يقف في وجه الإمبريالية الغربية، ولهذا جاؤوا لمساندته في كفاحه ضد الغرب وضد الدولة الإسلامية “داعش”.
معارك الأكراد.. صخرة حطمت آمال المرتزقة ومزقت صفوفهم
لم يمضِ وقت طويل حتى اكتشف “مارات” أن المهام التي يُكلف بها بعيدة كل البعد عن الادعاء الذي تدعيه الشركة، ففي إحدى المرات كُلّف مع مجموعة من “فاغنر” في مهمة تستهدف إبعاد الأكراد الموجودين في منطقة دير الزور عن حقول آبار النفط التي يقومون بحمايتها بدعم أمريكي، وقد ظن المرتزقة الروس أن المهمة ستكون سهلة، لكنهم واجهوا صلابة مقاتلين أكراد لم يتوقعوها، كما انهارت عليهم القنابل من المدافع الأمريكية مثل المطر، أصيب “مارات” خلالها بجروح، وقُتل عدد كبير من مقاتلي الشركة.
على إثر ذلك قرر “مارات” ترك العمل فيها، وكان غضبه على مسؤولي الشركة أكبر من غضبه على الأمريكيين، لأنهم أخفوا عنه حقيقة الأهداف المكلفين بتنفيذها، وأنهم يُعرّضون حياتهم للخطر بسببها. قبل ذهابه يسأله صانعا الوثائقي عن اسم المسؤول الأول عن “فاغنر”، وهل لها أن تتحرك من دون دعم الكرملين؟
جوابه كان بالنفي، فلا يمكن للشركة التحرك والحصول على الأسلحة والتدريب داخل روسيا من دون موافقة الرئيس “بوتين” نفسه، وأن مؤسسها شخص مُقرّب من الرئيس الروسي يدعى “ديمتري أوتكين”.
“ديمتري أوتكين”.. طباخ الرئيس وصانع ألعابه القذرة
يظهر من البحث والتقصي أن المؤسس كان ضابطا سابقا في وحدة خاصة تابعة للجيش الروسي، وقد أطلق على نفسه اسم “فاغنر” حبا للموسيقار الألماني، ولإيمانه بالأفكار النازية.
في بعض الصور الشخصية له تظهر أوشام رسمها على جسده تحمل رموزا للسلطة النازية، وقد تولى بنفسه الإشراف على الشركة، وكان تحت إمرته في عام 2014 حوالي ألف مقاتل، ولنشاطه في دعم الانفصاليين الروس وضعته المخابرات الأوكرانية ضمن القائمة السوداء التي تضم إلى جانبه حوالي 4000 مرتزق.
لكنه لبناء مثل تلك الشركة كان بحاجة لدعم مالي، وقد أمنه له رجل الأعمال الروسي “يفغيني بريغوزين” الذي يلقب أيضا بطباخ “بوتين”.
يتضح من البحث أنه أشرف على تدريب مرتزقة “فاغنر” في معسكرات تابعة لوزارة الدفاع الروسية، وأنه قام بمهمات خاصة كلفه بها الرئيس “بوتين”، من بينها تأسيس شبكة لضخ المعلومات الكاذبة ضد منافسي الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” خلال حملته الانتخابية التي أوصلته إلى الحكم عام 2016.
سيصبح “الطباخ” المشرف الأول على “فاغنر”، وسيوسع عملها لتصل إلى بلدان كثيرة، مثل مدغشقر وموزامبيق والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا وسوريا وغيرها.
يوصل البحث الوثائقي إلى صور فوتوغرافية نادرة تجمع الرئيس “بوتين” بالشخصيتين اللتين أدارتا عمل الشركة الأمنية. وعلى ضوء المعلومات المتوفرة لدى المخابرات الأمريكية وضعته “إف بي آي” ضمن قائمتها السوداء.
“فاسيلي”.. مقاتل ومدرب يحمي أسرار المرتزقة في سيبيريا
في مسار التقصي يصل الوثائقي إلى شخص آخر عمل في “فاغنر” مقاتلا ومدربا ويدعى “فاسيلي”، وهو يشرح أمام الكاميرا الدور الذي يلعبه الرئيس “بوتين” لتقوية دور الشركة على كافة المستويات، مع حرصه على سريتها وعدم تسجيلها رسميا في روسيا.
في منطقة أومسك في سيبيريا يقابل الوثائقي المرتزق في ناد ليلي يملكه، إلى جانب امتلاكه شركات ومشاريع تجارية أخرى. ويعترف بأنه يقوم بمهمات سرية خارج روسيا، وخلال السنوات الأخيرة كان يشارك في المعارك الدائرة في دونباس، وأنه يجند آلافا من الشباب في صفوفها، كما أنه أشرف بنفسه على إعداد تسجيلات (أفلام دعائية) للشركة، قريبة جدا من تلك الأفلام الدعائية التي تنتجها “داعش”.
يكشف المرتزق للوثائقي أساليب اختيار المتطوعين والتأكد من عدم خرق الصحفيين لسرية الشركة، وذلك من خلال إخضاع المتطوعين لفحص جهاز الكذب، كما يحرص على إبعاد أي معلومة يمكن من خلالها الربط بينه وبين الأجهزة الرسمية الروسية. يؤكد أن التعليمات التي كانت تصله من أعلى تركز على أهمية إبقاء علاقته سرية بالشركة، وعدم البوح لأحد عن صلاتها بالجيش الروسي الرسمي.
نهاية المرتزق.. أم تناضل عن حق ابنها في التكريم
السرية وعدم الكشف عن صلات “فاغنر” بالدولة الروسية يعود بالنفع على الرئيس “بوتين” والمشرفين عليها، وهم عادة من المقربين منه، لكنه يضر بالمقابل بالمرتزقة عند تعرضهم للإصابة، أو في حالة مقتلهم في المعارك، فالمرتزق ليست له حقوق الجندي الروسي عند موته في المعارك، ولا يحصل على تعويض مادي أو راتب تقاعدي.
على المستوى المعنوي لا يمنح المرتزق شرف الشهادة عند موته. يقابل الوثائقي والدة أحد المرتزقة الذين قتلوا في معركة دير الزور، وبالقرب من قبره تشرح لصُناع الوثائقي الظروف التي أجبرت ولدها على التطوع في “فاغنر”، لقد أراد دفع الديون المتراكمة عليه من راتبه الشهري، لكنه لم يكن يعلم ماذا ينتظره، لقد حملوه لنا جثة مرفقة بشهادة وفاة لا تشير إلى كونه جنديا شهيدا.
توكد الأم دور الدولة في دعم عمل الشركة السرية، وأن مسؤوليها لا يريدون الاعتراف بهذا الدور، لهذا يدفن ولدها كأجير قاتل وليس كجندي روسي. الأم تريد محاسبة المسؤولين عن موت ابنها، وتؤكد أن “فاغنر” تعمل بشكل أكيد مع الدولة، لأن ابنها لم يسافر لوحده إلى سوريا، بل نُقل جوا بطائرة عسكرية إلى هناك وبإشراف ضباط روس.
أسلحة الجيش وطائراته.. موارد مسخرة لخدمة المرتزقة
يتوصل الوثائقي إلى معلومات توكد صلة الشركة الأمنية بالجيش الروسي من خلال شخص يدعى “روسلان لفيف”، ويعمل محلل معلومات منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي.
من بين ما يكتشفه المحلل استخدام قاعدة “مولكينو” التابعة لوزارة الدفاع الروسية لتدريب المرتزقة الروس فيها، كما أن مسلحيها يستخدمون نفس الأسلحة التي يستخدمها الجيش الروسي، وينقلون لتنفيذ المهام خارج روسيا عبر طائرات عسكرية روسية، إضافة إلى وجود وحدة خاصة في الجيش الروسي تُسهّل عمل الشركة ويشرف عليها أوليغارشيون أثرياء يغطون تكاليفها الباهظة، ويدفعون رواتب المدربين، وجلهم من الجيش الاحتياطي الروسي، مقابل حصولهم على دعم الرئيس “بوتين”.
يسأل صناع الوثائقي الصحفي العسكري الروسي “دينيس كوروتكوف” عن رأيه بالصلة القائمة بين “بوتين” و”فاغنر”؟
من خبرته وأرشيفه الضخم تتجلى الصلة بشكل أكبر، ومن خلال الصور الفوتوغرافية التي تجمع “بوتين” مع مؤسسي “فاغنر”. في واحدة منها يظهر وهو يوزع الأوسمة العسكرية عليهم، في أخريات يظهر وهو يستقبلهم في مكتبه في الكرملين بشكل شخصي من دون الإعلان رسميا عن ذلك. الصور تفضح العلاقة والمهام التي يكلف بها مرتزقته في الداخل والخارج بشكل لا لبس فيه.
أفريقيا الوسطى.. حكومة هشة وموارد في أيدي الروس
يذهب الوثائقي إلى جمهورية أفريقيا الوسطى ليوثق سرا بكاميرا خفية وجود مرتزقة “بوتين” السريين الذي جاؤوا لدعم الحكومة التي تواجه تمردا كبيرا في عموم البلاد. يصور صُناع الفيلم في الشوارع جنودا من “فاغنر” يقومون بتفتيش المواطنين، ويحيطون بالقصر الرئاسي الذي كلفوا بحمايته.
هذه الدولة الأفريقية كانت فيما مضى قريبة من فرنسا، لكنها اليوم بعد تكليف الأمم المتحدة لقوات من الجيش الروسي بحفظ السلم فيها رسميا؛ أضحت أقرب لروسيا.
يكتشف الوثائقي اللعبة التي مارسها “بوتين” سرا مستغلا ضعف الحكومة، وذلك عبر تبديله الجيش الروسي الرسمي بقوات “فاغنر”، بحيث بات مرتزقتها يعبثون بالبلاد وأهلها من دون حسيب ولا رقيب وسط صمت حكومي، وذلك حفاظا على الخدمات التي يقدمها “طباخ بوتين” لمسؤوليها، مقابل حصوله على أكبر مشاريع التنقيب عن المعادن النَفيسة.
استغل الروس الوضع وباتوا يسيطرون على أكبر المناجم، مقابل قمع مرتزقتهم الحركة السياسية المعارضة لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، ولأن لهم اليد الطولى فقد ارتكبوا جرائم اغتصاب وسرقة للأثرياء من أبناء البلد من دون خوف من المحاسبة.
“مامازين”.. جثة الثري المسلم تفضح جريمة المرتزقة
يقابل الوثائقي امرأة تعرضت للاغتصاب من قبل مرتزقة “فاغنر” ولم يحاسب المعتدون عليها، كما قاموا بقتل الثري المسلم “مامازين”، وللتستر على جريمتهم حفروا بعد قتله حفرة كبيرة ورموا جثته داخلها.
يقابل الوثائقي صحفيا عمل على كشف الجريمة للرأي العام ونَشر بعض تفاصيلها، ويقول: في مساء أحد أيام رمضان جاءت وحدة روسية مسلحة وأخذته من منزله بحجة التحقيق معه، وقبل مغادرتهم المنزل أخذوا معهم كل ما فيه من مال وتحف، وفي الليل عادت الوحدة من دون الرجل المسلم.
يعرض الصحفي صور الجثة التي قام بالتعاون مع سكان المنطقة بانتشالها من الحفرة على أمل إجراء تحقيق نزيه في مقتله. الممارسات نفسها يقوم بها مرتزقة “بوتين” السريون في سوريا.
يحصل الوثائقي على تسجيلات مصورة تُظهر قيام مسلحين منها بضرب رجل سوري بدون رحمة، ثم بعد ذلك يشعلون النار في جسده وهو حي. إنه مشهد يثير لبشاعته وقسوته سؤالا عن جرائم هؤلاء ومن يقف في وجههم.
“ميخائيل خوردوركوفسكي”.. معارض شجاع يُشرف على تحقيق قتل الصحفيين
ينقل السؤال الوثائقي إلى روسيا، حيث ينشط صحفيون شجعان للكشف عن دور “فاغنر” في الخارج، وصلة مسؤوليها بالرئيس “بوتين”.
يحصل صُناع الوثائقي على تسجيلات (فيديو) يظهر فيها رجل يرتدي ملابس بيضاء واقية من السموم وهو يرش غازا ساما في موقع الصحيفة التي أجرت تحقيقا استقصائيا عن دور الشركة في الخارج، كان هذا العمل تحذيرا أوليا أكمله مسؤولوها بقتل صحفيين آخرين وصولوا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، وقبل إتمام مهمتهم ألقى مرتزقتها القبض عليهم، وقاموا بقتلهم بدم بارد.
يظهر بعد الحادث رجل الأعمال الروسي المعارض “ميخائيل خوردوركوفسكي” الذي يشرف على تحقيق خاص عن مقتل الصحفيين، وهو يؤمن بحقيقة أن “بوتين” لا يردعه إلا العمل الشجاع الذي لا يخاف من مواجهته، تماما كما يفعل الصحفيون الذين يضحون بحياتهم في سبيل كشف الحقيقية التي صار العالم يعرفها، بينما يُصرّ “بوتين” على إنكارها وإنكار أن “فاغنر” هي الذراع السرية التي تؤمن له جانبا من حلمه في أن يصبح إمبراطورا روسيا على حساب الشعب الروسي وبقية شعوب العالم.