“نافالني”.. أوامر عليا بتصفية المعارض الشرس الذي أرّق الكرملين
يُعتبر من أشرس وأجرأ وأشجع معارضي سياسة “فلاديمير بوتين” والمحيطين به، فقد نشر وكتب وصوّر عددا من التقارير التي تُظهر حجم فسادهم الكبير حسب رأيه، ودعا جهارا نهارا إلى إسقاط هذا النظام، لهذا أصبح مع الوقت حجر عثرة في استمرار نظام حكم “بوتين”، وبات يُشكّل خطرا عليه، خاصة بعد أن ازدادت شعبيته وتوسع حجم المشاركين معه في المظاهرات.
لهذا صدرت الأوامر العليا بضرورة تصفيته جسديا حسب ما جاء في الفيلم، وبأخطر أنواع السموم التي لا يملكها سوى المخابرات الروسية، لكن حدث شيء غيّر كل المعطيات، فما قصة هذا المعارض، وما الذي حدث له بالضبط؟
كان يعلم بأن أنفساه الأخيرة ستنقطع من أرض روسيا، وأن الأيادي الخفية التي تخشاه ستحيط برقبه، لكنه عاد لها باسما شرسا، ليرمى في غياهب سجونها الشرسة بالقطب الشمالي، وهناك يباغته الموت بطريقة تطرح مئات الأسئلة
“أليكسي نافالني”.. أيقونة سياسية تُحارب فساد الرئيس الروسي
تحوّل المحامي والناشط السياسي الروسي وزعيم المعارضة “أليكسي نافالني” (46 سنة) إلى أيقونة سياسية ليس في روسيا فقط، بل في العالم أجمع، نظرا لما قام به في بلده في إطار محاربة الفساد، خاصة معارضته الشرسة للفساد المفترض للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” الذي أعد حوله عددا من التقارير المصورة والتحريات الدقيقة المدعمة بالحجج والبراهين، وتحديدا حياة البذخ والتربح الكبير التي يعيشها، خاصة بعد أن نشر فيلما عن القصر الذي قال إن “بوتين” يمتلكه، وتبلغ قيمته المالية حوالي مليار و35 مليون دولار.
لقد تعدّى الفيلم نسبة مشاهدات قياسية فاقت 100 مليون مشاهد، وهو الأمر الذي بات يقلق “بوتين” وأركان نظامه، خاصة مع تنامي شعبيته وتحوله إلى رمز كبير في روسيا يحارب الفساد، ويقف بصدر عار أمام نظام ترى شريحة كبيرة أنه متجبر، وقد نفى “بوتين” فيما بعد ملكيته للقصر، لهذا بدأ يتلقى عددا من التهديدات بالسجن، حتى حكم عليه في قضايا فساد قال النظام إن “أليكسي” ضالع فيها، خاصة بعد أن ترشح في انتخابات عمدة موسكو سنة 2013، وطالب وقتها ممثل الادعاء بالحكم عليه خمس سنوات سجن.
وقد صرّح وقتها زعيم الاتحاد السوفياتي السابق “ميخائيل غورباتشوف” بقوله “استخدام القضاء في الخلاف ضد خصوم سياسيين غير مقبول”، وأضاف بأن مجمل القضية “تؤكد مع الأسف أنه ليس لدينا قضاء مستقل”، لكن “نافالني” واصل كتاباته ونشر تقارير الفساد، وهو الأمر الذي قرأه النظام الروسي على أن هذا المعارض لم يتعظ، لهذا رأوا بأنه من الواجب تنفيذ حلّ جذري للقضية، وهو التصفية الجسدية لإسكاته للأبد.
غاز الأعصاب.. جريمة فوق السحاب وفي أروقة المستشفى
عُرض الفيلم الوثائقي “نافالني” (Navalny) الذي أخرجه الكندي “دانيال روهر” أول مرة في مهرجان صندانس السينمائي الدولي في يناير/كانون الثاني عام 2022، وقد حصد وقتها جائزة الجمهور وجائزة المهرجان، لتنطلق بعدها رحلته العالمية وتوزيعه في أكثر المنصات والقنوات انتشارا.
لقد ركز الفيلم بشكل حصري على عملية التسمم المفترضة التي تعرّض لها زعيم المعارضة الروسية “أليكسي نافالني” يوم 20 أغسطس/آب سنة 2020، وذلك حين كان يجري أحد تحقيقات الفساد المصورة في سيبيريا، وعند عودته تعرض إلى إغماء داخل الطائرة التي كانت تحمله أثناء عودتها إلى موسكو، وبسبب تطور حالته هبطت الطائرة اضطراريا بمطار أومسك، وهناك نُقل إلى المستشفى وقُدمت له الإسعافات الأولية، وقد كانت حالته حرجة جدا حسب تصريحات مدير المستشفى.
كما صرحت الناطقة الرسمية باسم “نافالني” بأن هناك شبه تسمم حدث له، وقد بقي يُعالج في المستشفى رغم خطورة الموقف، وهذا ما جعل زوجته تتدخل وتُطالب الرئيس الروسي بضرورة التصريح لهم بنقله إلى الخارج للمعالجة، لأن هناك شبهة الجريمة، إضافة إلى نية الأطباء تغطيتها بعد تلقيهم أوامر فوقية حسب زوجته.
وبعد ضغط كبير من العالم نقل على جناح السرعة إلى ألمانيا، حيث كان في استقباله طاقم طبي متخصص، لتبدأ عملية إخراجه من الغيبوبة بعد تنقية جسمه من السموم التي تعرض لها، ولقد شخّص الأطباء حالته بأنه تعرض إلى تسمم بغاز الأعصاب الذي لا يملكه إلا المخابرات الروسية، ليدخل بعدها في فترة النقاهة من أجل الشفاء الكامل.
“دانيال روهر”.. تحريات المخرج تكشف أسماء فريق الموت
شارك “نافالني” خلال فترة نقاهته في ألمانيا في الفيلم الوثائقي “نافالني” الذي بدأ في إعداده المخرج الكندي “دانيال روهر” ذو الخبرة والتجربة والموهبة، خاصة أنه استطاع في فترة سابقة أن ينجز عدة أفلام وثائقية مهمة، وقد حصدت جوائز في مهرجان تورنتو السينمائي الدولي سنة 2019، وفي مهرجان ويسلر السينمائي في السنة ذاتها، وهذا عن فيلم “ذات يوم كانوا إخوة” (Once Were Brothers)، إضافة إلى أعمال أخرى.
لقد اعتمد “دانيال” من خلال عمله مع “نافالني” على مبدأ البحث والتحري والتحليل وجلب المعطيات الضرورية، مع التركيز على عملية التسمم التي تعرض لهذا هذا المعارض، وهو الأمر الذي جعله يستعين بالخبراء في مجال المعلوماتية، خاصة من أولئك الذين تعودوا على شراء المعلومات من الأسواق السوداء في الإنترنت.
وقد استطاع أن يجمع مادة غنية وثرية، وكانت البداية من خلال التعرف على الأشخاص الذين كانوا معه على متن الرحلة التي تعرض فيها للتسمم، وتحليل بيانات المكالمات، إذ قام بتحديد مجموعة من الأفراد، وبعد الاطلاع على أماكن إجراء مكالماتهم استطاع تحديد هوياتهم وأسمائهم المستعارة، إضافة إلى أسماء العلماء الذين يعملون في مصانع سرية تنتج السموم، وهي تابعة للمخابرات الروسية.
نصب الكمين.. لعبة توقع بفريق التسميم الروسي
الطريف في الأمر أن “نافالني” نصب كمينا لهم، بعد نشر القضية على الملأ وفي العالم، إذ اتصل بهم وسألهم عن السبب الذي جعلهم يقومون بتسميمه، كما اتصل بأحد العلماء، وهو “قسطنطين كودرفيستف”، وقد ادعى “نافالني” بأنه “مكسيم أوستفينوف” مساعد العقيد “نيكولاي باتروشيف”، وأنه يريد أن يعرف لماذا فشلت عملية قتل “نافالني” وتسميمه، وقد روى له العالِم سبب فشل العملية، وهو النزول الاضطراري للطائرة، الأمر الذي أفسد انتشار السم، كما أجاب عن كل الأسئلة.
وبعد نشر التحقيق أمام العالم يوم 14 ديسمبر/كانون الأول عام 2020 مع صور المشتبه بهم في محاولة قتله؛ نفى الكرملين الأمر، لهذا بعد تلك الندوة التي نفى فيها “بوتين” تلك المزاعم نشر “نافالني” محتوى الحوار الذي جرى بينه وبين العالِم “قسطنطين كودرفيستف” يوم 21 ديسمبر/كانون الأول عام 2020، ليختفي بعدها العالِم في ظروف غامضة، ولم يعد أحد يعرف مكانه.
ومن خلال تلك التحريات استطاع “نافالني” أن يقدم حجة قوية على تسميمه بمادة “نوفيتشوك” (غاز الأعصاب)، وهو السم الذي استعملته المخابرات الروسية -حسب اتهامه- في تسميم الجاسوس الروسي السابق “سيرغي سكريبال” وابنته “يوليا” في مدينة سالزبوري في بريطانيا سنة 2018، بحسب الاتهامات الغربية، وهو الأمر الذي أكدته الحكومة الألمانية بعد معالجة “نافالني” وتنقية جسده من ذلك السم، وهو من أخطر السموم وأقواها على الإطلاق.
اعتقال أمام عدسات الكاميرات.. إثارة وترقب
تنعكس جمالية فيلم “نافالني” في الشكل السردي الذي اعتمده المخرج “دانيال روهر”، وتقديم المعلومة بشكل مثير وبطريقة مؤسسة بعيدة عن الخطابية أو الاتهامات الجاهزة غير المدعومة بالحجج، ويعود هذا بشكل أساسي إلى شخصية “نافالني” المريحة والذكية، فهو يعرف كيف يعبّر عن شعوره وإحساسه، وكيف يدافع عن أفكاره وتوجهاته، وذلك كونه البطل الأساسي في الفيلم.
إضافة إلى المرافقة المستمرة لفريق عمل الفيلم في عدد من المراحل، خاصة خلال اتخاذ قراره المصيري بالعودة إلى روسيا بعد الضجة الإعلامية العالمية التي أحدثها من خلال نشره لصور المتهمين بقتله، واتهامه الصريح لـ”بوتين” ومخابراته بفعل هذا.
لقد كان تاريخ العودة يوم 17 يناير/كانون الثاني عام 2021، وقد كانت الكاميرا شاهدة أساسية على هذه العودة، مما زاد من معدل الإثارة، خاصة بعد أن رفض مطار موسكو استقبال الطائرة وحوّلها إلى مطار آخر، بسبب تجمع الآلاف من محبي “نافالني” في المطار، وقد خلق ذلك نوعا من الشغب رافقته اعتقالات كبيرة، وعندما نزل المطار اعتقل مباشرة أمام عدسات الكاميرا.
وقد عرف المخرج كيف يوزع تلك المواد المثيرة ويصنع كتلة من الترقب، إضافة إلى مشاركة أسرة “نافالني” في الفيلم، خاصة زوجته القوية التي وقفت بجانبه بكل شجاعة، وهي “يوليا نافالنايا” وابنته “داشا” وابنه “زاخار”، وهو ما خلق نوعا من العاطفة الأسرية ووسّع من عملية التلقي والتعاطف الكبير معه، حتى جعل وقت الفيلم (ساعة و38 دقيقة) غير محسوس تقريبا.
كما نوّع المخرج من مصادر الوثائق التي اعتمد عليها، وأعان من خلالها مادته المصورة، مثل الضيوف النوعيين كالعائلة والأرشيف المعتمد، وغير ذلك من المواد التي كانت مرتكزات قوية للفيلم وأعطته قيمته الوثائقية.
فيلم “نافالني” من الأعمال الوثائقية التي تعتمد على منطق التحري لبناء المادة الأساسية، وهذا التحري لم يأت من التكهنات أو التحاليل العادية، بل من خلال الدعم بالحجج والبراهين التي لا تقبل الرد، ومن هنا انعكست قوته في إيصال فكرته الأساسية، وهي محاولة الاغتيال مع سبق الإصرار والترصد.