“نقص الدواء وزيادة الأرباح”.. أباطرة الصناعة يرقصون على وجع المريض الأوروبي

منذ اللحظات الأولى يتمكّن هذا الفيلم الوثائقي الفرنسي من تحريض مشاهده على المتابعة ومحاولة الإلمام بقضية باتت اليوم ملحّة في خطورتها، مع غزارة في المعلومات، وتحرٍّ بين ثلاث قارات، ومحاورة مختصين ومحللين ومستهلكين، يلقي فيلم “نقص الدواء وزيادة الأرباح” للفرنسي “كزافييه لُلو”، الضوء على معاناة إنسانية بدأت منذ حوالي عقدين.

أنتج الفيلم عام 2022، وهو ثمرة تحقيق دام ثلاثة أعوام حول قضية مقلقة كانت تهدد الدول الفقيرة فقط، لكن ها هي الآن في قلب الدول الأوربية الغنية التي كانت فيما سبق تظن نفسها بمنأى عن خطرها، فعلى مدى العقدين الماضيين تضاعف النقص في الأدوية والمنتجات الصحية عشرين ضعفا في أوروبا، نقصان وأحيانا فقدان تام، سواء لأدوية أمراض خطيرة أو أقل خطورة، من مضادات الالتهاب والحساسية إلى الأدوية المضادة للسرطان، وصولا إلى كرات القطن والشاش المعقم.

باتت شركات الأدوية الكبرى تفرض قوانينها على المستهلكين والحكومات والمؤسسات الصحية، وأصبح هؤلاء مجبرين على التوفيق بين الحصص للتعويض عن أوجه القصور. لقد وصلت الخطورة إلى قرار فرز المرضى وإعطاء الأولوية لبعضهم، بحسب حالتهم الصحية، للحصول على العلاج، مما يعيد ذكريات الحروب الأليمة.

كوفيد 19.. صفعة الحرب التي أيقظت الأوروبيين

يسعى الفيلم إلى الإحاطة بالمشكلة من كل جوانبها، ويلتقي المعنيين بها في المقام الأول أي مخابر تصنيع الدواء وشركات الأدوية والحكومات والمرضى المصابين بأمراض خطيرة في معظمهم والذين يفتقدون الدواء. ومن بدايته يشير الفيلم بصراحة إلى دور الشركات فيما يجري ومسؤوليتها عن الأزمة الخطيرة في العالم، ويغوص عميقا في الألغاز المعقدة لسياساتها المعتمدة في تحديد أرباحها وتوزيع منتجاتها.

يستهل المخرج الفيلم ببداية موفقة مع مشاهد لشوارع في باريس خالية تماما خلال فترة الحجر الصحي مع انتشار كوفيد-19 عام 2020، فتبدو كمدينة أشباح، وكأنها إحالة إلى عالم يثير رهبة في القلوب، فهذا الوباء فجّر الأزمة تماما، إذ اكتشفت الحكومات الأوروبية أنها فقدت التحكم بالأدوية، ولمست حينها فرنسا أنها تعاني من نقصان الدواء والمنتجات الصحية وأبسطها الكمامات، والقطن اللازم للعمليات.

ملصق الفيلم الذي يحكي عن فساد شركات الدواء في أوروبا

ويتابع الفيلم مع فيديو من الماضي ليشير بذكاء إلى أن كلمات مثل “فقدان” و”ندرة المواد” و”الحصص” قد خرجت من قاموس الأوروبيين تماما، فهي مرتبطة في أذهانهم بالماضي والحروب والأزمات، ثم ارتبطت بالعالم الفقير ومعه بعض دول جنوب أوربا.

لكن الحروب عادت اليوم بأشكال أخرى وهناك معارك تدور بين مخابر الأدوية والحكومات الغربية، و”في هذه المعارك فإن المخابر هي الرابحة دائماً” كما تؤكد في الفيلم “بولين لونديكس”، المؤسسة المشاركة لمرصد الشفافية في سياسات الأدوية.

لغة الربح.. حين يصبح الفياغرا أهم من دواء السرطان

يحدد الفيلم موقفه من البداية، موجها الاتهام إلى الشركات الدوائية الكبرى ومسؤوليتها في مصير محزن يعاني منه المرضى، لكنه ليس بالاتهام العشوائي، فهو يرفقه بكل الأدلة والأمثلة المبهرة في دقتها، فيبرز مثلا أولويات الشركات في إنتاج بعض الأدوية التي لا يمكن أن تفقد من السوق على الإطلاق، خلافا لأخرى مصيرية، ومنها الفياغرا على سبيل الحصر.

يعتمد الفيلم أسلوب الراوي الذي يعلّق على الأحداث، ويعمل سريعا على إبداء سياسات الشركات في أسباب خياراتها للأولويات عبر اختياره عينات وحالات خاصة وعامة.

على سبيل المثال يشير لدواء يستخدم لمعالجة أمراض خطيرة كالسرطان، لكن لم يعد أحد معنيا بإنتاجه إلا مخبر وحيد في ألمانيا، وذلك لأنه لا يحقق أرباحاً كافية، فالجزيئات المكوّنة له معروفة منذ زمن طويل، ورخصة تصنيعه أصبحت مشاعة. (تنتهي مدة براءة الاختراع بعد فترة، ويصبح تصنيع الدواء بمقدور الجميع، فينخفض سعره لدرجة يصبح معها إنتاجه غير مربحا). وبالتالي فلا أحد يريد إنتاج الأدوية القديمة وتوظيف الأموال في مصانع تخسر، فالصناعة الدوائية تبحث عن الربح.

أزمة الأدرينالين.. شركة الدواء تهزم حكومة إسبانيا

يتعمّق الفيلم في العلاقة -أو بالأحرى المواجهة- بين الحكومات وشركات الأدوية التي تنتصر فيها الشركات، كما حصل مع فرع لشركة هولندية في إسبانيا تنتج الأدرينالين، فبعد خفض الحكومة الإسبانية سعرَ هذا الدواء المضاد للحساسية، قررت الشركة أن تكفّ عن بيعه في البلد والاكتفاء بتصديره.

وفي سعي إلى التوازن وفسح المجال أمام شركات الأدوية لإبداء وجهات نظرها فيما يطرحه الفيلم من قضايا، يلتقي المخرج مسؤولا في الشركة الأمّ ليفسر أسباب حرمانها المرضى الإسبانيين من الدواء على الرغم من الأرباح الكبيرة التي يحققونها، ليكون الجواب أن السعر الأقل المطبّق في إسبانيا سيلزمهم تطبيقه تقريبا في كل أوربا وهذا لا يناسبهم.

وقد أدت النقاشات المستمرة التي دامت ثلاث سنوات بين الحكومة والشركة إلى الوصول إلى اتفاق برفع سعر الدواء من جديد. هكذا يتنقل الفيلم بين عدة دول أوروبية وكذلك كندا والصين والهند، ليتساءل عن إمكانية الضغوط السياسية في زحزحة المخابر عن قرارتها، فالمساومات دائمة بين الحكومات والشركات التي تطلب أسعارا أعلى فأعلى، لا سيما بالنسبة للأدوية النادرة. لكن يبدو أن سعر الدواء وحده لا يبرر كل هذا النقصان.

أزمة الباراسيتامول.. كارثة أخرى من كوارث الجائحة

لقد فجّرت أزمة الكوفيد أزمة الأدوية في أوربا، ليدرك من خلالها المسؤولون في الحكومة وهيئات الصحة أن ثلاثة أرباع الأدوية المستهلكة في بلادهم بحاجة إلى آسيا، فالجزيئات المؤثرة والشافية في الدواء تنتج هناك، ثم تجمّع في أوربا على شكل حبوب أو أمصال.

ثم جاءت مشكلة “الباراسيتامول” مسكّن الآلام الأكثر مبيعًا في العالم، وقد خصص لها الفيلم جزءا كبيرا منه، لما تقدمه من صورة جلية عن الوضع العام للدواء في فرنسا وأوربا. إنه مثال بسيط عن دواء بسيط بات مفقودا، فحين قررت الهند تقييد تصديره في عام 2020 للاحتفاظ به لسكانها، سادت صدمة لدى المعنيين الأوربيين.

هذا الدواء الذي كان يُنتج في فرنسا حتى عام 2008، بات اليوم ينتج بالكامل في الولايات المتحدة والصين والهند، بعد أن نقلت المخابرُ الأوروبية -وعلى رأسها فرنسا- صناعتَه إلى الصين والهند. ولم يكن هذا فقط بسبب انخفاض تكلفته فيهما، لاسيما بعد انخفاض أسعاره في الأسواق الفرنسية بسبب ضغوط الدولة والضمان الصحي، بل هناك سبب آخر أهم لهذه الهجرة الصناعية، وهو ضعف تشريعات الدول الفقيرة التي لا تراعي الشروط البيئية المكلفة والمطلوبة في أوروبا.

وهكذا يبين الفيلم في رحلته إلى الهند وجولته على المصانع فيها وظروف الإنتاج فيها أنه لم يعد ممكناً الاستغناء عن هذا البلد الثالث عالميا في إنتاج الأدوية.

لكن تلك الصناعة إن كانت تنقذ أناسا، فهي تقتل آخرين ببطء، بسبب مخلّفات المصانع الملوثة. وهنا يستفيض الفيلم في كشفه للمداولات التي لا تتوقف بين شركات الأدورية والحكومات لإعادة المصانع إلى أوروبا، فعلى الرغم من أرباح الشركات الكبيرة، فهي تطلب من الحكومات تمويل هذه العودة.

احتكار التصنيع.. جيوب ممتلئة بأموال الدعم الحكومي

يبدي المخرج انتقادات واضحة لشركات تصنيع الأدوية، على الرغم من أنه اهتم بإبداء وجهات نظرها التي بدت غير مقنعة، بالنظر إلى أرباحها التي تصل إلى مليارات الدولارات، مما يؤكد أنها تحيط نفسها بغموض كامل فيما يتعلق بالتكلفة والأبحاث، لا سيما أنها تستفيد من أبحاث تدعمها الدول ماديا.

وأورد مثالا لدواء نادر لمرضى ضمور العضلات الذي أجريت أبحاث عليه في فرنسا بإشراف الدولة، ثم ساهم في تطويره فريق فرنسي آخر، ثم انتهت الاكتشافات على يد فريق أمريكي اشترت منه شركة “نوفارتيس” الحقوق، وبدأت تحقق أرباحا ضخمة مع بيع بمليوني دولار لدواء لا يكلفها إلا 155 ألفا. وهكذا يظهر كيف أن المال العام ينتهي في جيب الخاص.

وفي نهايته يثير الفيلم الشكوك حول لقاحات الكوفيد التي ساهم الاتحاد الأوروبي في تمويل أبحاثها بمبالغ وصلت إلى 4 مليارات يورو، ثم ها هي شركة فايزر تصرّ على الملكية الفكرية واحتكار براءة الاختراع بدعم من الاتحاد الأوروبي. فهل هو حرص منه على الملكية الفكرية حقا؟

لقد أكد أحد المراقبين في مراصد مراقبة سياسات الأدوية أن الاتحاد أجرى 140 اجتماعا مع شركات أدوية تريد الحفاظ على احتكار تصنيع الدواء، بينما لم يجر سوى اجتماع واحد مع تلك التي لا تريد، متسائلا عن الأسباب الخفية لذلك.

جال هذا الفيلم الوثائقي المذهل في القارات الأوربية والأمريكية والآسيوية، وسلّط الضوء على أسس هذه الصناعة الدوائية وخفاياها، عبر التوثيق العام وجمعه الكلمات المؤثرة للمرضى وعائلاتهم، وتصريحات الأطباء والمتخصصين الصحيين، وبعد كل تلك الجولات يستنتج أن النظام الصحي في خطر، بعد أن تركت الحكومات المفاتيح بيد الشركات، ولم تعد بيدها مقادير الحكم.


إعلان