“تيتريس”.. صراع شيوعي رأسمالي في حلبة أشهر ألعاب العالم

صارت ألعاب الفيديو ثقافة في حد ذاتها، وكل عمل أدبي أصبح يتحول إلى فيلم، والفيلم يتحول إلى لعبة فيديو. فعلى سبيل المثال، تحولت لعبة “الوهم الأخير” إلى فيلم، بينما فيلم تحول “هاري بوتر” إلى لعبة فيديو، بعد أن كان مجرد كتاب أدبي أساسا.
“صارت الألعاب جانبا مهما في ثقافتنا بشكلٍ عام”، هل يذكر أحد هذا التنبيه؟ جاءت تلك النصيحة على لسان أحد أبطال كتاب “في جحيم الألعاب” داخل سلسلة خيالية كتبها الراحل أحمد خالد توفيق. أو هل يذكر أحدٌ البطلةَ عبير التي حكى عنها الكاتب حين كانت ضمنيا تتنبأ بتوغّل عالم الألعاب في حياتنا، إنها فتاة لا يميزها شيء سوى فهم عوالم ألعاب الفيديو من خلال عملها الذي يمثل تأثيرا جحيميا على العالم.
كانت قصتها هذه -بالإضافة إلى مئات القصص والكتابات- تتحدّث جميعا عن واقع حضور الألعاب عموما في الثقافة الحديثة، ليس بوصفها مجرد شيء جانبي، بل تعبيرا عن وجوده كقوة ملهمة، من خلال التسلية التي باتت تخفّف وطأة العالم الحقيقي القاسي على الجميع.
فقد باتت الأفلام -التي اعتمدت على التعريف بأشهر الألعاب العالمية عموما- منتشرة في تبادل تجاري صريح وأحيانا منطقي، حتى أنه في وقت واحد من هذا العام 2023 خرج فيلم “غران توريزمو” (Gran Turismo) الذي يحكي قصة صعود وشهرة لعبة بلايستيشن، عن طريق حكاية هاوٍ يصبح محترفا.
بُني الفيلم على القصة الحقيقية لأحد هواة ألعاب الفيديو، وهو البريطاني “يان ماردنبورو” ذو الـ20 عاما، وقد حوّل مسيرته إلى احتراف القيادة داخل حلبات سباق السيارات في ألعاب محاكاة القيادة، كي يفوز بمسابقة “غران توريزمو أكاديمي” التي ينظمها رجل الأعمال المهتم بالألعاب “داني مور” (الممثل أورلاندو بلوم).
الألعاب الإلكترونية.. وجبة جماهيرية دسمة تقتحم السينما
إلى جانب فيلم “غران توريزمو” يخرج فيلم “تيتريس” (Tetris)، ويستوحي قصته الحقيقية كذلك من اللعبة الروسية الشهيرة التي يحتاج جمهورها الواسع إلى التعرف عليها سينمائيا، إنه فيلم يلقي نظرة على تاريخ اللعبة من خلال سيرة ذاتية درامية تعيد المشاهد إلى موسكو في ثمانينيات القرن الماضي، أي الوقت الذي ظهرت فيه للمرة الأولى للعالم. فقد أصبح عالم الألعاب -إلى حد كبير- ملهما للسينما المعاصرة، ولديه جمهور واسع من الكبار والصغار، وهو ما يعطي أهمية لتناول أحد هذه الأفلام -وهو فيلم “تيتريس”- بشكل تحليلي دقيق.
بل ثمة خطوة أبعد قليلا من كل ذلك اتخذتها منصة “نتفليكس” السينمائية، حينما أطلقت نسخة تجريبية من “الألعاب السحابية” في المملكة المتحدة وكندا، وفق ما جاء في مدونة الشركة، إذ قدمت من خلالها اختبارا تجريبيا بسيطا لبعض من المشتركين، يمكنهم من خلاله اللعب على أجهزة التلفاز والأجهزة المتصلة بها في شبكة الإنترنت كذلك، كما يشمل الاختبار لعبتين فقط هما (Oxenfree) و(Molehew’s Mining Adventure)، بهدف إصدار تقنية بث الألعاب ووحدة التحكم الخاصة بالشركة من أجل تطويرها.
وحسبما نقلت “نشرة إنتربرايز” أكد “مايك فيردو” نائب رئيس الشركة في المدونة قائلا: هناك تركيز منذ فترة على تقديم تجربة ألعاب ممتعة للمشتركين منذ 2021، وذلك حين أضفنا الألعاب الإلكترونية على الهواتف الذكية، وما تزال تجربتنا في عالم الألعاب في مهدها، ولكننا نتطلع إلى إسعاد المشتركين بألعاب مثيرة.

ويبدو أننا أمام سوق واسع وضخم للألعاب التي باتت ذات طابع سينمائي، ففي كل مكان بالعالم، ومهما زاد إنتاجها، فلن يشبع ذلك عطشَ الجمهور الواسع سريع الملل من كل قديم، فكل يوم هناك لعبة جديدة تجتاح الأسواق وتنتشر، حتى أصبح هناك مراجعون متخصصون للألعاب وتقييمها.
فبعض اللاعبين الأكثر احترافا في لعبة ما أصبحوا بمثابة نجوم سينما، وأصبح هناك نقّاد للألعاب تماما ككل الفنون، وهو شيء أقوى من أن يُتجاهل، فهو اتجاه هوليودي وعالمي، ولن يختفي قريبا للسهولة التي ينتجها تسويقه، إذ لم يعد الآن استثمارا في لعبة، بل لعبة الاستثمار.
لعبة المكعبات.. فرصة للتسلية في عصر حاد الطباع
في زمن ليس بعيدا تماما، كان ثمة تعلّق للجيل الجديد آنذاك مع عدة ألعاب بسيطة ممتعة في زمنها، وكانت أسعارها متاحة تقريبا لمختلف الطبقات الاجتماعية، تناسب الكبار قبل الصغار، وتلك كانت المميزات التي جعلتها تحقق هذه الأرقام غير المسبوقة، لدرجة أنه لم يعد هناك ما هو أشهر لكل هذا الجيل من لعبة “تيتريس” (Tetris)، وهي كلمة تجمع بين “تترا” التي تعني باللاتينية “أربعة”، في إشارة إلى المربعات التي تظهر على الشاشة في مجموعات مكونة من أربعة مربعات، وكلمة “تنس” وهي إحدى الرياضات المفضلة لدى مخترع اللعبة الروسي.

يومئذ، كان عالم الألعاب يمثل قطاعات كبيرة منفصلة، تماما مثل الانفصال الحاد الذي كان يعيشه العالم بين قوتين هما الاتحاد السوفياتي وروسيا الاشتراكية الشيوعية الصارمة البعيدة ومؤيديها، وبين الولايات المتحدة وأمريكا الرأسمالية التي تتصيد كل فرصة لتدوير المال والحصول عليه، مهما تطلب الأمر، إلى جانب محبيها أيضا.
والفيلم من إنتاج “منصة أبل”، وإخراج “جون بيرد” وكتابة “نواه بينك”، وهو يستكشف القصة وراء اختراع اللعبة، إلى جانب الخلفية السياسية التي ظهرت تزامنا معها، وأدى دور البطولة فيه “تارون إيغرتون” الذي يلعب دور “هينك روجرز” البطل الأساسي في انتشار اللعبة من روسيا المنغلقة على منتجاتها وقت الشيوعية إلى العالم. وقد ساهم في حل مشكلات الترخيص التي سمحت للعبة بالتوسع خارج الاتحاد السوفياتي.
ويعرض الفيلم التاريخ المعقد الذي واجهته لعبة الفيديو للحصول على التراخيص، حيث يتسابق عدد من الأشخاص، من بينهم مليارديرات سوفيات، للحصول على حقوق توزيعها. ويلعب “إيغرتون” دور البطولة وسط مجموعة مميزة من الممثلين تضم أيضا “ألكسندرا شيب” و”بيتر سارسجارد” وغيرهم.

حتى الآن باعت اللعبة أكثر من نصف مليار نسخة حول العالم، كما نُزّلت أكثر من 615 مليون مرة على الأجهزة المحمولة وحدها، وملايين اللاعبين يحاولون التوفيق بين الأشكال الهندسية المكونة من أربعة مربعات لتكوين خطوط أفقية بسرعة كبيرة، ربما تساعد هذه الأرقام المخيفة قليلا في محاولة نقل أو تفهم مدى أهمية الحديث عن القصة التي كانت وراء أشهر لعبة في العالم، وغيّرت جزءا من مفهوم هؤلاء الملايين تجاه العالم.
تاريخ اللعبة.. مجاز سينمائي يرسم انهيار الإمبراطورية
كان من المفترض أن يكون اسم الفيلم “المكعبات المتساقطة”، ليمثّل إشارة واضحة إلى انهيار الإمبراطورية السوفياتية عام 1991، فقد كانت قصة اللعبة وانتشارها جزءا أساسيا غير مباشر من فهم سياقات هذا الانهيار، بينما استقروا في النهاية على أن يكون اسم الفيلم “تيتريس” كما سميت اللعبة.
لذلك يمكن لقصة اختراع اللعبة أن تحمل مجازا واسعا للحديث عن أشياء أوسع من مجرد لعبة محبوبة، ليدور حول الشيوعية والرأسمالية وحيرة الإنسان المعاصر عموما بين الجد واللعب، وتغيرات التصور عن الترفيه الذي بات يمثل وسيلة نجاة لا يمكن تجاهلها.
لم تعد الألعاب مجرد رفاهية في عالم اليوم، فبعد سنوات عدة اكتشف العالم أهمية اللعب بشكلٍ جاد، سواء في القصص الملهمة التي أدت لاختراع بعض الألعاب، أو في تأثيرها أساسا على نفسية البشر بمختلف توجهاتهم الفكرية، وكانت “تيتريس” من أوائل تلك القصص الملهمة.

النجاح الأسطوري الذي حققته اللعبة عموما يجعل المشاهد متوقعا للنهاية السعيدة التي تنتظرها القصة، لذلك كان يمكن التأريخ القوي للقصة من خلال التوسع أكثر في تناول شخصية المخترع الروسي الذي تبدو قصته مجازا واسعا للحياة هناك، فهو مسحوق تحت وطأة الشيوعية التي لا يحبها، ولا يمكنه التسويق الجيد للعبته بسببها.
يمكنك ببساطة في أي مكان بالعالم أن تجني أرباح مشروعك الناجح، لكن وجودك في دولة شيوعية لا يشغلها المال وتجرّم الربحية الفردية، لم يضمن للمخترع أو لمحبي اللعبة خارج روسيا السماح لهم بتبادلها، لذلك كان انتشارها يمثل وسيلة لانهيار المنظومة الروسية، إلى جانب أشياء أخرى كثيرة متراكمة.
حقوق اللعبة.. انتصار لدغدغة عاطفة المُشاهد
يختار الفيلم تقليل مساحة المخترع الروسي، ليبدأ من نقاط أضعف لسرد القصة، من خلال استعراض محاولات الأمريكي “هينك روجرز” الترويج للعبة حين يراها، ثم يحاول أن يقنع الجميع بإعطاءه قروضا، مقابل أن يحاول الحصول على حقوق توزيعها من روسيا إلى أمريكا والعالم كله.
تبدو هذه الانطلاقة الأضعف ربما، إذ لا يمكن تبرير التعاطف مع الشاب الأمريكي على حساب رجل الأعمال “روبرت ماكسويل” (الممثل روجير علام) الذي ينافسه على أخذ حقوق نفس اللعبة لما فيها من مكاسب مليونية، كلاهما يمثّلان النموذج ذاته الذي لا يجيد سوى تدوير الأموال دون إبداع يذكر، لكن ينتصر الفيلم للبطل الشاب لأسباب بدت في غالبها استعطافا للمُشاهد، بتقديمه مغتربا يعمل خارج اليابان، حيث يعيش مع زوجته “أكيمي” (الممثلة أياني ناغابوتشي) وأطفالهما الثلاثة، ويحاول تأمين أسرته، ولا يقدم القصة ذاتها في أي اتجاه.

يحكي الفيلم قصته مستخدما الإيقاع الترفيهي للعبة ذاتها، إذ يقسّم الأحداث وأهمية الأشخاص وفق مستويات تدريجية أشبه بالفصول المنفصلة المتصلة، بينما تتصاعد جودة السرد بعد مرور النصف الأول من الفيلم تقريبا، مع الوصول للمستوى الثالث، وربما يمكن القول إن الفيلم يبدأ فعلا من اللحظة التي يقرر أن يذهب فيها البطل إلى روسيا للحصول على حقوق اللعبة على الرغم من خطورة عمل ذلك.
يسافر الرجل “روجرز” إلى الاتحاد السوفياتي بتأشيرة سياحية بدلا من تأشيرة عمل، وذلك قد يعرضه للسجن آنذاك لكونه أمريكيا يمثل الدولة العدو للاتحاد السوفياتي.
كفاح داخل صراع القطبين العظيمين.. نقطة القوة الدرامية
كانت نقطة القوة الدرامية الأفضل في الفيلم مع التأسيس لظهور مخترع اللعبة المبرمج الروسي “أليكسي باجيتنوف” (الممثل نيكيتا إفريموف)، هذه اللعبة التي كانت وقتها أشبه بمعجزة تنتشر مثل فيروس إيجابي التأثير حول العالم بدأت من خلال كمبيوتر بدائي تماما، مع مهندس برمجيات في الأكاديمية السوفياتية للعلوم.
كان هذا المهندس يبدو غاضبا من روسيا الشيوعية التي قتلت والده ظلما، حياته مستقرة مع زوجة تحبّه، هادئ وكئيب وصامت، لكن يبدو أنه في أعمق نقطة بداخله مجرد طفل يريد الصراخ واللعب، ولا يجد مكانا لذلك إلا في اللعب أو صناعة اللعب من أجل قتل هذا الملل.

تبدو المغامرة التي يخوضها المخترع الروسي مع صديقه الشاب الأمريكي منذ تلك اللحظة صادقة ومؤثرة ومنطقية تماما في ذاتها، كلاهما يتحدان بشكل استثنائي يمثل أقطابا متنافرة أمام الفكر المتحجر هنا وهناك؛ فالمخترع أمام روسيا الكبيرة الشيوعية الصارمة التي لا تترك له متنفسا، لكي يحصل على مكاسب من لعبته، مخالفا بذلك قوانين روسيا التي تقضي بإعطاء كل المكاسب للدولة في أي سياق، وأمريكا الكبيرة التي يمثلها المنافس الأمريكي العجوز أمام الشاب الصغير المجتهد الذي لا يملك مالا كافيا للمنافسة، صديقان يتنازلان عن كل شيء ليخوضا رحلة عميقة لتأمين حياة أسرتيهما بمهمة يمثل أي فشل فيها موتا محققا.
يدين الفيلم الشيوعيةَ بشكل قاسٍ منذ اللحظة الأولى، فيظهر الاتحاد السوفياتي في الداخل كجواسيس ولصوص في الخفاء، في قصة ساعدت على جعل ذلك منطقيا، ويترك هذا مساحة أمان غير مباشر قادم من الحياة في قلب الرأسمالية التي تمثلها أمريكا، كنموذج سمح بوجود اللعبة واللعب عموما في العالم.
يفهم الصناع ذلك جيدا، وقد بدا ظاهريا أن المشهد كاملا موجودٌ بفضل السعي الرأسمالي لتوفير اللعب والسينما التي تحكي قصصه الملهمة. وتلك النتيجة -حتى إن كانت حقيقية- فهي منزوعة السياق، متوهّمة تتجاهل مآسي الرأسمالية التي ادعت أنها تخص الشيوعية فقط.