“غزة تكافح من أجل الحرية”.. مسيرة العُزّل التي مهّدت للطوفان قبل سنوات

في مارس/آذار عام 2018 اندلعت في غزة انتفاضة الغضب التي تمثلت في المسيرة الكبرى التي أطلق عليها “مسيرة العودة الكبرى”، وكانت تتخذ شكل مظاهرات ضخمة كل يوم جمعة، واستمرت حتى نهاية 2019. وخلال ذلك، سقط عدد من الشهداء، وأصيب عدة آلاف بجروح بعد أن أطلقت القوات الإسرائيلية الرصاص عليهم.

وقد حاولت الصحفية والناشطة الأمريكية “أبي مارتن” دخول غزة لتغطية الحدث، لكن السلطات الإسرائيلية منعتها، فقررت إخراج فيلم وثائقي عن الأحداث عبر الحدود، في تجربة جديدة وجريئة بالتعاون مع عدد من المصورين في الداخل. فكان الفيلم الوثائقي البديع “غزة تكافح من أجل الحرية” (Gaza Fights for Freedom) الذي أُنجز عام 2019.

السابع من أكتوبر.. تراكمات من القهر والعنف والإبادة

من يشاهد الفيلم اليوم يجد أنه يوثق لفصل من الفصول المتعددة الممتدة التي تكشف بشاعة الاحتلال، وأن ما وقع في غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة تراكمات من القهر والعنف والتصفية والإبادة الجماعية التي كان ولا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي يمارسها على سكان غزة، وعلى الشعب الفلسطيني عموما.

في ذلك الوقت، عندما بدأت مسيرة العودة الكبرى كان قد مر 14 عاما على حصار غزة وعزلها عن العالم، ومعاقبة سكانها عقابا جماعيا بموجب السياسة الإسرائيلية المستمرة، ومع ذلك نرى في هذا الفيلم كيف تمكن هؤلاء السكان من الاستمرار في الحياة، في تدبير العيش بكل الوسائل، وبطريقة أدهشت العالم، فهؤلاء الذين يراهن العدو اليوم على انكسارهم لم ينكسروا في أي وقت، بل ظلوا يعثرون على وسيلة أو أخرى لتأكيد الانتصار للحياة على الموت، ولكسر شوكة الاحتلال وتحدي آلته العسكرية.

“غزة لم تعد غزة”.. إرادة تتحدى الموت على أطلال المدينة

في بداية الفيلم نسمع صوت رجل يقول “إن غزة لم تعد غزة”، وإن الاحتلال يمارس كل شيء لتدميرنا منذ أن بدأ الحصار.

تتركز الكاميرا على أماكن من غزة، ثم ترتفع وتسير كما لو كانت من طائرة مسيرة، ترصد مظاهر الدمار والمنازل التي تحولت إلى أطلال وخرائب بفعل القصف الإسرائيلي، وهي صور لا تختلف كثيرا عما نشاهده اليوم، أي أن الصورة نفسها مع الكاميرا المتحركة التي تمتد وتتسع زاويتها لتشكل أماكن وأجزاء عديدة من القطاع، تؤكد على فكرة “الاستمرارية”، أي استمرار القهر والقمع وتسلسل القتل والتدمير.

ومن المباني المدمرة إلى البشر، تتوقف الكاميرا أولا أمام عدد من السكان المتفرقين، منهم من يقف حائرا تائها أمام ما بقي من بيته، ومنهم من يجلس فوق الأطلال، لكن في تناقض، مع استمرار الرجل الفلسطيني الذي يصف تدهور حياة الناس بسبب الحصار، أي في تناقض مع شريط الصوت، نشاهد مجموعة من الأطفال الفلسطينيين يتحدون الموت والدمار والحصار باللهو في البحر، يسبحون ويلهون على شاطئ غزة.

يقترب الفيلم من الإنسان أكثر، فنرى الرجل الذي سمعنا صوته على اللقطات السابقة، وقد حُرم من العمل عبر السياج الأمني مع انطلاق المسيرة الكبرى، فأصبح عاطلا عن العمل.

تعرض مئات الفلسطينيين لرصاص القناصة الإسرائيليين خلال مسيرات العودة

يقول لنا تعليق المخرجة الصوتي إن نسبة البطالة في غزة بلغت 70%، أما هذا الرجل فقد لجأ إلى التقاط المخلفات من البلاستيك والمعادن جراء القصف والدمار، ووضعها فوق عربة يجرها حمار لبيعها هنا وهناك، يساعده بعض أطفاله الصغار.

طموحات التعليم والكهرباء والماء.. أحلام الإنسان البسيط

يشكو الرجل الذي يتابعه الفيلم من الحالة التي يعيشها مع أسرته المكونة من 16 فردا، فلا يمكنه إيجاد الطعام الكافي، بل يعيش الجميع على الكفاف، إنه لا يمتلك ثمن الوقود اللازم للطهي، أو بالأحرى لعمل الشاي، فالأسرة -كما يقول- تعيش على الأطعمة الجافة، وهو يشعل نار الموقد البدائي من حرق الورق، فأسطوانة الغاز تكلف نحو 20 دولارا.

تتحدث المخرجة في تعليقها من خارج الصورة عن مشكلة مياه الشرب النقية في غزة التي يعاني منها السكان، بسبب تدمير إسرائيل لمحطة المياه، ويحدثنا الرجل عن الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي الذي لا يستمر أكثر من 4 ساعات يوميا فقط، وهو ما يزيد الأمور صعوبة، فتتوقف مضخات رفع المياه إلى الأسطح، ويفسد الطعام الموجود داخل المبردات، وتتحكم إسرائيل في كمية الأطعمة التي تدخل القطاع، بحيث تبقي السكان على حافة الجوع باستمرار في سياسة معلنة.

أما طموحات هذا النموذج لإنسان غزة المعذب، فهو يتلخص في الحصول على دخل يسمح له بأن يوفر لأبنائه وبناته فرصة التعليم في المدارس والحياة الكريمة، وبالشعور ولو مرة واحدة فقط بالفرح الذي لا يشعر به قط كما يقول.

منع تصاريح السفر.. سرطان يلتهم الناس في سجن مفتوح

يتوقف الفيلم أمام تزايد عدد حالات الإصابة بالسرطان، وتناقص التصاريح الإسرائيلية بالسفر للعلاج بدرجة كبيرة، وارتفاع نسبة الوفيات جراء الأمراض المزمنة والخطيرة.

اشترك الأطفال مع الكبار في تلك المسيرة

وتستخدم المخرجة الأسلوب التعليمي لأنها توجه فيلمها أساسا إلى المشاهدين في الغرب، فهي تتوسع في الشرح والتعليق والتوقف أمام القضية الفلسطينية من جذورها الأولى، كما تستخدم الصور الحية المباشرة لجموع الفلسطينيين في المسيرة الكبرى أو في صلاة الجمعة في الفضاء المفتوح، وتستخدم أيضا لقطات الأرشيف والرسوم التوضيحية والتشكيلية لفنانين فلسطينيين.

في تصوير حي معاصر، تنتقل المخرجة إلى نموذج آخر لشاب من بيت لاهيا يتحدث عن الحلم المستمر بالحرية، نراه جالسا يُمدّد ساقه الموضوع في الجبس فوق مقعد، فقد أصيب بكسور وتمزق في العضلات والأوتار أثناء مشاركته في إحدى تظاهرات مسيرة العودة. وقال له الأطباء في المستشفى إنه في حاجة إلى العلاج بالخارج، وإن تأخر علاجه فسوف يتعين بتر ساقه، وقد تقدم مرتين للحصول على تصريح بالسفر، لكن سلطات الاحتلال رفضت منحه التصريح، مصنفة إياه “إرهابيا”.

مستوطنة سديروت.. تطهير عرقي مستمر منذ النكبة

يقدم الفيلم لقطة مدهشة لسكان إحدى المستوطنات في سديروت وهم يجلسون فوق سطح منزلهم، يتطلعون ويشيرون إلى تساقط القنابل فوق منازل الفلسطينيين في غزة وهم سعداء يضحكون.

ثم تروي لنا المخرجة على خلفية لقطات وثائقية قديمة من الأرشيف أن سديروت كانت بلدة فلسطينية نقية، ثم بدأ الاستيطان اليهودي هناك في زمن الانتداب البريطاني، ثم أفرغتها الجماعات الإرهابية الصهيونية من سكانها، فلجؤوا إلى قطاع غزة، شأنهم شأن 75% من سكان القطاع، فقد أرغموا على النزوح من مدن وبلدات فلسطينية أخرى.

من خلال هذا المونتاج الذي ينتقل بين الحاضر والماضي، وبين الصور المباشرة للعيش تحت الحصار والقصف في غزة، إلى صور من “النكبة” الكبرى وما أعقبها، من التهجير الجماعي وأعمال الترويع والتفتيش ورفض العودة، مع التوسع في الاستيطان الصهيوني، يؤصل الفيلم للقضية، بحيث يدرك المتفرج الغربي عندما يشاهد لقطات الصواريخ التي تنطلق من قطاع غزة تجاه مستوطنة سديروت (ونراها في الفيلم) أنها محاولة للتعبير عن الغضب والاحتجاج على ذلك الحصار، وعلى مسلسل القتل البطيء الذي تحوّل اليوم إلى شكل من أشكال الإبادة الجماعية.

نفي الفلسطينيين بالشاحنات إلى غزة.. خطة متكررة

يعرض الفيلم بعض الوثائق التي كانت سرية في مرحلة ما، ثم صدرت بعد ستة أشهر من إعلان قيام دولة إسرائيل، وتقضي بتجميع الفلسطينيين ووضعهم في شاحنات وإرسالهم إلى قطاع غزة، وتستعين المخرجة بمقولة “بن غوريون” أحد كبار مؤسسي إسرائيل، التي تقضي بضرورة التخلص من الفلسطينيين واحتلال منازلهم.

مشاركة الأطفال الفلسطينيين في مسيرات العودة في غزة

وفي إحدى هذه الوثائق نقرأ ما ينص على ضرورة هدم منازل الفلسطينيين المرحلين، بحيث تصبح عودتهم مستحيلة، وهو تحديدا ما نشاهده اليوم على أرض الواقع في هذه الحملة الإسرائيلية المستمرة على القطاع والقصف الجوي الذي يرمي لهدم وإزالة أحياء كاملة من الوجود، ودفع الفلسطينيين إلى النزوح إلى جنوب القطاع، والعيش في مخيمات، تمهيدا لدفعهم إلى النزوح خارج القطاع، تماما كما حدث في 1948.

الإعلام الغربي.. اتهام سكان غزة بالخضوع لحماس

يتوقف الفيلم أيضا أمام ما تروج له أجهزة الإعلام الغربية التي نرى عدة مقاطع منها، تتفق كلها على اتهام فلسطينيي غزة بالخضوع لمنظمة حماس، وأن حماس هي التي دفعتهم دفعا إلى تحدي إسرائيل، والمخاطرة بحياتهم وعبور ما يسمى الجدار الحديدي الفاصل بين قطاع غزة وما يسمى أرض إسرائيل.

ويثبت الفيلم من خلال الشهادات التي يصورها أن المسيرة الكبرى التي انطلقت من هناك نحو هذا الحاجز الأمني الذي أقامته إسرائيل، كانت انتفاضة عفوية لم تشعلها حماس ولم تنظمها وتدفعها. ولعل من الملفت أن هذه المسيرة السلمية التي حدثت قبل سنوات قليلة، تحولت اليوم إلى عبور للمقاتلين بشكل صادم، ولا يزال يصيب بالصدمة العسكريين الإسرائيليين والمجتمع الإسرائيلي كله.

ولعل المقاربة بين ما يصوره الفيلم من أعمال القصف والقتل ونسف المنازل والعمارات السكنية وبين ما يحدث اليوم مذهلة حقا، فالصور التي نشاهدها في الفيلم عن قرب ومن زوايا قريبة جدا، تكشف مسلسل القتل المستمر.

لقد قتل الإسرائيليون خلال تلك الفترة التي يغطيها الفيلم 200 فلسطيني، وهو ما ينساه العالم اليوم ويذكرنا به هذا الفيلم، مع أن حجم القتل ودمار المنازل والأحياء السكنية الذي يحدث اليوم، يفوق كثيرا جدا ما وقع في تلك الفترة من 2018-2019.

أحمد أبو أرتيما.. مُنظم مسيرة العودة الكبرى

كان منظم مسيرة العودة الكبرى هو أحمد أبو أرتيما، ويخبرنا في الفيلم أن فكرة المسيرة جاءته من مشاهدة الطيور التي خلقها الله وهي تتمتع بالحرية، وتستطيع الطيران فوق الحواجز والأسلاك الشائكة، فما الذي يمنع الإنسان الذي يحلم بالحرية من محاكاة الطيور.

منظم مسيرة العودة الكبرى أحمد أبو أرتيما

وهو يشير إلى قرار الأمم المتحدة 194 الذي يقر حق الفلسطينيين في العودة إلى منازلهم التي هجروا منها رغما عنهم، ولذا جاءت تلك المسيرة تعبيرا عن هذه الرغبة ورفعت هذا الشعار، وفي الوقت نفسه كانت ترد على قرار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل.

سيقف كل مشاهد لهذا الفيلم مذهولا عندما يرى مراسلا لإحدى القنوات التليفزيونية، يسأل “ميشال مايان” الناطقة باسم الحكومة الإسرائيلية: لماذا تطلق القوات الإسرائيلية الرصاص على الفلسطينيين على حاجز العبور في غزة؟ فتقول: حسنا.. لأننا لا نستطيع وضع كل هؤلاء الناس في السجون.

“انظر إنهم يهرعون لإسعافه”.. سخرية قناص الأطفال

سيقف أي مشاهد للفيلم مذهولا وهو يشاهد النساء الفلسطينيات في الصفوف الأولى للتظاهرات، وهن يحاولن اقتحام الحاجز، ولا سيما النساء العجائز اللاتي يرفعن العلم الفلسطيني، ويرددن إنهن لسن خائفات من رصاصات العدو. ونرى قوات الاحتلال تطلق على المحتجين الغاز الذي يسبب الاختناق والهلوسة ثم الموت، كما يستخدم الرصاص المحرم دوليا الذي يخترق الأحشاء والأعضاء الداخلية.

ونرى في الفيلم أيضا لقطات استثنائية لقنص رؤوس الأطفال، وهناك أيضا لقطة فيديو مصورة من الجانب الإسرائيلي من وجهة نظر الجنود، وأحدهم يشجع زميله على التصويب، ويقتل أحد الأطفال، فيفعل ليهلل زملاؤه المحيطون به ويضحكون في سعادة وابتهاج، بينما يقول أحدهم “انظر إنهم يهرعون لإسعافه.. صوّر هذا.. أبناء العاهرات”.

شباب غزة يحرقون العجلات المطاطية في مسيرات العودة في غزة

يقول الفيلم إن الأمم المتحدة سجلت الانتهاكات التي وقعت خلال مسيرات العودة، مما يتنافى مع القانون الدولي، فمنها 183 إصابة قاتلة من نيران القناصة الإسرائيليين، وهناك 171 شخصا أصيبوا بالرصاص في الرأس أو العنق، كما أصيب نحو 8 آلاف شخص بجروح، وأصيب 21 بالشلل، و122 شخصا بُترت سيقانهم بينهم 20 طفلا. أما على الجانب الإسرائيلي فلم تسجل إصابة واحدة لجندي إسرائيلي.

رزان النجار.. رصاصة غادرة تقتل مُسعفة الجرحى

ترى المخرجة أن رزان النجار الفتاة الفلسطينية التي كانت أول متطوعة لإسعاف الجرحى، هي البطلة الحقيقية لفيلمها، ونرى رزان في الفيلم وهي تتحدث عن الدور الذي تقوم به دون أن تخشى شيئا، وسرعان ما نعرف أنها استشهدت في 18 يونيو/ حزيران 2019، بعد أن أصيبت برصاصة قناص أُطلقت على رأسها أثناء إسعافها لبعض الجرحى من المتظاهرين السلميين.

رزان النجار الفتاة الفلسطينية التي كانت أول متطوعة لإسعاف الجرحى استشهدت

ولم يتوقف الإعلام الأمريكي أمام ما وقع، بل ظل يكرر مزاعم معاداة السامية، تبريرا لممارسات إسرائيل في غزة المستمرة حتى يومنا هذا.

لا يوجد فيلم وثائقي في قوة وتأثير هذا الفيلم الذي يشعر من يشاهده بأنه يمتد عشر ساعات، مع أنه لا يتجاوز في الحقيقة أكثر من 122 دقيقة، مضت كالدهر بكل هذا الألم والظلم والهدم والقتل الذي يمارس في حقول القتل في غزة.


إعلان