“سحق الثورة”.. انتفاضة شعب تكالب عليه الأقربون والأباعد

يمكننا بشيء من التبسيط المخل ربّما، أن نصِف القرن التاسع عشر بقرن الاستعداد للاستيلاء على فلسطين، وتحويلها إلى وطن قومي لليهود في العقلين المسيحي واليهودي. ويمكننا أن نصف الخُمس الأوّل من القرن العشرين بالانطلاق الفعلي في تحقيق هذا المشروع عبر شراء الأراضي، لتكون موطن قدم لليهود القادمين من أوروبا، عبر بناء مؤسسات تمهّد لتنفيذ هذا المشروع.
في بداية عام 1935 انتقل الفلسطينيون من مرحلة الإفاقة من الغفوة الطويلة وصدمة اكتشاف حجم المؤامرة التي كانت تحاك ضدّ بلادهم، إلى ردّة الفعل ومحاولة التصدّي للمشروع الصهيوني، فتفاعلوا مع الثورة المسلّحة التي يقودها عز الدين القسام القادم من سوريا للدفاع عن قدسية الأرض هناك، وأُعلن الإضراب العام أو “الإضراب الكبير” بداية من عام 1936، وظهرت انتفاضة شاملة واجهتها بريطانيا بعنف شديد خلّف نحو 200 قتيل.
ثورة القسام.. انتفاضة خذلتها النخب السياسية
تتنزّل الصحوة الفلسطينية ضمن سياق عالمي عام ظهر بين الحربين العالميتين، وتمَيز الشعوب بتصميم أكبر على التخلّص من الاستعمار.
لكن الوضعية الفلسطينية كانت أشد تعقيدا من أيّ احتلال آخر، فكان على الفلسطينيين محاربة الانتداب البريطاني، ومواجهة جحافل الصهاينة الوافدين بأعدادهم المتضاعفة في كلّ سنة. أمّا النّخب السياسية فلم تنهض من غفوتها بعد، فكان تعاطيها مع ثورة القسّام محبطا، وأعلمته عندما تواصل معها بأنّ الوقت غير مناسب لإعلان الثورة، وأنها تراهن على المفاوضات السياسية السلمية مع المحتلّ البريطاني.
ومع أن عز الدين القسام استشهد سريعا بعد محاصرته في كمين بجنين في العشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 1935، بعد معركة غير متكافئة من حيث العدّة والعتاد، فقد كان لظهوره في فلسطين ولجمع الأنصار من حوله قيمته الرمزية، إذ انخرط الفلسطينيون في مرحلة جديدة من الثورة ستمتدّ حتى انطلاق الحرب العالمية الثانية، وسيواصل أتباعه رسالته في مختلف أنحاء البلاد، وسيشار إليهم لاحقا بالقسّاميين.
اللجنة العربية العليا.. وعود صداقة وهمية تخمد الثورة
انخرط رؤساء البلديات في “الإضراب الكبير”، ممّا عطل جميع مناحي الحياة في فلسطين، وتخلّت الأحزاب السياسية عن مناكفاتها، وتشكلت “لجنة عربية عليا” من رؤساء الأحزاب الخمسة، وانتخب أمين الحسيني مفتي فلسطين رئيسا لها.
كانت اللجنة تهدف إلى تنسيق أعمال الثورة وتوحيد قيادتها، والإشراف على الحركة الوطنية. أما الأهالي -ولا سيما القرويون- فقد حملوا السلاح، وانخرطوا في مواجهة القوة بالقوة، وبالمقابل تصاعد عدوان شرطة الانتداب، وتمادت في سياسة التفتيش والاعتقال لمجرد الشبهة، وفرضت الغرامات، وصادرت الأملاك، وعاضدها اليهود؛ فأحرقوا عشرات المنازل الفلسطينية في المنطقة التي تجاور تل أبيب.

وما لبث أن فُكّ هذا الإضراب في أكتوبر/ تشرين الأول 1936، بعد استجابةِ اللجنة العربية العليا لوساطة زعماء عرب، إثر وعود بريطانية بإنصاف الفلسطينيين، فقد طالب العربُ الفلسطينيين بـ”الإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء، معتمدين على حسن نيات صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم”.
“لجنة بيل”.. خيبة أمل تفجر الشرارة الثانية للثورة
فترت أعمال الثورة، وانطلقت أعمال “اللجنة الملكية لفلسطين” التي تُعرف بـ”لجنة بيل”، نسبة إلى رئيسها “إيرل بيل” وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند سابقا، لتقترح تغييرات على الانتداب البريطاني على فلسطين.
لكن نتائجها التي صدرت في يوليو/ تموز 1937 كانت مخيِّبة للفلسطينيين، فقد أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية، ومنح ثلث الأرض إلى اليهود، والإبقاء على منطقة القدس-يافا محمية بريطانية، وضم باقي الأرض الفلسطينية إلى الأردن، وأقرت مبدأ ترحيل العرب من الأراضي اليهودية عند الضرورة، ضمن تطهير عرقي تحت مسمى “الترنسفار” أي الترحيل، وذلك تطبيقا للشعار الصهيوني “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
أعادت خيبة الأمل التوهّج للثورة من جديد، وانطلقت مرحلتها الثانية، وامتدت من يوليو/ تموز 1937 حتى خريف عام 1938، وحقّقت مكاسب ميدانية، فحرّرت مساحات شاسعة من الأراضي الجبلية.

قاد الثورة في جنين فرحان السعدي خلفا للشهيد عز الدين القسام، وفي نابلس محمد صالح، وخلفه بعد استشهاده عبد الفتاح مصطفى، فاستشهد أيضا، وفي القدس تولّى القيادة أحمد عوض يوسف أبو درة، بينما أُسندت القيادة العامة للثورة لعبد الرحيم الحاج محمد، الذي ذاع صيته بعد معركة نور الشمس قرب طولكرم.
سحق الثورة.. ألوان من القتل والتعذيب الجماعي
عمل البريطانيون على سحق الثورة بأشد ما يمكن من العنف والقسوة، فأعلنت سلطة الانتداب أنّ اللجنةَ العربية العليا والأحزاب السياسية الفلسطينية كافة غيرُ شرعية، وألقت القبض على القادة السياسيين، ونفت عددا من الشخصيات العامة المؤثرة، وواجهت غضب الأهالي على اغتصاب الحقوق بوجوه من العقوبات الجماعية، كفرض المشي على الجمر على الثوار، وحرق البيادر، وهدم المنازل، وخلط المواد الغذائية ببعضها للتنكيل بالعائلات وتجويعها.
وفي عامي 1938-1939، عُقدت عشرات المحاكمات الصورية، وأُعدم فيها 112 فلسطينيا، منهم فرحان السعدي الذي قاد ثورة البراق، لكن إعدامه سيغذي الثورة من جديد.
ولم يكن المسيحيون في مأمن من بطش البريطانيين، فتعرض غريغوريوس حجار -وهو مطران أبرشية عكا- لحادث سير غادر وهو في طريق العودة، بعد أن كان يفاوض لإطلاق سراح بعض المجاهدين بمناسبة عيد الفطر، إذ صدمته سيارة، وقُدّر أنّ الحادث مدبّر.
كان المطران صاحب مواقف وطنية وأنشطة دولية للدفاع عن الأرض الفلسطينية، فحرّم تعامل المسيحيين مع اليهود، لذلك شكّل مصدر خيبة للبريطانيين الذين توقعوا منه التخاذل والتواطؤ.

انخرط اليهود في هذا العنف، خاصّة أن البريطانيين سمحوا لهم بحمل السلاح للدفاع عن النفس “لأنهم أقلية مستهدفة”، كما عيّن البريطانيون “أورد وينغت” -وهو أحد غلاة الصهاينة البريطانيين- لتدريب اليهود على أعمال القتل والتدمير وتهجير السكان.
زرع اليهود الألغام في أسواق حيفا والقدس، ممّا أدى إلى مقتل 68 فلسطينيا، وحرّروا المجرمين من السجون وجنّدوهم، كما أسست الحركة الصهيونية نوادي فلسطينية موازية وموالية لها، لسحب البساط من الوطنيين، وللتأثير على معنويات الشعب الفلسطيني واختراق ثورته، فكانت حصيلة ثلاث سنوات من الثورة مقتل 5 آلاف فلسطيني، وفي الجانب الآخر قُتل 100 بريطاني و400 يهودي.
الانتداب والإرهاب.. حين يتحول الصديق إلى عدو قاتل
لم يعد الثوار الفلسطينيون ذوي قيادة سياسية تدعمهم، بعد نفي عدد من القادة وهروب آخرين إلى لبنان، فدب الخلاف بين سياسيين مستعدين للتسوية مع البريطانيين، وآخرين ملتزمين بالثورة، وتشكّل تنظيم سُمي بـ”فرق السلام الفلسطينية” ذو دعم بريطاني لمحاربة أنصار الثورة.
يخلص “يوجين روغان” رئيس مركز الشرق الأوسط في بريطانيا، والمؤرخ “هيليل كوهين” إلى أنّ سلطات الانتداب قضت على جيل كامل من القادة والمتمرّدين، إما بالقتل أو الجرح أو السجن أو الطرد أو الاستدراج.
على المستوى السياسي، أوفد البريطانيون لجنة بقيادة السير “جون وودهيد”، وقد خلصت إلى أنّ مشروع التقسيم المقترح في 1937 ليس عمليا، ثم عقدوا مؤتمرا دوليا في لندن سنة 1938 شارك فيه بعض الدول العربية، وأصدروا إثره وثيقة تحت مسمى “الكتاب الأبيض” سنة 1939، تتضمّن استقلالا مشروطا لدولة فلسطينية بعد فترة انتقالية مدتها عشر سنوات.
في هذه الأثناء، بات إعلان الدولة اليهودية قريبا، وأخذ اليهود يستعدون للحسم، فأرسلوا جيشا قوامه 15 ألف جندي، للمشاركة في الحرب العالمية الثانية مع الجيش البريطاني، ولاكتساب الخبرة بحمل السلاح، والتمرّس بالحروب، وأضحى لهم جيش نظامي له فريق جوي لا نظير له عند الفلسطينيين.
تفجير السفينة اليهودية.. ضغوط لتعجيل إقامة الدولة
عملت الاستخبارات البريطانية على جمع المعلومات حول كل قرية فلسطينية ضمن مشروع بعنوان “ملف القرى”، وكان هدفه ضبط الارتباط السياسي لكل قرية، ورصد الممتلكات التي يمكن للصهاينة الاستيلاء عليها، وتسجيل مختلف التفاصيل عن هندسة المباني، لمعرفة كيفية الدخول إلى القرية، ومعرفة نوعية الأراضي لتنظيم أولوياتهم في الاستيلاء عليها، وكانت عناصر الاستخبارات تستغل كرم الضيافة العربية، للدخول إلى الديار وجمع هذه المعلومات.
بدأت بوادر التمرّد على وجود اليهود في فلسطين تظهر، فحدّد البريطانيون سقفا لعدد اليهود في فلسطين لا يسمحون بتجاوزه، بينما كان الصهاينة ينظمون رحلات خارج النظام المتفق عليه، ومنها رحلة السفينة “باتريا 1940” الفرنسية التي كانت تقل 1800 مهاجر، وهم “غير شرعيين” من المنظور البريطاني.
ولزيادة الضغط عليها، فجرت العصابات اليهودية جانبا من السفينة، مما أدّى إلى مقتل 240 يهوديا، ولم يكن ذلك يزعج هذه المنظمات، فبناء هذا الوطن الموعود يستحقّ مثل هذه التضحيات، ثم أصبح البريطانيون أنفسهم هدفا لإرهاب العصابات الصهيونية التي تطالب بإنهاء الانتداب، ليتسلّم اليهود الدولة.
ففي عام 1946، نفّذت العصابات الصهيونية هجمات استهدفت قطارا في ضواحي القدس، ثم فجرت جناحا بكامله كان يضم قيادة الشرطة من فندق الملك داود، وقتلت 91 شخصا. وفي عام 1947، فجرت نادي الضباط البريطاني في القدس، وقتلت 16 من أفراده، ثم اختطفت جنديين وعلقتهما مشنوقين في حقل في نتانيا، وبلغت حصيلة القتلى البريطانيين 169 بريطانيا بين سنتي 1946-1947.
الولايات المتحدة.. رهان على سيدة العالم الجديد
قدّم البريطانيون كل ما بوسعهم للعصابات الصهيونية، لكن في المؤتمر اليهودي عام 1942 بنيويورك، اجتمعت 600 شخصية صهيونية برئاسة “حاييم وايزمان” و”دايفيد بن غوريون”، وقرّروا نقل ثقل التنسيق اليهودي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة.
وفي المؤتمر اليهودي عام 1944 بمدينة أتلانتا الأمريكية، انقلبت هذه المنظمات على بريطانيا، وطالبت بإخراجها من فلسطين، وتوفير حماية دولية لليهود، وإنشاء مجتمع على كامل الأراضي الفلسطينية “يكون مُخلصا لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط”، وبسبب هذه المطالب نُفّذت العمليات الإرهابية التي ذكرناها سابقا ضد بريطانيا.
وسريعا ما خضعت الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها، وحدّدت 15 مايو/ أيار 1948 تاريخا لإجلاء قواتها.
ويكشف هذا التحوّل البراغماتية المطلقة للعقل الصهيوني، فبريطانيا باتت تتراجع حضاريا وعسكريا، والولايات المتحدة المنتصرة الكبرى في الحرب العالمية الثانية باتت تحلّ محلّها لتكون سيدة العالم الجديد، وللصهاينة علاقاتهم الجيّدة بالحزبين الكبيرين فيها، ولهم أساليبهم الكفيلة بإخضاعهما.
ومقابل النجاعة والبراغماتية الصهيونيتين، كان موسى العلمي السياسي البارز وممثل فلسطين لدى الجامعة العربية يردّد أن المواجهة ستكون بين 40 مليون عربي و600 ألف يهودي، وأنّ الحرب ستكون فسحة، أما أمين الحسيني مفتي القدس، فقد ظل يرابط بإيطاليا أربع سنوات، منتظرا فوز المحور، لاستصدار وعد باستقلال فلسطين، ثم غادرها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء، ليقيم في فرنسا.
تفضح هذه الحلقة إذن الإصرار البريطاني والبراغماتية الصهيونية، وتكشف أنّ النكبة العربية كانت تحدث بالنفوس قبل أن تتحقّق على الأرض سنة 1948.