“التطهير العرقي”.. حفلات الدماء التي قامت عليها دولة الاحتلال

تبدأ الحلقة الثالثة من سلسلة “النكبة” بمشاهد من تقرير بريطاني حول جمع برتقال يافا وتصديره لبريطانيا في أجواء من المرح. ولا شكّ أنّ المخرجة أرادته سبيلها لاختزال بقايا الفرح الذي يوشك على الزوال نهائيا، بمؤامرة صهيونية بريطانية دولية، تمر عبر مكاتب الأمم المتحدة.

فبعده مباشرة تأخذنا إلى جلسة الجمعية العامة الأمم المتحدة في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، وهي تصادق على القرار 181 الذي يقسّم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، ويطلب أن “ينتهي الانتداب على فلسطين في أقرب وقت ممكن، على ألا يتأخر في أي حال عن 1 أغسطس/ آب 1948.

ومن وجوه المؤامرة أن هذا القرار منح لليهود ما نسبته 55% من مساحة فلسطين، وكانوا لا يملكون غير 5.5% من الأرض. أما ما مُنح للفلسطينيين، فلم يكن قابلا للتجسيم على الأرض، فيافا منقطعة تماما عن بقية الأراضي الفلسطينية، وغزة منعزلة على أراضيها الفلاحية. واتضح مدى اختراق الحركة الصهيونية لمواقع القرار في دول كثيرة، وقد اعترف عدد من المندوبين الدوليين الذين صوتوا لصالح القرار الظالم بدور الولايات المتحدة الأمريكية، فقد مارست الضغوط وقدّمت الرشاوى.

مثّل القرار حبل نجاة لبريطانيا بعد أن وُجه سلاح الصهاينة ضدّها، فقد أُحصي في هذه الأثناء أكثر من 500 عمل إرهابي يهودي ضدها، ولم يكن جنودها هناك البالغين 175 ألفا قادرين على مواجهته، لأسباب لا تتعلّق بموازين القوى بكل تأكيد.

والأغرب أنّ بريطانيا كافأت هذا الإرهاب بأن تركت لليهود كلّ معدّاتها الحربية، بما في ذلك الطائرات، مقابل مبلغ زهيد قدره 5 ملايين جنيه، عند إنهائها للانتداب بعد سنتين، ومع أنها أقرت تاريخ 15 مايو/ أيار تاريخا لإنهاء الانتداب رسميا، فإنها نقلت كلّ الصلاحيات عمليا إلى الوكالة اليهودية منذ بداية السنة 1948.

زرع الرعب.. عمليات إرهابية ومجازر في القرى الفلسطينية

كان الجميع يعي أنّ نهاية الانتداب البريطاني تعني حتما المواجهة المباشرة بين اليهود والفلسطينيين، فربط الطرف اليهودي الوعي بالإنجاز، وكانت الاجتماعات التنسيقية تلتئم أسبوعيا، للتخطيط لطرد الأهالي من قراهم جماعيا.

وطورت العصابات الصهيونية صناعة قاذفات اللهب لحرق القرى، واختبرتها ميدانيا في خمس قرى، وتولت عصابةُ “بالماخ” التي يقودها الضابط “إسحاق رابين”، الذي سيحصل على نوبل للسلام لعام 1994، تدميرَ تلك القرى وطرد 1500 قروي منها، واكتشفت عندها أنّ الأمر سهل، وأنه لا توجد حماية أو تنسيق بين البلدات، سوى مبادرات الأهالي للدفاع الغريزي عن أنفسهم.

ولزرع الرّعب في نفوس الأهالي حتى تتيسر عملية تهجيرهم لاحقا، نفّذت هذه العصابات عمليات إرهابية عدة، ففجرت في بداية 1948 مبنى السرايا الكبير في يافا، ثم فندقا بالقدس. ونفذت عشرات التفجيرات في القرى، واستعانت بالمستعربين، وهم الصهاينة الذين يرتدون أزياء عربية ويندسون بين الأهالي، لتنفيذ هجمات على الطريق في حيفا في النصف الثاني من يناير 1948.

فكانت حصيلة هذه الهجمات التي تبناها “بن غوريون” قائد عصابة “الهاغانا” وفق أرشيف بريطاني في أكسفورد، قتل 100 عربي في يوم واحد.

على المستوى العسكري، كان لدى الوكالة اليهودية التي تسيطر عمليا على فلسطين 35 ألف عنصر من جيش “الهاغانا” ووحدات خاصة يصل تعدداها إلى 10 آلاف عنصر، فضلا عن مؤازرة عصابات أخرى منها “الأرغون” و”بيتار” و”شتيرن” و”بلماح” والمستعربين، وكانت خبراتهم الميدانية تتراكم يوما بعد يوم.

“جيش الإنقاذ”.. حشود وأسلحة تواجه إرث بريطانيا

مكّن البريطانيون قبل انسحابهم اليهودَ من 2700 مبنى حكومي، و50 محطة قطار، و3 آلاف كلم معبد، وموانئ، و37 معسكرا بأسلحتها وقطع غيارها. لذلك فمن البديهي أن يعبّر الجنرال “دارسي” قائد القوات البريطانية عن اطمئنانه لأن جيش “الهاغانا” وحده يستطيع السيطرة على فلسطين، ضد كل القوات العربية.

وتمثّل الاستعداد من الجانب العربي في حشد مجلس الجامعة العربية لنحو 3 آلاف مقاوم فلسطيني ودعمهم بجيش من 4 آلاف متطوع عربي، أُطلق عليه اسم “جيش الإنقاذ”، وتشكيل لجان محلية حاولت التزود بالسلاح من لبنان وسوريا والعراق.

ولكن لم يتحرّك على الأرض إلا أصحاب المبادرات الفردية، وكان دافعها الحمية العربية، فقد سعى الأردني محمد الحمد الحنيطي قائد حامية حيفا في الجيش العربي إلى تحفيز الهمم وتدريب المناضلين في مارس 1948، وحين مورست عليه الضغوطات قدم استقالته، وتطوع للدفاع عن الفلسطينيين وإعدادهم للقتال، لكنه وقع ضحية لكمين صهيوني واستشهد.

واجتمع عبد القادر الحسيني بقادة اللجنة العسكرية لفلسطين، التابعة للجامعة العربية، وطلب منها مدّه بالسلاح، ولكن ردّها كان مخيبا، لعدم رغبتها في مواجهة بريطانيا أو إزعاجها. ويذكر طارق سويدان في “تاريخ فلسطين المصور” قوله: نحن أحق بالسلاح المخزّن من المزابل، إنّ التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم.

وقد استُشهد الحسيني خلال معركة القسطل في 8 أبريل/ نيسان 1948.

إحراق القرى.. حملات الموت والتهجير تحت عيون الإنجليز

كانت القوات اليهودية تستهدف القرى وترتكب المجازر وتدمّر البيوت وتحرقها بعد أن تنهبها، وتتمثّل خطّتها في محاصرها من ثلاث جهات، وترك ناحية منها مفتوحة، فمن هرب وترك داره سلم، ومن لم يهرب قُتل، وعلى هذا النحو كانت القرى تسقط الواحدة تلو الأخرى، وكانت المذابح تتوالى.

ففي مذبحة دير ياسين، قتلت العصابات و”الهاغانا” 100 قروي قرب مكتب مدير الشرطة البريطانية، وعندما أُعلم بالخبر -وهو المسؤول قانونيا عن حماية الأهالي- لم يتحرك، وقال هذا ليس من شأني. وتبيّن لاحقا أنّ أوامر رسمية كانت تطلب منه عدم التدخل.

ويصف الشرطي البريطاني “جيرالد غرين” -الذي كان شاهدا على عمليات الإبادة والتهجير- سلاسل النازحين من حيفا والمهجرين على الأقدام أو في شاحنات، لا يحملون سوى أجسادهم، ويتحدث عنهم بكثير من الشجن والتحسر، لأنه كان ملزما بعدم التدخل.

أما أنيس الصايغ رئيس تحرير الموسوعة الفلسطينية، فيذكر طرد المسيحيين من طبريا في أبريل/ نيسان من قِبل الجيش البريطاني نفسه، فقد طُلب من والده -وهو قس البلدة- المغادرة، حتى يتبعه أبناء الطائفة، وحين رفض نُقل في شاحنة عنوةً ورُحّل.. ولم يبق غير عدد محدود من المقاتلين قاموا بتصفيتهم.

وكان الرجال يؤخذون إلى معتقلات مؤقتة، ليعدم بعضهم لاحقا في الساحات العامة، لإرهاب الباقين، ويستخدم آخرون للمساعدة في نهب الممتلكات للصهاينة، أو لدفن الجثث خوفا من الأوبئة، ونُهبت المكتبات الشخصية، ونقلت إلى الجامعة العبرية بالقدس.

ويعرض المؤرخُ الإسرائيلي “إيلان بابه” صاحب الكتاب “التطهير العرقي في فلسطين” حصيلةَ هذا الإجرام، فقد هدمت 530 قرية، وارتُكبت عشرات المجازر، وهُجّرت 850 ألف فلسطيني، أي 85% من السكان.

“نظفوا”.. تطهير عرقي ينطق به الورق وينكره الاحتلال

أمر “ديفيد بن غوريون” العصابات الصهيونية بقتل الفلسطينيين وطردهم بعبارة وحيدة “نظّفوا”، ثم كتب في مذكراته لاحقا أنه كان يجب إيقاع ضربة حاسمة في كل هجوم ضد الفلسطينيين، ولكنّ الخطاب الرّسمي الإسرائيلي كان ينكر باستمرار ارتكاب عمليات تطهير عرقي، ويعد ذلك تزييفا، وكان يذكر دائما أنّ مغادرة العرب كانت طواعية، فهم كانوا يتوقعون عودة مظفرة بعد قيام الحرب المنتظرة.

تثبت كلّ الوقائع أنّ التطهير العرقي كان عملا مخططا، لمحو وجود العرب من أراضيهم، على أساس ديني وعرقي وقومي. ويؤكّد المؤرّخ “إيلان بابه” أنه استوفى أركان الجريمة الكاملة، بداية من طرد السكّان الأصليين عبر القتل والتخريب، إلى العمل على محوهم من التاريخ، وإسقاطهم من الذاكرة عبر التزييف والاجتثاث، لضمان أنهم لن يعودوا أبدا.

فقد وظّف الإسرائيليون الخطة “داليت” (أو د)، التي وضعتها منظمة “الهاغانا” في فلسطين بين خريف 1947 وربيع 1948. وكانت تهدف إلى تأمين تأسيس دولة يهودية، عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، وطرد أكبر عدد ممكن من السكان، وفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض.

فقد جاء في الأوامر للألوية بالانطلاق في العملية ما يلي: سوف تنتقلون إلى الحالة “داليت” من أجل التنفيذ العملي للخطة. ستحدد القرى التي يجب احتلالها وتطهيرها أو تدميرها، بالتشاور مع مستشاريكم في الشؤون العربية وضباط الاستخبارات.

بيان الاستقلال.. عصابات صهيونية تتسلم دولة جاهزة

في 14 مايو/ أيار 1948، أُعلنت نهاية الانتداب رسميا، فأنزل العلم البريطاني، وحل محله علم الاحتلال الإسرائيلي، وقُدّم بيوم لتوافق الخامس عشر من مايو مع يوم سبت.

تسلم “بن غوريون” دولة جاهزة بجميع مؤسساتها، وكل ما تغيّر هو غياب الموظّف الفلسطيني الذي كان يجلس على المكتب، فقد هُجره أو قتل. وقُرئ بيان الاستقلال، مفتتحا فصلا آخر من فصول التزييف الذي قبلته الدول الغربية برِياء، واعترفت بوجودها.

فإسرائيل لم تكن موجودة لتحتل، ولكنه كان إعلانا لنجاح المشروع الصهيوني في سرقة فلسطين من أهلها، وانتزاعها من تاريخها على كل حال، فقد كان شراء الأراضي نقطة ارتكاز لجلب اليهود حتى يسكنوها.

ثم بدأت عملية التوسع التدريجي برعاية بريطانية، فقد كان عدد اليهود في فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر 3 آلاف فرد، وعند إعلان الانتداب في 1917 كان عددهم يبلغ 50 ألف نسمة، وبعد ثلاثين سنة من التواطؤ البريطاني والتخاذل العربي تضاعف عددهم عشر مرات ليدرك 500 ألف.

وتواصل التطهير بعد إعلان الدولة، بارتكاب المذابح وموت الكثير من المهجرين عطشا. يروي المؤرخ الإسرائيلي والباحث في المذابح الصهيونية “ثيودور كاتس” عن يهودي رفيع المنصب، هولَ مجزرة الطنطورة في 22 مايو/ أيار 1948. فقد طُوّقت المدينة بالكامل، وأغلق الساحل لمنع الأهالي من الهرب، وقُتل المئات منهم. وكان الجندي يسأل الرّجل منهم: أين بندقيتك؟ فإن نفى أن له بندقية يقتل، وإن أخبر عن موقعها يؤخذ إليه مربوطا بحبل، وتفتك البندقية، لكن صاحبها لن يظهر أبدا.

بعدئذ أخذ الرجال إلى المقبرة، ونُظموا في شكل طوابير، وأُمروا بحفر خنادق، وكان الجنود يطلقون الرصاص على المجموعة التي تنهي حفر الخندق، ليسقط عناصرها فيه، لقد كانوا يحفرون قبورهم بأنفسهم، وينتهي إلى أنّ الصهاينة قد زرعوا في أذهان الجنود أنّ الفلسطينيين ليسوا بشرا.

“أحداث موت معلن”.. مؤامرة كبرى على رؤوس الأشهاد

“أحداث موت معلن” هي رواية لـ”غابرييل غارسيا ماركيز”، اقتبسها من واقعة حدثت عام 1951 في الريف الكولومبي، مسقط رأسه، فقد قُتل “سانتياغو نصار” العربي الأصل على يد الأخوين “فيكاريو”، انتقاما لشرف العائلة، عندما اكتشفا أن أختهما غير عذراء، وحمّل هو مسؤولية ذلك.

ومع أنّ الأخوين كان يجوبان الأحياء، ويعلنان عن عزمهما على قتله، لم يتدخّل أحد ليحذّره، وعندما هاجمه الأخوان لم يعلن هو براءته مما يُنْسَب إليه، ولم يفعل شيئا لينجو بنفسه. فقد قدمه “ماركيز” كأنه راض بمصيره، وبعد أن طعن عدة طعنات، سار وهو يحمل أمعاءه المتدفقة أمامه، حتى دهمه الموت في المطبخ.

وكل فلسطين كانت “سانتياغو نصار” على نحو ما. فكل وقائعها “أحداث نكبة معلنة”، فقد كان الصهاينة يعلنون عزمهم الاستيلاء على فلسطين على الملأ، وجميع الأمم كانت تعلم بالخطّة. والقادةُ، فلسطينيين وعربا، لم يفعلوا شيئا ليدافعوا عنها.

فلم يكن بوسع القوات العربية لتحرير فلسطين أن تفعل شيئا، لتفاوت القوى، على الرغم من حماسة أفرادها، وربما كان الفرق الوحيد بين القصتين أن فلسطين تحمل أمعاءها، ولكنها لم تسقط بعد، ويبدو أنّ عليها أن تعوّل على مناعتها الذّاتية للنجاة، في ظل امتناع الجميع عن إسعافها.


إعلان