“سيطرة الاحتلال”.. خنجر غربي صهيوني في خاصرة الوطن العربي

جاءت سلسلة “النكبة” أقرب إلى رثائية يمتدّ قسم التفجّع والكارثة منها طويلا، ولا يكاد قسم التأبين الذي يعنى بذكر محاسن الفقيد يذكر، أما التأمل والحكمة فهما ماثلان في السلسلة، ولكنّ المتفرّج مدعوّ إلى الحفر تحت الطبقة السطحية من الخطاب ليصل إليهما.

ولم يمثل الجزء الرّابع غير تقليب على الأصل نفسه، فقد اتجه الشطر الأول منه نحو المزيد من الشجن، وعرض شهادات عن الشقاء الفلسطيني وفظاعة العدوان، ففصّل ما واجهته الذّات الفلسطينية من العطش والجوع والمرض، والمبيت في العراء في الحقول تحت أشجار الزيتون في الحرّ والقرّ بعد فقد الديار والأملاك وتشرّد الأحبة.

وتوالت مشاهد الأهالي وهم يقفون في الطوابير الطويلة للحصول على الأكل الوسخ الزهيد، فكان يضج بالمؤثر الوجداني الذي ينتزع المرء من حياده مهما كانت قسوته. وكانت فظاعة الوقائع تتجاوز ما يحدث في الحروب عامّة، وتتحوّل إلى إهانة للذات البشرية مطلقا، بصرف النّظر عن العرق والدين واللغة والتاريخ.

في تلك الأثناء كان الإسرائيليون يواصلون بسط نفوذهم على الأراضي، فاحتلوا نحو 85% من بلدة القدس التي ينص القرار الأممي على أن تكون تحت إشراف دولي، واختُزلت الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية التي ستتحول إلى الإشراف الأردني في اتفاقيات لاحقة، وقطاع غزة الذي سيمنح للإشراف المصري، وسيلغى اسم فلسطين من التداول، وسيعملون على محوه من الذّاكرة. ولم يبق للذات الفلسطينية لتجد تماسكها وصلابتها، غير الحلم والذّاكرة والأمل بالعودة وبدعم عربي لن يأتي أبدا.

يقسم الشيخ حسني محمد صمادحة من أبناء قضاء حيفا، أنه من يوم هجّر لم ير في منامه حلما إلا وكانت قريته مكانا له.

نكبة الأندلس وفلسطين.. ما أشبه الليلة بالبارحة

في الشطر الثاني من الجزء الأخير من السلسلة، يتجه العرض نحو خطاب عقلي يتأمل ما وقع، ويحاول فهم القانون العميق للعلاقات الدولية التي جعلت الشعب الفلسطيني يذهب ضحية لمظلمة قد لا يضاهيها غير فظاعة التجارة المثلثة التي استباحت عبودية الجسد الإفريقي، ويدفعنا إلى ربط النكبة الفلسطينية بالمحنة الأندلسية.

فقد شابه البند الخامس من اتفاقية فيصل – وايزمان في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 التي تمنح فلسطين لليهود أملا في “زيادة توطيد حسن التفاهم الذي بينهما”، البند الرّابع من معاهدة تسليم قرطبة إثر حروب الاسترداد.

جاء في هذا البند: يسمح صاحبا السمو وسلالتهما للملك أبي عبد الله الصغير وشعبه أن يعيشوا دائما ضمن قانونهم -أي بممارسة الشعائر الإسلامية- دون المساس بسكناهم وجوامعهم ومناراتهم، وسيأمران بالحفاظ على مواردهم، وسيحاكمون بموجب قوانينهم وقضاتهم، حسبما جرت عليه العادة، وسيكونون موضع احترام من قبل النصارى، كما تحترم عاداتهم وتقاليدهم إلى غير حين.

ونصّت المادّة الخامسة من اتفاقية فيصل – وايزمان على أنه: يجب ألا يسن نظام أو قانون يمنع أو يتدخل بأي طريقة ما في ممارسة الحرية الدينية، وأن يسمح على الدوام أيضا بحرية ممارسة العقدية الدينية، والقيام بالعبادات دون تمييز أو تفصيل، ويجب ألا يطالب قط بشروط دينية لممارسة الحقوق المدنية أو السياسية.

ووجه المهزلة في أنّ ملك غرناطة أبا عبد الله محمدا الثاني عشر، سلم المدينة إلى الملكين الكاثوليكيين بعد حصار خانق استمر تسعة أشهر، أما فلسطين فسلّمت فداءً لما سُمي “القرابة الجنسية والصلات القديمة القائمة بين العرب والشعب اليهودي”.

وبصرف النّظر عن الخطب الحماسية، فكل ما وقع على الأرض أو دار في قاعات الاجتماعات منذ قيام الانتداب البريطاني، لم يكن غير نسخ محيّنة من هذا الاتفاق، فالعرب قد تخلوا عن فلسطين بقصد ونية وثقة في الصداقة البريطانية، ثم إكراما للصداقة الأمريكية.

احتلال فلسطين.. تحالف بين عقائد اليهود وأطماع الغرب

من المؤكد أنّ للجانب العقدي دوره في الاستيلاء على فلسطين، فرغبة اليهود في بناء جبل الهيكل وحلمهم بالتمدد، لبسط نفوذ دولتهم من النهر إلى النهر -كما في معتقداتهم- غير خافية، حتى أن العلَم يرمز إليها.

ولا شك أنّ الشرائع اليهودية تظل طرفا متحكما في اللعبة السياسية، فالتوراة تمنع معتقديها من إبرام صلح أبدي مع العرب، ونبوءاتها تحتاج إلى استمرار الصراع معهم، حتى يقوموا بالدور الذي أوكلته لهم عند اقتراب العصر الميسياني، عصرِ ظهور المسيح، وتخليصه للكون من الآثام ونشره للعدل، فـ”ـلذّته تكون في مخافة الرب”، وفق تفسير سفر أشعياء، “فلا يقضي بحسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويُميت المنافق بنفخة شفتيه”.

فعندها فقط ستتحد البشرية المؤمنة في جسد واحد، وتحمل طبيعة الحب والسلام، فتختفي من حياتها كل ثورة أو عنف أو حب لسفك الدماء والقتل أو التخريب والتدمير. (فَيسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعاً، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُه، وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَان، ترْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعاً، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْناً، وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوانِ).

وبدون تخريب أرض العرب وتدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل مكانه، لن يأتي هذا المسيح المخلص.

لكنّ الوجه الثاني للاستيلاء على فلسطين توسعي ذو عمق عسكري واقتصادي يتخفى بالدين، فإسرائيل تمثل موطئ قدم لأمريكا يخوّل لها مراقبة الشرق عامة، وفي الآن نفسه تمثّل ضمانةً لإخضاع العرب أعداء الغرب الحضاريين المحتملين، لذلك يتساءل المفكر العربي عزمي بشارة في الشطر الثاني من هذه الحلقة: لماذا اختاروا فلسطين؟

ويجيب: “لأنها كانت في الطريق بالنسبة إلى الغرب، ولو لم تكن هي لكانت غيرها”. فليس المقصود فلسطين بالذّات بل العالم العربي، منبع الثروات للسيطرة على الاقتصاد، ولا شكّ أنّ الفهم العميق لوقائع التاريخ، يجعلنا ندرك أن فلسطين ليست قضية فلسطينية إطلاقا، إنها قضية عربية تعني كلّ العرب، واستهدافها هو استهداف للعرب كلّهم.

جوائز نوبل للسلام.. مكافآت لتكريم قادة العصابات الصهيونية

لا يمكن حصر الإرهاب الصهيوني ضد الفلسطينيين والبريطانيين، فحتى الأمم المتحدة نفسها لم تسلم منه، فقد رأى مبعوثها الكونت “فولك برنادوت” عند زيارته لفلسطين في سبتمبر/ أيلول 1948، أن ما يحدث فيها إهانة لمبادئ العدل، واقترح وضع حدا للهجرة اليهودية، ووضع القدس بأكملها تحت السيادة الفلسطينية، وهو ما أثار حفيظة اليهود، فاتفقت منظمتا “أرغون” برئاسة “مناحيم بيغن”، و”شتيرن” برئاسة “إسحاق شامير” -الذي يفتخر في مذكراته بعملياته الإرهابية- على اغتياله، وكان لهما ذلك أثناء هذه الزيارة.

وتولى نائبه “رالف جونسون بنش” الذي خلفه في المهمة، عقد هدنة بين إسرائيل وكل دولة عربية من دول المواجهة على حدة.

مقابل هذا الإرهاب الموجه، كان الجميع يتسابق لإرضائهم، ويقدّم لهم المكافآت السّخية بداية من اتفاقية فيصل- وايزمان التي تمنحهم فلسطين وقسما كبيرا من الشّام، ثم عمل البريطانيون خلال 30 سنة من الانتداب على تحقيق وعد بلفور، وتسخيرهم لكل طاقاتهم في سبيل ذلك.

فقد مكّنوهم من دولة جاهزة بأرضها ومؤسساتها، وتركوا لهم أسلحتهم وكلّ متعلقاتهم في فلسطين، بعد إنهاء الانتداب يوم 14 مايو/ أيار 1948، وكذلك تسخير كل قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لفائدتها، مثل قرار التقسيم رقم 181 عام 1947، أو إهمال القرار رقم 194 الذي يكفل حرية الوصول إلى القدس، والسماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم، ومنح تعويضات للذين يختارون عدم العودة، أو قرار مجلس الأمن رقم 69 ‏لعام 1949‏ الذي يوصي بقبولها عضوا في الأمم المتحدة، لأنها “دولة محبة للسلام، وقادرة وعازمة على تنفيذ الالتزامات التي يتضمنها الميثاق”.

وفضلا عن ذلك كوفئ رموز إرهابها والمتواطؤون معها بجوائز نوبل للسلام، ففي عام 1950 مُنحت جائزة نوبل للسلام إلى “رالف جونسون بنش” الذي خلف الوسيط الدولي للأمم المتحدة الكونت “فولك برنادوت” المغدور، وذلك عن وساطته التي منحت الضفة الغربية للأردن وغزة لمصر.

وفي عام 1978 مُنحت الجائزة أيضا إلى “مناحيم بيغن” قائد عصابة “الأرغون” التي جعلت البريطانيين والوسيط الدولي للأمم المتحدة هدفا لإرهابها، ثم مُنحت إلى “إسحاق رابين” عام 1994 وهو المسؤول عن تهجير القرويين، وتدمير قراهم في بداية عام 1948 تمهيدا للتطهير العرقي الكبير.

تحرير فلسطين.. حلم باعته النخب ووفى له المهمشون

لا تفسير لهذه المفارقة العجيبة بين الجريمة والثواب إلا باستقراء مادة الفيلم الغزيرة لاستخلاص العبر، فنفوذ اللوبي الصهيوني، والتزام أعضائه بمشروعه بكل الوسائل، له دور كبير، فهذا اللوبي يعمل على اختراق كل الكيانات وتطويعها لصالحه، ويمسك بكل أوراق اللعب، ويرتهن أصحاب النفوذ في العالم عبر الرشوة أو التهديد بالتصفية الجسدية أو السياسية، ويجلب التمويلات في شكل إسهامات من الشركات العالمية المتعاطفة ضمن سياسة براغماتية تضع الهيمنة على الإعلام والثقافة وأسواق الذهب والمال في قائمة أولوياتها.

وبسبب مرونته لم يجد حرجا في التحول من التحالف مع بريطانيا -وهي صاحبة الفضل في زرعه بالوطن العربي- إلى التحالف مع الولايات المتحدة، حالما صعدت في السلم الحضاري بعد الحرب العالمية الثانية، وأصبحت القوة العالمية الأولى.

أما مشروع تحرير فلسطين، فيظلّ إلى اليوم ليس له مؤمنون حقيقيون به، يعملون فعليا على تنفيذه من غير الأهالي الواقفين على الجمر، فلا يمكن إطلاقا أن نقارن بين التزام الصهاينة في مشروع بناء دولتهم القومية على بطلانه الأخلاقي، والتزام العرب بالعمل على تحرير أرضهم رغم مشروعيته الأخلاقية والقانونية.

أما الصادقون في نصرة فلسطين، فيظلّون على هامش مواقع القرار الدولي، عاجزين عن الفعل والتأثير. وأما النخب السياسية، فمتراخية أو متواطئة أو تثق بحسن نيات “صديقتها بريطانيا” ثم “صديقتها أمريكا”، فلا ترغب في إغضابهما، وترغب في منحهما المزيد من الوقت، ريثما تصبح الظروف مناسبة لتحرير فلسطين.

حوار الأديان.. تغطية على عنصرية وحقد دفين

كلّما طرحت المسألة الفلسطينية جرى الحديث عن حوار الأديان والحضارات، ولا شكّ أنه خطاب رائع، فلا حبل لنجاة الإنسانية دونه، ولكن هذا الحوار ليس اليوم أكثر من شعار يستعمل استعمالا منافقا، ويقع العرب والمسلمون ضحية لزيفه.

فكل الوقائع تكشف أنّ قطاعا كبيرا من المسؤولين الغربيين “العلمانيين” الذين يرفضون الرّبط بين الدين والسياسة، يتصرّفون من منطلق حقد ديني، وأنهم لم يغفروا أبدا للإمبراطورية الإسلامية تمدّدها حتى إسبانيا وصقلية وجنوب إيطاليا، وتمدّدها في الشرق الأوروبي حتى البحر الأسود زمانا.

لذلك يغرسون في خصرها الخنجر الصهيوني حتى لا تنهض من جديد. وبالموازاة مع حوار الأديان، تنشد الفلسفة المعاصرة تحقيق قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، لكنّ قضية فلسطين هي الاختبار الذي تسقط عنده كل مقولاتها، ويكشف عبره زيف خطابها.

وحرب إسرائيل لمحو غزّة من الخريطة هذه الأيام بتواطؤ غربي كامل؛ تكشف أنّ الإنسانية تعيش ذروة التوحش، وأنّ شعارات القيم الإنسانية التي ترفع هنا وهناك ليست غير مساحيق لتجمل صورة “دراكولا” الذي يسكن عصرنا.


إعلان