“فرويد الشاب في غزة”.. طبيب نفسي سخّر نفسه لعلاج آثار ما بعد الصدمة

يرسم الثنائي السينمائي السويدي “بيو هولمكفيست” وزوجته “سوزان خاردليان” بورتريها سينمائيا لطبيب نفساني فلسطيني من مدينة غزة، ومن خلال مرافقتهما له في عمله ونقل تفاصيل عيشه بين أهله وناسه تتشكل في الخلفية صورة لمدينة تعاني صعوبات جمة، ويُقاسي أهلها حصارا جائرا تفرضه عليهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب قيام جيشها بهجمات دموية متكررة، يروح ضحيتها كثير من الفلسطينيين الأبرياء.

كل ذلك تنعكس آثاره النفسية على سكان القطاع، ولا سيما أطفاله الذين يُخصَّص لهم حيز واسع من مساحة فيلم “فرويد الشاب في غزة” (Young Freud in Gaza) الذي أنتج عام 2008.

عائد.. طبيب نفسي يرى مرضاه أفرادا من عائلته

يبدأ رسم بورتريه الطبيب النفساني عائد في الفترة الزمنية الممتدة من 2006 حتى 2008، إذ يظهر الطبيب الشاب وهو يسير وسط شوارع المدينة، متوجها نحو بيوت منها، يدخلها متطوعا ليقابل داخلها شخصيات تعاني من أزمات نفسية.

يأخذ الوثائقي شخصيات محددة منها، ويركز خلال مساره على ملاحظة تطور حالاتها المرضية، أغلبيتهم كانوا من النساء والأطفال، لهذا يركز عليهم أكثر، لأن أحوالهم في الغالب تؤشر على الحالة العامة لمدينة تشهد صراعات سياسية لا يتجاهلها الوثائقي، لكنه لا يضعها في مركز اهتمامه، وبشكل خاص الصراعات التي برزت بين الفصائل والتنظيمات الفلسطينية بعد فوز “حماس” في الانتخابات التشريعية عام 2006.

يستخدم الطبيب عائد أسلوبا خاصا في المعالجة النفسية، يعتمد قبل كل شيء على خلق حالة من الثقة المتبادلة بينه وبين المريض، وبعدها يطلب منه الاسترخاء على أصوات الموسيقى، ليشرع من خلال سماعها بطرح أسئلته عليهم، وانتظار الإجابة عليها من دون إلحاح، فهو يعامل مرضاه كأنهم أفراد من عائلته يحزن لوضعهم ويتعاطف معهم، لهذا لا يتردد بالتطوع لمعالجتهم في بيوتهم خارج أوقات دوامه الرسمي، وخارج المشفى الذي يعمل فيه.

“آثار ما بعد الصدمة”.. بقايا همجية الاحتلال في النفوس

يُلاحظ أن أكثرية المرضى يعانون من الحالة النفسية المسماة “معاناة آثار ما بعد الصدمة”، وأن الموت وخسارة الأحبة هما المسببان الرئيسان في طغيان الإحساس بالحزن والكآبة لدى من فقدوا أحبتهم، جراء الهجمات الهمجية التي يشنها الجيش الإسرائيلي على مدينتهم.

قصة كل واحد من الشخصيات تثير الحزن وتدعو للتعاطف معها، لهذا لا يخفي صُناع الوثائقي تعاطفهم مع سكان المدينة المنكوبة، كما يظهر بوضوح في منجزهما الذي لا يمكن فهم تفاصيله من دون مراجعة تجاربهم الشخصية مع المدينة، ولا سيما تجربة المخرج “بيو هولمكفيست” مع غزة، فقد أحبها وأقام علاقات إنسانية مع بعض سكانها، ومن بينهم المعلم الفلسطيني والد الطبيب عائد.

معاملة الطبيب النفسي عائد المريض كفرد من أفراد عائلته

يخبرنا عائد بنفسه أنه اختار دراسة الطب النفسي بفضل تشجيع والده له، وأنه خلال دراسته طالما تصور نفسه متجولا -كما يحصل في الواقع- بين بيوت المدينة، يقدم خدماته الطبية للمحتاجين للعلاج النفسي، ويؤكد في الوقت نفسه استغرابه من واقع أنه يكاد يكون الطبيب النفسي الوحيد الموجود فيها، في حين أن مدينة محاصرة ومنكوبة مثل غزة تحتاج إلى مليون طبيب نفسي واختصاصي غيره.

طبيب البيوت.. فلسطين فوق صراع الفصائل السياسية

يرصد الوثائقي خلال وجوده في المدينة أثناء إجراء انتخابات 2006 وفوز “حماس” فيها مشاعر الخوف من حصول صراعات بين المنظمات الفلسطينية، وقد وقع ذلك، لكن من حسن حظ مرضاه أن عائد لا ينتمي لأي تنظيم، وكان يقدم نفسه لأهل البيوت التي يدخلها بأنه فلسطيني لا ينتمي لأي جهة سياسية.

هذا الأمر ساعد على قبوله من قبل الجميع والثقة به وبحياديته، فهو طبيب يضع معالجة مرضاه في مقدمة أولوياته، لكنه في المقابل كان يضع بنفسه معالجة الأطفال الذين يعانون من أزمات نفسية في مقدمة اهتماماته الطبية، ويُكرس لهم جل وقته.

ينقل الوثائقي مشهدا يظهر فيه وهو يقابل أطفالا تعرضت بيوتهم للتو لقصف إسرائيلي بالطيران، يسألهم والحزن يملأ قلبه عليهم عن خساراتهم، وكيف يشعرون بعد أن علموا بموت إخوة لهم وأهل.

علاج الموسيقى والرسم.. تعبير الأطفال عن خساراتهم الموجعة

لمعالجة أطفال خسروا إخوة لهم وأهلا، وباتوا بعدها لا يشعرون إلا بالحزن واليتم، يحتاج الطبيب النفسي لفهم حالتهم بشكل جيد من خلال تقربه منهم وتشجيعهم على التعبير عما تختلج نفوسهم من أوجاع.

رسومات الأطفال تفضح همجية الاحتلال الإسرائيلي

يلجأ عائد إلى أسلوب معالجة الأطفال بالموسيقى وبالرسم، يوزع عليهم في المكان البسيط الذي خصصه لهم أوراقا وأقلاما ملونة، ليرسموا فوقها كل ما يخطر على بالهم، فنقرأ شعورهم من خلال الرسومات التي تظهر فيها على الدوام الطائرات الحربية الإسرائيلية وهي تقصف بيوتهم، والدبابات التي تطلق قنابلها عليهم وعلى كل مكان من المدينة، ونرى بذلك مدى حقدهم على العدو الذي أخذ منهم أحبتهم.

اللافت فيها أيضا -كما يحرص الوثائقي على عرضه- هو حماسة الأطفال لمقاومة المحتل بالحجارة، إلى جانب تعبيرهم الدقيق عن خساراتهم الموجعة بسبب تلك الاعتداءات.

حكايات الوجع.. ذكريات تجسدها الصور والأطعمة

يحرص الوثائقي على تثبيت ما تثيره أحاديث الأطفال عن خساراتهم من وجع، ليبيّن ما تتركه أفعال الجيش الإسرائيلي الهمجية بالأطفال الأبرياء.

لا تخفي طفلة من أطفال مخيم جباليا حزنها على فقدان أختها التي طالما كانت قريبة منها، تحكي لها القصص قبل نومها، أما الآن فلم يبق منها إلا ذكريات وصورة معلقة لها على الجدار، كلما نظرت إليها تشعر بالرغبة في البكاء والانسحاب إلى الداخل.

مثلها طفل آخر خسر أخاه في قصف إسرائيلي على منزلهم الذي كان يحبه كثيرا، لكن بعد موت أخيه لم يعد في حياته طعم آخر غير المرارة والحزن عليه، ويقول إن والده طلب منه عدم النظر إلى صورة أخيه حتى لا يشعر بالحزن ويأخذ بالبكاء، لكنه لا يرى في ذلك أي جدوى، لأنه كلما طبخت والدته أكلة كان يحبها أخوه يتذكره ويشعر بمرارة تملأ فمه.

بعد عدة جلسات مع الأطفال يلاحظ الطبيب تحسنا عند بعضهم، لكنه بسبب قلة الإمكانيات المالية والطبية يضطر إلى تقليص فترة المعالجة، مما يثير حزنا عند الأطفال، فقد كانوا يتمنون الاستمرار بها.

علاج الأطفال أولوية عند الطبيب عائد

لا يقتصر الأمر على الأطفال فحسب، بل يمتد إلى المرضى الكبار، فبسبب الحصار المفروض على المدينة تشح الأدوية المخصصة لمعالجة الأمراض العصبية والنفسية، فتزيد معاناتهم وخوفهم من عودة الكوابيس التي لم تفارق نومهم، وأيضا من التفكير الدائم والخشية من خسارة أحبة آخرين غير الذين ترك غيابهم فراغا كبيرا في حياتهم وأربك استقرارهم النفسي.

“أحلم أن أرى أطفال غزة يملؤون الشوارع”

تترك حالة الأطفال والمرضى الكبار تأثيراتها على الطبيب عائد نفسه، فما زال يمتنع عن التفكير بالزواج، مع شدة إلحاح والدته وأخواته عليه، وسعيهن الدائم لإقناعه باختيار واحدة من اللواتي يرشحنها له.

يدخل الوثائقي بيت الطبيب ويشاهد كمية من صور الفتيات المرشحات من قبل والدته، يسود المرح النادر في تلك اللحظة التي يجري فيها الحديث عن الزواج والمستقبل، لكن والده يتدخل فيها ويشرح لصُناع الوثائقي سبب امتناع ولده عنه الزواج، لا لأنه يتأثر بما يشاهده ويسمعه من مرضاه كل يوم فحسب، بل أيضا لأن العدو ينغص على الفلسطيني عيشه اليومي.

يؤشر بأصبعه إلى السماء ليثير انتباه المصور إلى منطاد مطاطٍ عملاق يجول فوق سماء المنطقة، ويشرح الأب وظيفته المتعددة الأهداف، فعدا المراقبة الدائمة لتحركات الشباب المسلحين، فإنه يهدف إلى إشعار المواطن بأنه محاصر، وأنه يعيش في سجن مفتوح اسمه غزة.

أطفال غزة لحظة تدمير بيوتهم وقتل ساكنيها

يشجع كلام الأب الطبيب على الإفصاح عن سبب تأجيله فكرة الزواج إلى وقت آخر، لأنه يشعر بثقل الزواج وما يترتب عليه من إنجاب أطفال وتأسيس أسرة لا تتوفر لها سبل العيش السوي في غزة، بسبب ممارسات إسرائيل الهمجية التي تتعمد حرمان الأطفال من عيش طفولتهم، وهذا يعني بالنسبة إليه أنه سيأتي بطفل إلى هذا العالم من دون ضمانة ولو بالحد الأدنى، ليعيش حياة سوية كما يعيش بقية أطفال العالم.

يقول في خاتمة الوثائقي: أحلم أن تشرق الشمس من جديد، وأرى أطفال غزة يملؤون الشوارع، يلعبون فيها بفرح والطمأنينة تعم قلوبهم.


إعلان