“شوشانا”.. إرهاب العصابات الصهيونية في فلسطين تحت الانتداب

هناك جانب مهم مسكوت عنه من جوانب القضية الفلسطينية، ويتعلق بالأحداث العنيفة التي وقعت في فلسطين، حين كانت خاضعة فيها للانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، إلى حين الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في مايو/ أيار 1948.
وهي فترة شهدت أولا الثورة العربية الكبرى (1936-1939)، كما شهدت تأسيس وبروز دور المنظمات الإرهابية الصهيونية التي مارست العنف والترويع للفلسطينيين، وشنت الهجمات على البريطانيين لدفعهم للرحيل وتسليمهم مقاليد الأمور.
“مايكل وينتربوتوم”.. عين السينما الداعمة لقضايا الإنسان
هذه الفترة يتناولها الفيلم الجديد “شوشانا” (Shoshana) الذي أُنتج في عام 2023، وقد أخرجه في قالب يمكن وصفه بأنه هجين بين الروائي والوثائقي المخرج البريطاني “مايكل وينتربوتوم” المعروف باهتمامه بالتطرق إلى المواضيع السياسية، من خلال نظرته التقدمية التي تقف إلى جانب الحقيقة.
وكان “وينتربوتوم” قد قدم أفلاما مثل “مرحبا في سراييفو” (Welcome to Sarajevo)، “في هذا العالم” (In This World)، و”الطريق إلى غوانتانامو” (The Road to Guantanamo)، وكلها أفلام عن البوسنة وأفغانستان والمعتقلين في غوانتانامو، وكلها أفلام روائية.
ثم عاد في 2022 فأخرج -بالاشتراك مع محمد صواف- الفيلم الوثائقي “11 يوما في مايو” (Eleven Days in May)، ويتحدث عن مصرع 60 طفلا فلسطينيا بنيران القوات الإسرائيلية خلال 11 يوما من القصف العنيف لقطاع غزة في 2021.
أما فيلم “شوشانا” فهو يقوم على سيناريو كتبه “وينتربوتوم” بالاشتراك مع “لورنس كوريات” و”بول فيراغ”، ويدور حول وقائع وشخصيات وأحداث حقيقية وقعت في فلسطين في الثلاثينيات والأربعينيات، مع إضافة شخصيات أخرى وأحداث وتفاصيل من وحي الخيال.
كما يستخدم “وينتربوتوم” الكثير من اللقطات الوثائقية من الجريدة السينمائية الشهيرة من تلك الفترة، مثل “مسيرة الزمن” و”موفي تون نيوز”، وكانت تنقل الأحداث بالصورة السينمائية من خلال تقارير مصورة، وتعرض في دور السينما، قبل ظهور وانتشار التليفزيون. وقد قضى “وينتربوتوم” نحو 15 عاما وهو يحاول أن ينجز فيلمه هذا، إلى أن تمكن بعد طول انتظار من إنجازه، وقد صُورت مناظره الخارجية في بلدة أستوني الإيطالية، لكي تحاكي مدينة تل أبيب.
ضابط شرطة بريطاني وشابة صهيونية.. قصة حُب مستحيلة
يتخذ المخرج “وينتربوتوم” قصة الحب في فيلمه إطارا عاما يكفل الجاذبية للفيلم، لكي يسوق من خلاله كثيرا من التفاصيل التي تتعلق بالعلاقة المعقدة بين البريطانيين والفلسطينيين العرب من جهة، وبينهم وبين اليهود من جهة أخرى، في ظروف التوتر مع بروز الأطماع الصهيونية في ابتلاع فلسطين وإغفال الحقوق الفلسطينية.
وقصة الحب هنا ليست بين شخصين لا صفة لهما، بل هي في الحقيقة بين قطبين من أقطاب الصراع في تلك الفترة. إنها قصة حب مستحيلة بحكم تناقض المواقف في خضم الصراع السياسي الدائر، عن الحيرة الناجمة عن الصراع بين العاطفة والواجب، وما يفرضه الولاء السياسي من ضرورة التضحية بالحب.
وفي خضم هذه القصة، يسيل كثير من الدماء، ويمارس كثير من العنف، وتهمل تماما حقوق الفلسطينيين، كما يكشف الفيلم عن عدم مبالاة الطرف البريطاني الذي كان -في فترة ما- يكافح ما يسميه التطرف الصهيوني، قبل أن يستسلم ويسلم فلسطين لهم.

نرى أطرافا تمثل منظمات مثل منظمة “الهاغاناه” (ومعناها الدفاع، وهي جناح بن غوريون العسكري)، وكانت تنبذ العنف في البداية، ثم لجأت إلى ممارسته ضد العرب والبريطانيين، وأصبحت بعد قيام إسرائيل نواة للجيش الإسرائيلي فيما بعد، ثم منظمة “الأرغون” ومنظمة “ليحي” أو عصبة “شتيرن”، وهما منظمتان إرهابيتان كانتا تتبنيان العنف والقتل وسفك الدماء من البداية، واتبعتا نهج الصهيوني “جابوتنسكي” الذي تأثر بالفاشية الإيطالية.
تنشأ قصة الحب بين ضابط الشرطة البريطانية الشاب “توم ويلكن”، وهو شخصية حقيقية، وبين “شوشانا بورشوف” اليهودية، وهي كذلك شخصية حقيقية (1912-2004)، فهي ابنة الماركسي الصهيوني المعروف “بير بورشوف” الذي أسس “اتحاد العمال الاشتراكيين الصهاينة” في روسيا، لكنه لم يهاجر إلى فلسطين ومات في كييف، وبعد وفاته هاجرت زوجته مع ابنتها “شوشانا” وابنها “ديفيد” إلى فلسطين.
“جيفري مورتون”.. إنجليزي شرس يسعى لفرض العدالة العمياء
تنشأ قصة الحب وسط أجواء الثورة العربية في الثلاثينيات، وتحديدا في 1938، ثم تصاعد أعمال العنف التي يشنها المستوطنون اليهود على الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه بداية الحملات العنيفة ضد البريطانيين لإرغامهم على التخلي لهم عن فلسطين.
ومع ارتفاع وتيرة العنف واغتيال رئيس الشرطة البريطانية، ترسل الحكومة البريطانية ضابط الشرطة “جيفري مورتون” (الممثل هاري ميلنغ) لكي يحكم نطاق السيطرة هناك، فيتخذ في البداية مقرا في جنين، قبل أن ينتقل إلى تل أبيب.
شخصية “مورتون” حقيقية، وقد عُرف كما يصوره الفيلم بالقسوة المفرطة والشراسة، وكان يؤمن بفكرة العدالة العمياء، وأن دوره هو مكافحة العنف على كلا الجانبين، الفلسطيني واليهودي على حد سواء، لذلك نراه في البداية يجمع جميع الرجال في إحدى القرى الفلسطينية، وينذرهم بضرورة تسليم ما لديهم من أسلحة، وإلا سيواجهون الإعدام، ثم ينفذ بيديه الإعدام على شيخ القرية رميا بالرصاص. وهو نفسه الذي سيشن أيضا حملة شرسة ضد المتطرفين الصهاينة الذين يمارسون العنف ضد الوجود البريطاني.

الضابط البريطاني الشرس ميرتونأما “توم” فهو يعمل ضابط شرطة (سرية) في تل أبيب، ويبدو أكثر اعتدالا من “مورتون”، وقد استطاع إجادة اللغة العبرية، وتركت علاقته العاطفية الملتهبة مع “شوشانا” اليهودية الحسناء الغامضة تأثيرا كبيرا عليه، فأصبح أكثر تعاطفا مع اليهود، مما جعله يرفض العودة إلى الوطن بعد أن وقع في حب المدينة.
ولا يتغير موقفه من “شوشانا” حين يعلم أنها -وهي تعمل لصحيفة “دافار”- عضو نشط في منظمة “الهاغاناه”، وقد كانت تزعم نبذ العنف، لكنها سرعان ما بدأت التدرب على إطلاق النار، وأصبحت من الذين يميلون إلى أن إقامة الدولة اليهودية لا بد أن يمر عبر البندقية، وهو نفس مبدأ “جابوتنسكي” الذي كانت ترفضه.
حياة اليهود والعرب.. تناقض تام بين الرخاء والعنف
الواضح تماما من الفيلم أن العنف الذي يتمثل في مشاهد السطو على البنوك لتمويل العمليات الصهيونية، وتفجير القنابل في الأحياء العربية، وقتل الأطفال وتمزق الأجساد في أشلاء كما نرى في أحد مشهد تفجير السوق في المدينة القديمة بالقدس؛ يأتي من طرف المنظمات الصهيونية، ولا سيما المنظمة التي يقودها “أبراهام شتيرن” الذي يصبح هدفا رئيسيا للضابط “مورتون”، فيعتقل أحد رجال تلك المجموعة ويعذبه مع مساعديه لانتزاع الاعترافات منه.
يجسد الفيلم التناقض بين حياة الفلسطينيين وحياة اليهود، فنرى “شوشانا” تنتقل في ملابسها الأنيقة بين مطاعم وشواطئ تل أبيب المتألقة التي تلمع في ضوء الشمس، وتجلس مع أصدقائها يتناقشون ويختلفون حول مستقبل الدولة التي يعملون على تأسيسها، ونراهم يأكلون ويشربون ويثرثرون ويستمتعون بالحياة الليلية والرقص، بينما يعاني الفلسطينيون من الهجمات التي تقع على قراهم، ويعجز البريطانيون عن حمايتهم كما يزعمون.
ومع أن بعض الضباط البريطانيين تصدر منهم بعض العبارات العنصرية حول اليهود، فإن المسؤول البريطاني الكبير الذي يمثل سلطة الانتداب يبدو أكثر استعدادا لترك الأمور في أيدي اليهود، إذ ستترك لهم بريطانيا فلسطين في نهاية الأمر، بعد صدور قرار التقسيم. وهو أساس المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني حتى اليوم.
“توم ويلكن”.. اغتيال العاشق المتماهي مع الصهاينة
هناك إفراط كبير في تصوير مشاهد الحب بين “توم” و”شوشانا”، بل يصل إلى حد تهافت “توم” عليها، حتى بعد أن تقول له إن من الضروري قطع علاقتهما بسبب اختلاف المواقف، فهو يظل مرتبطا بها بدرجة كبيرة، يطاردها ويحاصرها، بل يشي إليها أيضا ببعض ما يعد من أسرار الشرطة البريطانية.
وحين تصبح علاقتهما مكشوفة أمام الجميع في مجتمع تل أبيب، يدفع ذلك البريطانيين إلى التحقيق في الأمر، لمعرفة ما إن كانت قد تسببت في تسريب المعلومات إلى الهاغاناه، لكن دون أن يسفر التحقيق عن شي، أما اليهود فهم يرفضون أن تقيم إحدى بناتهن علاقة مع ضابط بريطاني يطارد زعماء المنظمات الصهيونية السرية.

ومع تأكيد حقيقة وجود الشخصيتين، فإن الفيلم ينسج الكثير من المواقف والتفاصيل من وحي الخيال، كما لا يشير إلى حقيقة أنهما تزوجا وظلا معا إحدى عشرة سنة، بل يقفز الفيلم بشكل مفاجئ في الزمن وصولا إلى الأربعينيات.
يبدو “توم” متعاطفا في موقفه مع اليهود، خصوصا مع منظمة الهاغاناه، بسبب التأثير الواضح من “شوشانا”، ومع ذلك فإنه يُغتال بأيدي مجموعة من أعضاء منظمة “شتيرن” المتطرفة، انتقاما لمقتل زعيمهم بيدي ضابط الشرطة البريطاني “مورتون”.
توثيق المأساة.. إعادة تجسيد جريمة بريطانيا العظمى
في كثير من تفاصيله ومشاهده، يتخذ الفيلم طابع “الثريلر”، أي فيلم المطاردة البوليسية والإثارة، مبتعدا عن الطابع التاريخي، ويهمل بذلك تحول “شوشانا” من الميل للسلام والتوافق مع العرب الفلسطينيين، لتصبح أكثر تطرفا وتبريرا للعنف.
لكنه يستخدم أيضا كثيرا من المشاهد الوثائقية التي ترصد وتوثق مظاهر المأساة الفلسطينية، مثل التجميع والقتل ونسف البيوت والتهجير الجماعي، وغير ذلك، من خلال صور صادمة تعوض النقص في المادة الدرامية فيما يتعلق بالجانب العربي الفلسطيني.
فالفيلم مهتم أكثر بتصوير المأزق البريطاني في فلسطين، وعبثية السياسة البريطانية التي لم تكترث كثيرا لما كانت تشي به المقدمات، بل تعاملت باستهتار مع قضية فلسطين، وتركت الأمور تتخذ مسارا مناهضا تماما للحقوق الفلسطينية. وهذه نقطة تحسب للفيلم دون شك.
وبالنظر إلى ما يحدث في فلسطين اليوم، لا شك أن الفيلم يساهم في إطلاع المشاهدين في الغرب على جانب مهم من جوانب الصراع السياسي، ويوضح كيف ولدت دولة الاحتلال أصلا من العنف والتفجيرات والقتل، وكيف ساهمت السياسة البريطانية في ظهور هذا الكيان، قبل أن تتبناه الولايات المتحدة، وتجعله أكبر قاعدة عسكرية لها في المنطقة.

في تصريح له قبل تفجر الأحداث الحالية (معركة طوفان الأقصى) في فلسطين، قال المخرج “مايكل وينتربوتوم” إن بريطانيا في حاجة إلى فهم تاريخها الإمبريالي فهما صحيحا، لكي تدرك “مسؤوليتنا” عما يقع اليوم في إسرائيل.