“المخدوعون”.. رجال في الشمس يجسدون واقع إنسان النكبة
ثمة ما يشبه الإجماع النقدي على أن فيلم “المخدوعون” هو من بين أفضل الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية المقتبسة من نص أدبي، وقد تدعم مبادرة الدورة الماضية لمهرجان لندن الدولي (2023) بترميم النسخة الأصلية منه، بعد مرور نصف قرن على عرضه.
هذا التوصيف المتأتي من جودة منجز سينمائي حرص على التوازن بين الأمانة لنص رواية “رجال في الشمس” (1963) للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وبين الحرص على تمسك مخرجه المصري توفيق صالح باشتراطات الصنعة السينمائية، وعدم التفريط بها لصالح النص الأدبي.
هذا التوازن الحاصل هو ما يميز النص السينمائي، ويجعله قابلا لقراءات متعددة تتجاوز زمن إنتاجه (المؤسسة العامة للسينما – سوريا 1972)، وقد تُبرر أيضا بسبب ما لحق بالفيلم من حيف لمنعه من العرض وقت إنجازه في كثير من الدول العربية، ولهذا فلا غرابة أن يصرح مخرجه في مقابلات صحفية حينها، بأنه لم يقرأ إلا القليل من الكتابات النقدية عنه.
مأساوية المصير.. إجماع الفيلم والرواية
في النص الروائي وأحداثه التي تدور في عام 1958، أي بعد مرور عقد واحد على النكبة، لا يُخفي كنفاني نقده للأنظمة العربية التي أهملت الدفاع عن القضية الفلسطينية، وتركت الشعب الفلسطيني يواجه مصيره لوحده، ويتعرض للموت والتيه في الصحاري، من دون أن يقدم له أحد يد العون.
بقدر دقة ذلك الوصف الذي يتسرب إلى المتن الروائي بطريقة حاذقة غير مباشرة، عمِل كنفاني على أن تكون الأحداث والحوارات هي من يوحي بها، لأنه يريد في الأصل ترك مهمة التوصل إليها إلى القارئ، ومثله يفعل المخرج توفيق صالح مع المُشاهد الذي يريد منه التعرف على موقفه السياسي النقدي من خلال تجسيده لمآلات أبطاله التراجيدية، وهم “المخدوعون” من كل الأطراف والجهات.
والعملان كلاهما (الفيلم والرواية) يتمسكان بتشخيص المسبب الرئيس لكل ما يصيب الفلسطيني، وإليه يحيلان تبعات كل ما يلحق به من ظلم وقهر، وما يواجهه من مصير تراجيدي يتمثل في موت أبطاله اختناقا، داخل صهريج معدني لشاحنة نقل مياه، كانت تهربهم من العراق إلى الكويت.
“الذي لم يمت برصاص اليهود، يموت في ذل الإعاشة”
للوصول إلى تلك اللحظة التراجيدية يمهد الفيلم عبر مسار درامي طويل يربط بين الأحداث التاريخية التي مر بها الشعب الفلسطيني منذ نكبة 1948، وتعرضه خلالها للقتل والتهجير من قبل المحتل الإسرائيلي، وبين مصير النازحين بسببها إلى مخيمات اللاجئين، وفيها يذوقون ذل العيش، مما يدفع بعضهم للتفكير بالخروج منها والهجرة إلى أماكن أخرى، بحثا عن عمل يحفظ كرامتهم وآدميتهم.
يأتي ذلك المسار عبر قصة أبو قيس (الممثل السوري محمد خير حلواني)، وتأثره باستشهاد معلم القرية الفلسطيني سليم الذي جاء إلى مدينة يافا للعمل فيها، وخلال مقاومته للمحتل إبان النكبة ارتقى شهيدا.
لم تفارق مواقفه ولا شجاعته في الدفاع عن وطنه ذاكرةَ الفلاح الفلسطيني المُسن الذي كان يعيش قبل غزو الأغراب لموطنه حياةً عائلية بسيطة تسودها الطيبة والبراءة. لم يكن يعرف الشيء الكثير عن جغرافية الوطن العربي، وكانت أول مرة يسمع فيها باسم “شط العرب” عن طريق ابنه الذي كان يتلقى دروس الجغرافية على يد معلمه سليم.
كان يقارن في داخله بين ذل عيشه في المخيمات واعتماده على مساعدة المنظمات الإنسانية لإعالة عائلته، التي تزيد من إحساسه بالخزي، وبين استشهاد المعلم مرفوع الرأس، مقبلا على الموت في سبيل وطنه، رافضا العيش في الهوان تحت الاحتلال.
تجربته الشخصية في المخيم يلخصها أبو قيس بعبارة عميقة، إذ يقول “الذي لم يمت برصاص اليهود، يموت في ذل الإعاشة”. مع مقدم رجال من القرية جربوا العمل في الكويت، ووصفهم للامتيازات الحاصلين عليها هناك يبدأ أبو قيس التفكير بالهجرة مثلهم مع أنه متردد داخليا، لأنه لا يحسن حرفة أخرى غير الفلاحة.
في المشهد الافتتاحي للفيلم يظهر الفلاح الفلسطيني منهكا من التعب، مستلقيا قرب نخلة يشتم رائحة التراب المحيط بها بشوق، وقد ظهرت عليه آثار رحلته الطويلة عبر الصحراء، التي قطعها وصولا إلى شط العرب في مدينة البصرة العراقية.
أبو قيس وأسعد ومروان.. أجيال فلسطينية تتوارث العذاب
يجمع النص السينمائي في الغربة الشخصيات الثلاث؛ الفلاح المُسن أبو قيس، والشاب أسعد (الممثل السوري بسام لطفي) والصبي مروان (الممثل صالح خلقي)، وكلها شخصيات حالمة بخلاص من ذل العيش والملاحقة، وبذلك يحقق النص السينمائي الترميز المراد التعبير به عن تعرض ثلاثة أجيال فلسطينية للخداع المتعمد.
لكل واحد منهم قصة يسردها النص السينمائي ويداخلها مع بعضها دراميا ليصل إلى النقطة المركزية، إذ يجمعهما خزان فارغ لشاحنة نقل مياه، يدخلون فيه أحياء في عز الصيف اللاهب، ويُخرجهم المُهرب منه أمواتا.
كان أول أشكال الخديعة ما تعرض له الشاب الفلسطيني على يد سائق شاحنة يدّعي أنه كان صديقا قديما لوالده، ويتعهد بتوصيله إلى بغداد مقابل مبلغ مالي، وهو مبلغ لم يكد الشاب يحصل عليه إلا بتنازلات شخصية كبيرة.
وفي وسط الصحراء الفاصلة بين الأردن والعراق، وبعيدا من بغداد كثيرا، يطلب منه السائق قطع مسافة قصيرة في الصحراء مشيا على الأقدام خوفا من كشف شرطة الحدود لأمرهم. لم يلتق به السائق كما تعهد في الجهة الأخرى التي اتفق معه على اللقاء فيها، بل تركه وحيدا في الصحراء، وبالصدفة وجد الشاب سيارة يقودها أجانب، فأوصلته إلى وجهته الأولى بغداد، بانتظار إكمال مسيرته منها إلى الكويت عبر مدينة البصرة العراقية.
أما الصبي فيلتقي بمهرّب من دون سابق تخطيط، فبينما كان يسير في الشارع وحيدا حزينا تبعه مهرب فلسطيني يدعى أبو الخيزران (الممثل السوري عبد الرحمن آل رشي)، وقدم نفسه إليه على أنه سائق محترف، يستطيع تهريبه من دون مشاكل إلى الكويت.
أحداث الفيلم.. إحالة مستمرة إلى جذور القضية
بعد تجربة مُرة مع مهرب عراقي لم يتفقوا معه، تقرر الشخصيات الثلاث الذهاب مع المهرب الفلسطيني والوثوق بقيادته لهم، وإيصالهم إلى وجهتهم الأخيرة.
من مسار الأحداث يظهر أن الصبي على حداثة سنه قد قرر العمل في الكويت، لأن أخاه الأكبر الذي وصل إليها قد أوقف مساعدته لوالدته بعد زواجه، كما أن والده قرر طلاقها والزواج بامرأة أخرى غيرها، طمعا بمالها. هذا الوضع العائلي البائس والخوف على أمه وإخوته دفعه للتفكير في خوض مغامرة الرحيل إلى الكويت داخل خزان مياه معدني فارغ.
طيلة مسار الرحلة يُذكّر النص السينمائي -كما الروائي- بأن سبب كل ما يتعرض له الفلسطيني من اضطهاد واجبار على خوض الصعاب ومغامرة قطع الصحاري القاحلة، يعود إلى المحتل الذي شردهم من ديارهم، وجعلهم عرضة للاستغلال والخداع.
حتى السائق الجشع الذي سيكون سببا في موتهم، وجد نفسه بعد فقدانه لرجولته جراء لغم انفجر تحت قدميه، أثناء مشاركته في النضال الوطني ضد المحتل، مندفعا للبحث عن المال والثراء السريع، لتعويض خسارته لذكوريته، وذلك عبر تهريب البشر، بعد أن كان يعمل في السابق عملا نزيها.
هذه الإحاطة بالمشكلة الفلسطينية، من خلال إحالة أسبابها إلى جذورها، هي نهج ثابت في كتابات غسان كنفاني، وأيضا يظل خطا ثابتا في فيلم توفيق صالح (السيناريو والحوار له إلى جانب الإخراج)، مع أنه قدّم شخصيات فلسطينية خذلت أبناء جلدتها، لكنها لم تكن في الأصل متجذرة على فعل الشر، إلا بفعل الظروف الصعبة والقاسية التي أجبرهم العدو على عيشها.
لذلك نجد أن العلاقة بين السبب والنتيجة هي واحدة من مميزات فيلم “المخدوعون”، التي يجسدها مخرجه ببراعة، وبمشاهد سينمائية تصور تفاصيل رحلة موت الفلسطيني المُلتقطة بعين مصور مجتهد (التصوير لبهجت حيدر).
خزان الماء.. تهريب في مقلاة تطبخ فيها الأجساد
كانت الرحلة بين البصرة والكويت على مرحلتين، يتخللهما التوتر والتصعيد الدرامي المعبر عن خوف الشخصيات المنغمسة فيهما.
تتصاعد توترات المرحلة الأولى عند نقطة تفتيش الحدود العراقية، حيث يطلب السائق من الركاب الدخول إلى باطن خزان المياه الفارغ لمدة 6 دقائق، وهي المدة التي يضعها في حسابه لإكمال معاملة المرور إلى الجانب الآخر من الحدود.
يعرف السائق أن أي إهدار للوقت يعني إجبار الركاب على البقاء مدة أطول داخل الخزان، وهذا يعني موتهم اختناقا بسبب الحر الشديد ونفاد الهواء داخل الخزان. طيلة الطريق يذكرهم بحر شهر آب/ أغسطس وصعوبة تحمله، ويصف الخزان بأنه مقلاة تطهى فيها الأجساد.
جمارك الكويت.. مزاح وإهدار للوقت يجسدان النهاية
تنجح المرحلة الأولى ولا يكادون يخرجون منها أحياء، أما المرحلة الثانية فستكون نهايتهم فيها، ففي مكاتب الجمارك الكويتية تستغرق عملية إتمام المعاملة أكثر من الوقت اللازم، بسبب سفاهة الموظفين الكويتيين، ومزاحهم بإيماءات جنسية مع السائق.
لم يفلح إلحاح السائق على إنهاء المعاملة بالوقت الذي يحتاجه النازلون في عمق الجحيم الحديدي، للخروج منه أحياء. من بعيد يُسمع صوت طرق الفلسطينيين على جدار الخزان في محاولة للفت الانتباه إليهم، لكن السائق لم يسمعهم فماتوا في داخله.
المشهد الختامي يلخص مآلات وأوجاع الفلسطيني الذي أجبره الاحتلال الإسرائيلي على ترك وطنه وخوض مغامرة الرحيل نحو أفق يظنها أفضل، لكنها في نهاية المطاف لا توصله إلا إلى الموت، وإلى رمي جثته على قارعة طريق صحراوي موحش.
يجسد فيلم “المخدوعون” تلك اللحظة التراجيدية بصورة مؤثرة تدفع للتفكير في حياة الفلسطيني التي غدت خرابا وموتا، منذ أن استولى الغريب على وطنه، وتركه من دونه نهبا للخديعة.