“أنا القبطان”.. أهوال الهجرة لشابين من داكار إلى إيطاليا

ظهرت أفلام كثيرة في السينما الأوروبية تصور محنة اللاجئين من بلدان العالم الثالث، سواء أثناء المرحلة الأخيرة من رحلتهم المحفوفة بالخطر، أي بعد أن يصبحوا في عرض البحر يواجهون الموت في زوارق الموت، أو بعد وصولهم إلى الأراضي الأوروبية وما يحدث لهم هناك، لكن أفلاما قليلة هي التي اهتمت بتصوير البدايات، رصد الدوافع، وتجسيد الأحلام، قبل متابعة الرحلة الأوديسية (أسطورة إغريقية) في مساراتها المعقدة.
وقد يكون هذا تحديدا هو ما يميز الفيلم الإيطالي الجديد “أنا القبطان” (Io Capitano) للمخرج الشهير “ماتيو غاروني” الذي عرض في مسابقة الدورة الـ80 لمهرجان البندقية السينمائي، حيث فاز بجائزة “الأسد الفضي”، كما فاز بطله “سيدو سارا” بجائزة “مارشيلو ماستروياني”.
شباب داكار.. طموحات الرحلة إلى الفردوس الأوروبي
يصور الفيلم قصة شابين من السنغال في مقتبل العمر، هما “موسى” و”سيدو”، يرغبان في الهجرة من داكار إلى إيطاليا، لتحقيق حلمهما المشترك بأن يصبحا من نجوم موسيقى الراب الأفريقي، وتحقيق حياة أفضل ومساعدة أسرتيهما.
كلاهما في السادسة عشرة من عمرهما، وهما مضطران للعمل لإعالة أهلهما بعد غياب الأب، إما بالرحيل خارج البلاد بحثا عن الرزق أو بالموت. ومن خلال سيناريو دقيق مدروس جيدا، يعتمد على ما رواه عدد ممن خاضوا تلك التجربة، نتابع تلك الرحلة الشاقة الطويلة المحفوفة بالخطر، لكن قبل بدء الرحلة لا بد من التغلب أولا على بعض العقبات.

يعيش سيدو مع أخواته وأمه التي توفي زوجها، وهي تبيع بعض الأغراض في السوق، من أجل توفير حياة كريمة لأبنائها، مع الشقاء الواضح في حياتهم في ذلك البيت الضيق العتيق، ومع ذلك تسود روح المرح والاحتفال بالحياة، والرغبة في خلق السعادة من خلال الغناء والرقص الجماعي.
يغيب سيدو كثيرا عن أمه، حتى أنها تتصور أنه يلهو بلعب كرة القدم مع أقرانه، لكنه اتخذ لنفسه عملا بدائيا لتدبير مبلغ من المال يكفل له تكاليف السفر، وهو يسعى لإقناع ابن عمه موسى بالذهاب معه إلى إيطاليا.
أما موسى فهو يبيع بعض الأشياء في السوق، وقد ادخر مبلغا من المال لدفع تكاليف الرحلة التي ستجعله وصديقه سيدو نجوما في إيطاليا، يسعى الإيطاليون للحصول على توقيعهما، وهذا هو الحلم، وعندما يطلع سيدو أمه على رغبته في الرحيل مع موسى، تغضب بشدة وتنهره وتحذره من الموت الذي ينتظره كما حدث للكثيرين.
يزداد شعور سيدو بالقلق ويتراجع حماسه، بعد استشارة رجل كان قد وعدهما بالمساعدة، لكنه يحذرهما الآن من أوروبا التي ليست كما يتخيلون، بل هي بلاد باردة موحشة، يفترش فيها الكثيرون الأرض في شوارع المدن من دون مأوى، والموت ينتظرهما هناك إن هما أصرا على الذهاب.

رحلة العذاب.. نزيف الرشوة والنهب في الدول الأفريقية
مثل غالبية السينمائيين الغربيين، لا يمكن للمخرج الإيطالي مقاومة الانجذاب نحو التراث الشعبي الأفريقي، والإسهاب في تصوير العادات المختلفة في مشاهد مزركشة وملونة، كما في مشهد “عيد الرقص” بين النساء والرجال في ساحة المدينة على دقات الطبول العنيفة، ثم في المشهد الذي نرى فيه سيدو وموسى يذهبان إلى شيخ يسمونه “المرابط”، لاستشارته والحصول على مباركته، ثم الذهاب إلى المقابر لنيل البركة من الموتى من الأسلاف.
يتسلل الاثنان ليلا من وراء أسرتيهما، ثم يركبان حافلة تنقلهما إلى مالي، وهناك يدفعان مبلغا محترما من مدخراتهما للحصول على جوازي سفر ماليين مزورين، يكفلان لهما مواصلة الرحلة.
وفي مفارقة طريفة، يوقفهما ضابط الحدود عند عبورهما إلى النيجر، فهما يرتديان نفس القميصين اللذين في صورة جواز السفر، مع أن تاريخ صدور الجوازين قبل سنتين، ومن أجل تجاوز هذه المعضلة يتعين عليهما دفع مبلغ آخر رشوة، وسيبقى نزيف المال بعد ذلك قائما إلى أن لا يعد هناك شيء يمكن دفعه.
بعد مالي تستمر الرحلة إلى النيجر، ومن هناك يتعين دفع مبلغ آخر لعصابة المهربين للذهاب إلى ليبيا، وتسير سيارة تحمل عددا كبيرا منهم لبعض الوقت في الصحراء الغربية الأفريقية، ثم تتوقف ويأمر السائق الجميع بالخروج ومواصلة السير إلى ليبيا التي يزعم أنها على مسافة قريبة، لكنها في الحقيقة تبعد كثيرا.
هذا التيه والسير المتواصل ليلا ونهارا وسط رمال الصحراء، يجعل الرحلة تبدو رحلة في أعماق الجحيم، فعلى مدار البصر تتناثر عشرات الجثث للذين حاولوا الصمود ومواصلة السير في تلك الأجواء القاسية.

حرس الحدود.. عصابة ليبية مُدججة بالسلاح
خلال عبور الصحراء، يقطع المخرج “ماتيو غاروني” فيلمه، وينقله من الأسلوب الواقعي إلى ما يعرف بـ”الواقعية السحرية” المعروفة في الأدب الأمريكي اللاتيني، فيشاهد “سيدو” امرأة أفريقية تعجز عن مواصلة السير، وتسقط على الرمال بعد أن كسرت ساقها، فيعود مُصرّا على إنقاذها، مع أنها تطلب منه في البداية أن يتركها ويكمل سيره، لكنه يصر على أن يحملها، فنراها تطير فوق رأسه وهي تبتسم في سعادة، وكأنها قد تحولت إلى طائر بقوة سحرية.
هذا النوع من المشاهد المستمدة من الخيال الأفريقي سيعود إليه “غاروني” مجددا، عندما يستدعي “سيدو” فيما بعد ساحرا أفريقيا، ويطلب مساعدته على الخروج من محنته. أما ما يحدث في الواقع، فهو أن “سيدو” يواصل السير مع غيره إلى أن تتعرض قافلة السائرين في الصحراء، لإغارة عصابة ليبية مدججة بالسلاح، توهم الجميع أنها تابعة لحراس الحدود الليبيين، فهم ليبيون يتكلمون العربية، ويعزلون “موسى” ويقتادونه بعيدا، بعد أن استولوا على ما معه من مال.
تجبر العصابة الجميع على تناول سائل يسبب الإسهال، ثم يفحصون البراز للعثور على أكياس محشوة بالمال، ثم يقودون الجميع إلى معسكر رهيب، حيث يتعرضون للتعذيب والتهديد والترويع، فإما أن يتصلوا بذويهم ويطلبوا تحويل مبالغ مالية كبيرة على الفور، أو يلقوا مصيرهم بالموت.

فصل الصحراء.. عصابات وسجون تعكس الفوضى الليبية
لا شك أن الصورة التي تظهر عليها العصابة المسلحة التي تتحكم في سجون حقيقية قديمة، وتمارس سلطتها من دون أي رقابة، تعكس فوضى الواقع الليبي، مع انتشار الميليشيات المسلحة التي أصبحت مجرد عصابات، تسعى لاستغلال محنة اللاجئين، من أجل تحقيق مكاسب مالية، أي أنها تعيش على المحنة.
ويعد هذا الفصل المصور في الصحراء من أجمل فصول الفيلم من حيث التصوير، فنحن نشاهد عبور اللاجئين كأننا نشاهد حلما، فطابع الحلم يصبغ هذه المشاهد خصوصا مع مزجها بالموسيقى التي تكثف هذا الشعور.
وتحمل فصول الفيلم عناوين لأماكن محددة، فعندما ننتقل إلى ليبيا مثلا، يتحدد المكان بمدينة سبها الواقعة في جنوب غربي ليبيا، والتصوير في تلك المنطقة شديد الدقة من حيث التفاصيل، ويتميز أداء جميع الممثلين الثانويين، وينجح المخرج مع فريق التصوير في التحكم بتفاصيل المواقع الخارجية التي يذهب إليها “سيدو” بعد فراره للبحث الشاق عن ابن عمه “موسى”، والحصول على عمل يكفل له ادخار مبلغ من المال.
“أنا القبطان”.. رحلة في بحر من الأمواج إلى إيطاليا
يدور الفصل الأخير من الفيلم في البحر، على متن سفينة صيد ضخمة بدائية تحمل مئات اللاجئين، بينهم نساء وأطفال، يترك أصحابها الأمر لـ”سيدو” نفسه، لكي يتولى قيادتها بعد شرح كيفية عمل المحرك، على أن يظل متوجها بها في خط مستقيم للوصول نحو إيطاليا.
من الطبيعي أن يصبح هذا الفصل من أكثر أجزاء الفيلم إثارة، فنحن نرى امرأة حاملا تضع مولودها في تلك الظروف، وينتهي ماء الشرب، ويسقط البعض مرضى، ويتشاجر كثيرون فيما بينهم، وسيكتشف “سيدو” أن هناك بعض اللاجئين اضطروا للبقاء في قاع السفينة قرب غرفة المحركات الساخنة، وستحدث حالات فزع، وتثور الفوضى والهلع.
لكن “سيدو” لا يفقد أعصابه قط، بل يظل متحكما في إدارة السفينة، كما ينجح في السيطرة على مشاعر الجموع، إلى أن يصل بالسفينة قرب ساحل إيطاليا، حيث تحلق طائرة من طائرات خفر السواحل فوق السفينة، ليصرخ في ابتهاج شديد “أنا القبطان”، وأنا الذي قدت السفينة من دون أن يموت أحد، أي أحد.

تفاؤل النهاية.. صبغة دعائية يكذبها الواقع القريب
يختلف الفيلم عن معظم أفلام المخرج “ماتيو غاروني” السابقة، فهو ينتهج بناء تقليديا في السرد، يحاول أن يتغلب على تقليديته ورتابته بمشهدين من الواقعية السحرية كما أشرنا، لكن من دون أن يخرج عما هو متوقع.
وربما تكون المشاهد المصورة في ليبيا من أفضل مشاهد الفيلم، في واقعيتها وتصويرها الصادق للمشهد العام في المدينة، مع وجود الكثير من أبناء الأقليات المهاجرة من أفريقيا، في الشوارع والأسواق.
ولا شك أن جانبا كبيرا من قوة الفيلم وتأثيره يرجع إلى إسناد الأدوار الرئيسية إلى ممثلين غير محترفين، بعد تدريبهم تدريبا جيدا على الأداء، يتقدمهم بطل الفيلم “سيدو سار” في ثقته واندماجه الكبير مع الشخصية التي يؤديها، وقدرته على الصمود في المشاهد الصعبة، خصوصا في اللقطات القريبة (الكلوز أب)، مع التنويع في الأداء بتعبيرات الوجه والعينين كأي ممثل محترف.
أما النهاية الحماسية المتفائلة للفيلم، فهي توحي بنجاة الجميع بفضل تدخل حراس السواحل الإيطاليين ورعايتهم للجميع وانتشالهم للمرضى وتقديم المساعدة لهم، لكن الحقيقة أن عرض الفيلم جاء بعد فترة قصيرة للغاية من غرق سفينة مماثلة للاجئين أمام أنظار حُرّاس السواحل الإيطاليين الذين اتهموا بالتقصير، وبأنهم السبب في انقلابها بعد أن ربطوها بحبل مع سفينتهم بطريقة غير محسوبة، مما أدلى إلى انقلابها وغرق معظم ركابها في مياه البحر، وهي إحدى أكبر مآسي اللاجئين حتى يومنا هذا.
لقد كان الأقرب إلى الواقع أن ينهي “غاروني” فيلمه بهذه الكارثة، بدلا من أن تشوبه صبغة دعائية للسلطات الإيطالية.
عبور المتوسط.. شجاعة فردية أم تعاون دولي؟
صحيح أن الفيلم يرجع البطولة الحقيقية إلى الشاب السنغالي “سيدو”، ويمتدح قوة عزيمته وشجاعته في مواجهة الخطر، ويثني على صموده أمام الجلادين في معتقل سبها، ونبله في إصراره على البحث عن قريبه “موسى” واستعادته.
لكن الفيلم -وهو ينتهي تلك النهاية السعيدة بتحقيق الحلم ووصول الجميع إلى بر الأمان- يوحي بأن مشكلة عبور المتوسط يمكن التغلب عليها لو توفرت الشجاعة الفردية، وليس بتعاون مجموعة الدول الأوروبية المطلة على المتوسط، التي تمتلك من التكنولوجيا وأجهزة المراقبة الحديثة ما يجعلها قادرة على إنقاذ الذين يهلكون في البحر، والذين تقول المخرجة البولندية في فيلمها البديع “الحدود الخضراء” (The Green Border) إن عددهم بلغ 20 ألف غريق خلال السنوات السبع الماضية فقط.