“الأستاذ”.. دروس من المقاومة والتضحيات تحت ظل الاحتلال

تكتب المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي نصا سينمائيا آسرا عن أحوال شعبها ومعاناته مع الاحتلال، من خلال نقلها لقصة حقيقية بطلها أستاذ لغة إنجليزية، يجد نفسه في مواجهة محفوفة بالخطر مع العدو، بعد قبوله إخفاء أسير إسرائيلي في بيته، كان قد اختطفه المقاتلون الفلسطينيون، ويريدون التفاوض لإطلاق سراحه، مقابل إطلاق المحتل ألفا من الأسرى الفلسطينيين.
يحمل الفيلم اسم “الأستاذ”، ويلعب دوره الممثل صالح بكري الذي نال جائزة أفضل ممثل في مسابقة الفيلم الطويل في الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر عن دوره فيه، كما فاز الفيلم (الفلسطيني القطري البريطاني الإنتاج) جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
باسم.. أستاذ يجد السلوى في التعليم بعد أسر ابنه
يتسع فيلم فرح النابلسي لحكايات متعددة، أولها شخصية بطله الأستاذ باسم الذي يعاني من ممارسات سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهي التي كانت سببا في انفصاله عن زوجته، وأيضا كانت هي الجهة نفسها التي حكمت على ابنه الصبي بالحبس لسنوات طويلة.
ولهذا وجد نفسه وحيدا يجد السلوى في تعليم تلاميذه الفلسطينيين، كما يحرص على إرشادهم وتنبيههم لضرورة الحذر وعدم الاندفاع غير المدروس في مواجهة العدو، لأن الخصم يعرف بخبثه كيف يستغل حماسة الشباب للإيقاع بهم في مشاكل قانونية، تماما كما فعلوا مع ولده وحطموا بسبب ذلك مستقبله.
على المستوى العاطفي يرتبط الأستاذ مع “ليزا” (الممثلة إيموجين بوتس) عاملة الشؤون الاجتماعية البريطانية التي تعمل معه في نفس المدرسة، وتريد مساعدة يعقوب الطالب الذي أُطلق سراحه المشروط للتو، وتحرص على متابعة وضعه حتى يكمل تعليمه، ولا يعود إلى السجن ثانية.
آدم.. صبي يبحث عن الثأر لمقتل أخيه
بحث عاملة الشؤون الاجتماعية البريطانية عن الطالب يقود السرد الدرامي إلى بروز اسم أخيه الأصغر آدم إلى واجهة الأحداث، بعد هدم سلطات الاحتلال بيت أهله، ثم بعد فترة قصيرة يستشهد أخوه على يد مستوطن إسرائيلي أشعل نارا في بساتين الزيتون، وعندما حاول يعقوب إيقافه وإطفاء النيران؛ أطلق المستوطن عليه النار وأرداه قتيلا.

كانت رغبة آدم بالانتقام لأخيه محركا لعلاقة قوية ناشئة بين الأستاذ وبينه، لقد رأى فيه معلمه ابنا له، يعوض عن ولده البعيد عن عينيه، لهذا يحرص على ضبط انفعالاته وإرشاده للطريقة الصحيحة التي يمكن بها مقاومة الاحتلال.
هذه العلاقة ترسمها صانعة الفيلم وكاتبة نصه في الوقت نفسه، بدقة ومن خلالها توسع آفاق معالجتها للقصة الحقيقية، وتفتح مسارات جديدة من داخلها تجسد بها حقيقة ما يتعرض له الفلسطينيون في مناطقهم، وكيفية مواجهة ذلك بأشكال وأساليب متعددة.
“ليزا”.. شاهدة على الواقع تكتشف خبايا الصراع
لا يطرح الفيلم كل ما عنده دفعة واحدة، بل يتريث ويُقَسط الحكايات، لتشكل في النهاية بمجموعها مشهدا فلسطينيا واسعا، أول المتأثرين به هي عاملة الشؤون الاجتماعية البريطانية “ليزا”، وهي شاهدة في الوقت نفسه على قساوته، مع أنها كانت تجهل في بداية وجودها داخل المناطق الفلسطينية كثيرا من التفاصيل الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

لكن من خلال علاقتها بالأستاذ وتقربها من آدم عرفت ما يعنيه الاحتلال، وسبب لجوء الفلسطيني إلى كل الأساليب من أجل منعه من الإيغال في غله، ووضع حد لمخططه الهادف إلى محو كل ما يمت بصِلة لفلسطين وشعبها من الوجود.
تتطور مسارات الأحداث لتتوج بقصة مسلحين فلسطينيين خطفوا جنديا إسرائيليا، ولخشيتهم من اكتشاف الجيش الإسرائيلي لمكانه، يطلبون من الأستاذ باسم إبقاءه في بيته أياما معدودات، لحين اتضاح ما ستصل إليه مفاوضاتهم حول إطلاق سراحه، مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين.
خطف الجندي.. استعراض القصة من الجانب الآخر
على خط عملية الاختطاف تظهر شخصيات من الطرف الآخر تتمثل بوالدي الجندي المختطف، فعبرها يمكن توضيح معاناة آلاف من الفلسطينيين الذين يفقدون أولادهم في كل يوم، ويزج الكثير منهم في سجون العدو، أو يستشهدون برصاص المستوطنين، من دون أن تعبأ لهم سلطات الاحتلال.
وتعكس المَشاهِد التي يظهر فيها والدا الجندي اهتمام السلطات الإسرائيلية بابنهما، وحرصها على إطلاق سراحه بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر إطلاق مئات السجناء الفلسطينيين مقابله.

بالصدفة ومن دون تخطيط يكتشف آدم ما يحرص أستاذه على التكتم عليه، ومن دون علمه يقرر الدخول للبيت من أجل قتل الأسير انتقاما لموت أخيه، ولم يكن يدرك فداحة ما يفعل ومقدار الخسارة التي ستلحق بآلاف الأسرى إذا قتل الجندي، لكن تدخل الأستاذ في اللحظة الأخيرة يمنع ذلك، ومعه يدرك الطالب شجاعة معلمه وحرصه على إنجاح مخطط الخاطفين.
إخفاء الأسير حفاظا على سلامة الأستاذ.. خطوة شجاعة
يقوم الطالب آدم بخطوة شجاعة تؤشر على تقديره لموقف أستاذه، فحين يلمح من بعيد دوريات إسرائيلية متجهة إلى بيته أثناء غيابه، يدرك أنه في حال كشف الدورية لمكان الأسير، فإن خطط الخاطفين ستفشل، كما سيتعرض الأستاذ لمشاكل كبيرة، لهذا يبادر من نفسه إلى أخذ الأسير وإخفائه في مكان قريب.

لم تعثر الدورية على الجندي بفضل جهود آدم، وتقديرا لموقفه يطلب منه الأستاذ الانتقال إلى بيته بعد أن ظل من دون بيت يأويه، مما أثر سلبا على مستواه الدراسي، وعلى مستقبله الواعد، ويظهر التفهم الصحيح لموقف الفلسطيني والوقوف على جانبه في قصة جانبية أخرى، تتعلق بالعاملة الاجتماعية البريطانية التي تنقذ صديقها المدرس، حين يقترب مسؤول المخابرات من معرفة مكان الأسير في بيته.
أثناء دخوله مع وحدة خاصة إليه، تدعي أن لا أحد غيرها في البيت مع الأستاذ باسم، وبعد التفتيش يتضح أنه لم يكن هناك غيرهما، لأن المسلحين الفلسطينيين كانوا قد نقلوا الأسير إلى مكان آخر.
قتل المستوطن.. تضحية في سبيل جيل الكفاح المتحمس
يتطرق نص فرح النابلسي إلى جانب خطير، يتعلق بظلم السلطات الإسرائيلية وانحيازها إلى جانب المستوطنين، فبعد كل الأدلة التي جمعتها محامية الشهيد يعقوب ضد الجاني، وتأكيد الشهود وقائع الحادثة التي قَتل فيها المستوطن الشاب الفلسطيني من دون وجه حق، فإن المحكمة تجاهلت كل ذلك، وأصدرت حكما ببراءته.
يزيد ذلك الحكم غضب آدم، فيقرر مرة أخرى الانتقام لموت أخيه، لكن هذه المرة من خلال التخطيط لقتل المستوطن الذي عاد إلى بيته وعائلته حرا، مع أنه قتل إنسانا بريئا، لكن دخوله إلى البيت وقتله المستوطن يعني نهاية حياته في السجون الإسرائيلية، لهذا يحرص أستاذه على التدخل في الموقف، ويطلب منه الهروب ليتحمل بنفسه مسؤولية ما حدث.

للتضحية في فيلم “الأستاذ” دلالات أخلاقية وسياسية، فسجن الشاب يعني خسارة الحماسة الشبابية المطلوبة من جيل فلسطيني جديد يعاني -كما عانى من قبله- من عسف وظلم المحتل، ولهذا فالإبقاء عليه وحمايته يعني الإبقاء على جذوة نيران الثورة والمقاومة مشتعلة.
على مستوى آخر يمثل إطلاق سراح الجندي جانبا من النضال الفلسطيني الذي يحقق به أهدافا بعيدة المدى، ويحرر من خلاله آلاف المناضلين الفلسطينيين القابعين في السجون، وسينضم إليهم الأستاذ باسم قريبا، بعد إعلانه أنه هو من قام بفعل الانتقام لمقتل تلميذه.
فرح النابلسي.. أفلام مميزة تعكس الواقع الفلسطيني
فيلم “الأستاذ” مهم ويثبت موهبة صانعته التي ظهرت مبكرا في فيلمها القصير “الهدية”، وبطله هو أيضا الممثل صالح بكري، ويؤدي دور الزوج الذي أراد تقديم هدية لزوجته في عيد ميلادها، وهي عبارة عن ثلاجة كهربائية جديدة بدلا من القديمة.
بصحبة ابنته يذهب إلى أسواق تفصل بينها وبين بيته حواجز إسرائيلية، وأثناء عودته منها ومعه هديته يمنع الجنود عليه إدخالها، في محاولة لإذلاله أمام طفلته، لكن ابنته بشجاعتها تقوم بالالتفاف حول الحواجز، وهي تسحب الثلاجة الثقيلة بنفسها.

هذا التجسيد المكثف للبطولة تكرره في فيلمها الطويل “الأستاذ”، عبر ربطها بإحكام لعدد من القصص، بخيط سردي متين يحافظ على وحدته الدرامية التي جعلته فيلما يستحق ما حصل عليه من جوائز، ولا سيما جائزة التمثيل لبطله الذي رفع مستواه على كتفيه كما يقال سينمائيا.