صناعة الملابس.. تحديات الإنتاج والمناخ تزيح القطن عن عرش النسيج

تجمع جل التقارير في السنوات الماضية على أن زراعة القطن في العالم أصبحت مكلفة بيئيا، وتستهلك كثيرا من الموارد الطبيعية، كما أصبحت صناعة النسيج تحاول تقليل الاعتماد على الألياف الطبيعية (القطن والصوف والحرير)، والتوجه نحو بدائل صناعية لخفض الفاتورة. فإنتاج سروال من الجينز مثلا يتطلب كيلوغراما واحدا من القطن، وما بين 7 آلاف و10 آلاف لتر من المياه بحسب الأمم المتحدة.

وتربط زراعة القطن حول العالم بإنتاج النسيج، إذ أن المحصول العالمي من هذه المادة الطبيعية يتجه إلى تزويد مصانع الأزياء والأقمشة، بفضل مميزاته التي تضمن الراحة والصلابة في آن واحد، كما أنه مضاد للحساسية، وقابل لإعادة الاستعمال والتدوير.

ويعتبر منتوج القطن أحد أكبر المحاصيل الطبيعية في العالم، بسبب الطلب الكبير عليه، حتى أنه أصبح يوصف بالذهب الأبيض، فالمساحة العالمية المزروعة بالقطن تحتل 2.5% من مجموع الأراضي الزراعية للكوكب، وقد بلغ الإنتاج العالمي سنة 2021 حوالي 25 مليون طن، مما جعله أيضا أحد المساهمين الرئيسيين في الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.

وأصبح هذا القطاع يواجه تحديات عدة، بدءا بالتغيرات المناخية، مرورا بتباطؤ الاقتصاد العالمي، وصولا إلى تقلبات أسعار السوق، ومنافسة البدائل الصناعية، ومن بينها البوليستر الذي أصبحت مكونا رئيسيا للملابس التي نرتديها، بنسبة تصل إلى 6%.

فكيف تساهم إذن زراعة القطن في انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري؟ وما هي الجهود المبذولة للتقليل في تأثيرها السلبي؟ وما هي التحديات التي يواجهها إنتاج القطن حول العالم؟ وما حجم ضرر البدائل الصناعية لهذا المادة الطبيعية؟ وهل هناك تأثير لذلك على عالم الأزياء والملابس العالمي؟

محصول القطن.. رزق ملايين العائلات ومنعش الاقتصاد

تحظى زراعة القطن بأهمية بالغة سواء من قبل الأفراد والحكومات، فهي تلامس المعيش اليومي لملايين الأشخاص حول العالم منذ القدم، وازداد الارتباط بها خلال القرن التاسع عشر، بعد أن تحول القطن إلى المكون الرئيسي في ألياف النسيج، مع ما يقرب من نصف الاستهلاك العالمي من الأقمشة.

وتقول منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” التابعة للأمم المتحدة، إن محصول القطن أساسي لتحقيق التنمية العالمية، وقد احتفلت المنظمة الأممية باليوم العالمي للقطن لأول مرة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وركزت على إظهار أهمية هذا الإنتاج النباتي، والتوعية بدوره الحاسم في التنمية الاقتصادية والتجارة الدولية، وفي التخفيف من وطأة الفقر.

يشكل القطن مورد رزق أساسي لحوالي 32 مليون مزارع حول العالم

ويعتمد عدد من الدول المنخفضة الدخل والبلدان الناشئة على القطن لتنمية اقتصادها، كما يشكل مورد رزق أساسي لحوالي 32 مليون مزارع (معظمهم من النساء) بحسب تقديرات “الفاو”، فضلا عن مساهمته في عيش 100 مليون أسرة في 80 دولة حول العالم. وساهم إنتاج القطن أيضا في الاقتصاد العالمي بنحو 50 مليار دولار أمريكي سنة 2021، ويقدر حجم التجارة المرتبطة به بـ20 مليار دولار.

وبسبب أهمية هذا القطاع، تبرز عدة تحديات أمام استمرار هذه الزراعة، وتحول دون مواصلة لعب دورها كرافعة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. فالتحول نحو زراعة مستدامة للقطن أصبح اليوم يفرض نفسه بشكل كبير أمام التغيرات المناخية التي يعرفها الكوكب، كما أن المنافسة الشرسة للألياف الصناعية أثرت على الطلب العالمي، وأسقطت القطن من على عرش صناعة النسيج والأقمشة.

كمية الإنتاج.. صدارة الصين عالميا ومصر عربيا

تستحوذ 5 دول حول العالم على إنتاج القطن إلى حدود سنة 2022، بحيث تنتج ما يقدر بحوالي 80% من حجم الإنتاج العالمي. وعادت الصين لتتصدر الإنتاج للموسم 2021/2022 بحوالي 5.87 ملايين طن، متجاوزة بذلك الهند التي تراجع إنتاجها إلى 5.33 ملايين طن في المرتبة الثانية، بينما رفعت الولايات المتحدة حجم إنتاجها إلى 3.81 ملايين طن في المركز الثالث. ونجد البرازيل في الرتبة الرابعة عالميا في ترتيب المنتجين بـ2.67 مليون طن، و تحتل باكستان المركز الخامس بحوالي 1.3 مليون طن.

رسم يوضح الكميات المنتجة من القطن لكل بلد حول العالم خلال سنة 2022

ويختلف الترتيب فيما يخص الصادرات، إذ تقوم الولايات المتحدة بتصدير جل إنتاجها إلى الخارج، وتتربع بذلك على عرش مصدري القطن العالميين، متبوعة بالبرازيل، ثم الهند وأستراليا. وتقوم الصين والهند بتوجيه معظم إنتاجهما إلى السوق المحلية، إذ يعتبر البلدان من أكبر المصنعين للنسيج

وتتصدر مصر الدول العربية في إنتاج القطن، وقد صدرت 180 ألف طن إلى الخارج سنة 2021، بالإضافة إلى الإنتاج الموجه للأسواق الداخلية. وعُرفت مصر منذ القدم بهذه الزراعة بفضل أراضيها الخصبة في حوض النيل، حيث يُنتج أحد أجود أنواع القطن في العالم.

الذهب الأبيض.. انبعاثات واستهلاك هائل للطاقة والماء

يمر منتوج القطن قبل الوصول إلى مرحلة التصنيع، بمرحلة الزراعة وحصاد المحصول، ثم نقله إلى المصانع من أجل نسجه، وتحويله إلى أقمشة تستعمل في قطاع الألبسة وفي المفروشات المنزلية وغيرها، ولا تمر أي مرحلة من هذه المراحل دون تسجيل انبعاثات معتبرة لثاني أكسيد الكربون، وعلى العموم، فإن صناعة الأزياء مسؤولة على نحو 10% من الإجمالي العالمي للانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، وتتطلب كميات كبيرة من الطاقة تفوق احتياجات قطاعي الطيران والنقل البحري مجتمعين.

تعتمد العديد من الدول منخفضة الدخل والبلدان الناشئة على القطن لتنمية اقتصادها

وتحتاج زراعة القطن أيضا إلى استخدام كميات ضخمة من الأسمدة والمبيدات لتقوية المحصول، وتذهب 25% على الأقل من المبيدات الزراعية، وأكثر من 10% من جميع الأسمدة الكيميائية المستعملة في العالم إلى مزارع القطن، كما تحتاج هذه الزراعة كذلك إلى قدر كبير من المياه، ويلزم 13 ألف لتر من الماء على الأقل لزراعة ومعالجة وصباغة كيلوغرام واحد من القطن، ويمكن أن تتسبب صناعة الغزل والنسيج في تسرب 20% من المخلفات الملوثة إلى موارد المياه السطحية والجوفية.

وينعكس هذا الضرر البيئي أيضا على صحة الإنسان، ويؤدي ذلك وفقا لمنظمة الصحة العالمية، إلى وفاة أكثر من 40 ألف شخص سنويا. وتضاعف حجم التأثير السلبي لصناعة الملابس والأزياء، خصوصا بعد ظهور البدائل الصناعية للقطن، وانخفاض أسعارها بشكل كبير.

البوليستر.. بديل رخيص على المستهلك مكلف للبيئة

رغم أضرارها المؤكدة، تبقى زراعة القطن أرحم بالطبيعة من الألياف الصناعية، وعلى رأسها “البوليستر” رخيص السعر، وهو نوع من البلاستيك مصنع من الوقود الأحفوري، وأصبحت اليوم هذه الألياف الصناعية بديلا حقيقيا للقطن والألياف الطبيعية الأخرى، وتسببت في تراجع مداخيل الفلاحين، وزادت من حجم التلوث البيئي.

فتصنيع هذه الألياف يخلف وراءه انبعاثات مرتفعة من الغازات الملوثة، إذ تستهلك هذه الصناعة سنويا ما لا يقل عن 70 مليون برميل من النفط، وينتج عن حياكة قميص واحد من البوليستر 5.5 كيلوغرامات من ثاني أكسيد الكربون.

الألياف الصناعية أو “البوليستر” منتج رخيص السعر وهو أحد أشكال البلاستيك المصنع من الوقود الأحفوري

ويشجع أيضا انخفاض سعر الملابس المنتجة بالبوليستر والألياف الصناعية الأخرى على كثرة الاستهلاك، إذ يصنّع سنويا ما بين 100-150 مليار قطعة ملابس في جميع أنحاء العالم وفق إحصاءات موقع “فاشون يونايتد” (Fashion United)، وما يتبع ذلك من تراجع معدل ارتداء كل قطعة، وكثرة التخلص منها بعد ذلك في الطبيعة. وهذا ما يهدد الأرض بتلوث غير مسبوق، إذ يستغرق تحلل البوليستر في التربة 200 عام على الأقل، وقد تتسرب أليافه الدقيقة إلى النظام البيئي.

وأظهر تقرير للبنك الدولي أن 40% من الملابس التي يشتريها الناس في بعض الدول لم تستخدم قط. كما تشير آخر أرقام وكالة البيئة الأوروبية أن كل مواطن من دول الاتحاد الأوروبي، يشتري في المتوسط 15 كيلوغراما تقريبا من الملابس والمنسوجات الأخرى سنويا، بينما ينتهي المطاف بملايين الأطنان من الأقمشة إلى مكبات النفايات أو الحرق، وبهذه الوتيرة فإن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري سترتفع في صناعة الأزياء بأكثر من 50% بحلول عام 2030.

القطن العضوي.. قوة المنافسة تتحدى البديل الأخضر

لا شك إذن أن التوجه العالمي نحو تعويض المصادر الطبيعية لألياف النسيج ببدائل صناعية، سيزيد من حجم التلوث العالمي الناتج هذا القطاع. كما أن الاستمرار في استعمال القطن وغيره من الألياف الطبيعية لن يحل الإشكالية، بسبب التحديات البيئية والمناخية التي تطرح أمام زراعة القطن ونسجه، وتسببه أيضا في انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

وظهرت مؤخرا أصوات تنادي باعتماد زراعة “القطن العضوي”، ليكون بديلا للزراعات الحالية بفضل بصمته الكربونية المنخفضة، وبدأت تجارب في هذا المجال تعطي نتائج مشجعة، وذلك بالاعتماد على التسميد الأخضر أو العضوي، لتعويض المبيدات والأسمدة الكيميائية، واستخدام البذور الطبيعية فقط بدل تلك المعالجة أو المعدلة جينيا.

القطن العضوي يعتمد على التسميد الأخضر أو العضوي ويستخدم البذور الطبيعية فقط

وارتفعت المساحات المزروعة بهذا القطن الصديق للبيئة تدريجيا في 24 دولة في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الهند والصين والولايات المتحدة وتركيا، وقدر الإنتاج العالمي من هذا “البديل الأخضر” بحوالي 120 ألف طن سنة 2018، وهو إنتاج لا يزال ضعيفا ولا يمثل سوى 1% من إجمالي الإنتاج العالمي.

وككل المنتجات العضوية، فإن القطن العضوي يبقى باهظ الثمن بالمقارنة مع نظيره الصناعي، وينعكس ذلك على كلفة الأقمشة التي يدخل في تركيبتها، مما يؤدي إلى ضعف الإقبال عليها من قبل المستهلكين، في ظل المنافسة الشرسة للبدائل الأخرى، وعقلية الاستهلاك المفرطة التي أصبحت سائدة في جل المجتمعات.

تغيير العقليات.. حبل إنقاذ الطبيعة من أمواج الموضة

يستحيل تحقيق أي تقدم في مجال حماية البيئة، دون انخراط كامل لجميع المتدخلين في صناعة النسيج المعتمد على القطن، بدءا بمرحلة الإنتاج الزراعي لنبتة القطن، مرورا بالتصنيع، وصولا إلى البيع والاستهلاك. وبما أن الطلب ما زال مرتفعا على القطن والألياف الطبيعية الأخرى، فإن الإنتاج الزراعي لهذه الألياف سيواصل تأثيره السلبي على الطبيعة، من خلال إطلاق ملايين الأطنان سنويا من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون.

وفي ظل صعوبة الاستجابة للطلب العالمي بسبب تغير المناخ وموجات الجفاف التي تهدد عددا من المناطق، وتعقد سلاسل الإنتاج المتعلقة بالقطن العضوي؛ فإن الأمل يبقى اليوم معلقا على تغيير العقليات الاستهلاكية، وخصوصا نظام السوق الذي يشجع على شراء الملابس، وتتبع الموضة.

الانحسار في المساحات المزروعة بالقطن الطبيعي سيؤثر على حياة المزارعين

ويتخوف نشطاء البيئة من أن يؤدي نظام الحياة الحالي المعتمد على المظاهر، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وسهولة الاقتناء عبر الإنترنت، إلى ازدياد الإنفاق على الملابس، وسرعة رميها بعد ذلك في مكبات النفايات في غياب إعادة التدوير.

وبسبب الانحسار المتوقع للمساحات المزروعة بالقطن، والارتفاع الكبير لأسعار الألياف العضوية، فلا شك أن توجه مصنعي الأقمشة سيكون أكثر نحو الألياف الصناعية الصعبة التحلل، للاستجابة لهذا الطلب الكبير، دون مراعاة للبيئة أو للجودة.

إعادة الاستعمال في الدول الفقيرة.. حق يراد به باطل

في ظل كل هذه التحديات التي تواجه إنتاج القطن العالمي، بدأ التفكير في حلول للحد من التأثيرات السلبية للتوجه المفرط نحو إنتاج الملابس التي أصبحت أكثر تلويثا للبيئة. وظهرت في الأعوام الماضية بعض المبادرات التي تقف وراءها أحيانا كبريات الشركات في صناعة النسيج، من أجل التشجيع على استعمال الثياب والأقمشة لمدة أطول، وإعطائها إلى أشخاص آخرين، أو إصلاحها بدل رميها.

وانتشرت أيضا مؤسسات متخصصة في إعادة تدوير الأقمشة القطنية وتلك المصنوعة من البوليستر وتحويلها إلى ملابس أو أقمشة جديدة. كما أُطلقت حملات تحسيسية للتشجيع أكثر على الإنفاق لشراء ملابس عالية الجودة، من أجل الاحتفاظ بها لفترة أطول، إذ أظهرت الأبحاث أن ارتداء الملابس تسعة أشهر إضافية كفيل بالحد من انبعاثات الكربون بنحو 20-30%.

مكب نفايات ألبسة.. ملايين الأطنان من الملابس التي ستصبح مصادر تلويث للبيئة

لكن هذه المبادرات الإيجابية تبقى محدودة الأثر، إذ أن نسبة إعادة التدوير على الصعيد العالمي لا تتجاوز حاليا 1%. بينما تلجأ الدول المتقدمة إلى تصدير الملابس المستعملة إلى بعض الدول النامية على شكل حملات تضامنية في ظاهرها، لكنها تخفي وراءها نيات سيئة، إذ أن هدفها هو التخلص من هذه الملابس في دول لا تتوفر فيها قوانين بيئية صارمة.

وكشف تقرير لصحيفة “لي باريزيان” (Le Parisien) الفرنسية، مطلع أكتوبر 2022 أن دولة غانا لوحدها تستقبل نحو 15 مليون قطعة من الملابس المستعملة كل أسبوع، نصفها تقريبا غير صالح لإعادة الاستعمال، ويكون مصيرها في مكبات النفايات أو الحرق، مما يؤدي إلى تلوث التربة والهواء وحتى مياه البحار.