“مهدد بالخطر”.. حرب الساسة والشرطة ضد الصحافة في البلدان الديمقراطية

تزداد التهديدات الموجهة ضد الصحفيين في أمكنة كثيرة من العالم، ولم يعد أمر ملاحقتهم وتهديدهم محصورا بالأنظمة الديكتاتورية فحسب، بل يشمل اليوم الكثير من البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية.

لرصد الظروف الصعبة التي يعملون فيها وتهديدات السلطات التي تخشى دورهم الفعال في كشف الحقائق يقترح الوثائقي الأمريكي “مُهدد بالخطر” (Endangered) أخذ عينات حيّة من صحفيين يعملون في مناطق مختلفة من العالم، وذلك للإحاطة بتفاصيل عملهم، والكشف من خلالها عن الحال التي وصلتها الصحافة الجادة في يومنا هذا.

ترافق صانعتا الوثائقي “هيدي إيونغ” و”راتشيل غريدي” أربعة صحفيين من بلدان مختلفة (الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، البرازيل والمكسيك) لتنقل تجاربهم في المناطق التي يعملون على تغطية أحداثها، إلى جانب رصدهم للتغيرات الحاصلة في مشهدها الإعلامي، ليعرف الناس حقيقة ما يجري فيها، باعتبار ذلك جزءا من دورهم في نقل الوقائع كما هي، وبسبب قناعاتهم المهنية وإيمانهم بمبدأ حرية التعبير وحق المواطن في معرفة الحقيقة؛ يدفعون هم والجهات الإعلامية التي يعملون فيها ثمنها غاليا.

“باتريسيا”.. صحفية هاجمها الرئيس وشوهت سمعتها

تجربة الصحفية البرازيلية “باتريسيا كامبوس ميلو” من صحيفة “فولها دي أس. باولو” تجلي جانبا من تجربتها الصحفية التي واجهت فيها ممارسات ضدها تتعارض كليا مع مبدأ الديمقراطية، إذ تصف حال الديمقراطية في بلدها بأنها هشة، وزاد من هشاشتها وضعفها القادة اليمينيون الذين ركزوا كثيرا على خلق مناخ معاد للصحفي الحر، وللمنصة الإعلامية التي يعمل فيها.

تنقل “باتريسيا” للوثائقي ما تعرضت له جراء كشفها وتعريتها للتضليل الإعلامي الذي مارسه الرئيس السابق “جايير بولسونارو” خلال حملته الانتخابية عام 2020، لقد بعث برسائل سياسية مزورة للناخب البرازيلي، وحين كشفتها أوعز لمؤيديه بمهاجمتها شخصيا، ونعتها بأبشع النعوت.

لم ينس ولم يتعامل مع عملها بوصفه جزءا من الديمقراطية التي تصون حرية التعبير عن الرأي، بل أنه فور وصوله إلى دفة الحكم، بدأ بمهاجمة أسماء صحفية محددة كانت هي من بينهم. وتعرض على صانعتَي الوثائقي نماذج من التهديدات التي تتلقاها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضها يصفها بالعاهرة التي تعرض جسدها، من أجل الوصول إلى المعلومة الصحفية.

تصف “باتريسيا” الحملة الموجهة ضدها وضد كل الصحافة الحرة والمستقلة في البرازيل بأنها مُمنهجة، بحيث يغدو الصحفي العامل فيها -من وجهة نظر نصف البرازيليين- تقريبا هو شخص مروّج للأكاذيب، أو مدفوع الثمن، وبالنسبة للصحفيات فإن تشويه سمعتهن يأتي غالبا عبر اتهامهن كذبا بالمتاجرة بالجنس، وهي من بين أكثر التهم الموجهة ضدهن شيوعا بين مناصري اليمين الشعبوي.

فضح الشرطة.. صحيفة أمريكية تواجه تهديدات التوقيف

ينقل الوثائقي من مدينة ميامي الأمريكية تجربة المصور الصحفي “كارل جوست” وعمله منذ سنوات في صحيفتها المحلية “ميامي هيرالد”، مواظبا على تزويدها بتقارير صحفية مصورة، تغطي أبرز الأحداث التي تشهدها المدينة والمناطق القريبة منها.

رغم الخوف صحفيون شجعان يصرون على نقل الحقيقة

علمته المهنة وأخلاقياتها كيف يفضح ممارسات أجهزة الشرطة الأمريكية القمعية ضد المتظاهرين السلميين، وهي تتعارض مع دورهم في حماية المواطن وحقوقه، وبسبب خرقهم للقيم التي أقرها الدستور الأمريكي، يتعرض الصحفيون الميدانيون للعنف من قبلهم.

تكشف صوره بدقة أكاذيب وادعاءات قادة الشرطة عند كل مواجهة محتدمة مع المتظاهرين السلميين، وبشكل خاص السود منهم المنادين بوقف العنف ضد أبنائهم، وغالبا ما تصورهم الشرطة للرأي العام، وكأنهم مجموعة من مثيري الشغب، يستخدمون القوة والسلاح في مظاهراتهم.

صوره المأخوذة من قرب تعرّي أكاذيبهم، ومن بينها الصور التي التقطها للمظاهرات الجماهيرية الحاشدة التي تلت مقتل الشاب الأسمر “جورج فلويد”، وتجلي دون شك ما يقوم به رجال الشرطة من أفعال زادت حدة المواجهات وشدتها.

الصحيفة التي يعمل فيها المصور وبسبب نقلها للحقائق تتعرض للتهديد بالإيقاف، مما يثير سؤالا عن مصير الصحافة المحلية الآخذ بالتقلص، منذ وصول الرئيس السابق “ترامب” إلى دفة الحكم، وتخطيطه لتحجيم دور الجادة منها على وجه الخصوص، مقابل ترك المواطن نهبا للمعلومات المضللة التي يروج لها مؤيدوه عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

“نحن نقتل مرتين: مرة بيد مجرمين، ومرة ثانية بصمت الشرطة”

في المكسيك تشهد البلاد تصاعدا لظاهرة قتل واختفاء النساء في ظروف غامضة، وما يزيد من نسبها واستمرارها هو تقاعس رجال الشرطة عن القيام بواجبهم، وفي كثير من الحالات لا يحقق في تلك الجرائم أصلا، مما يولد عند عوائلهم غضبا وحنقا عليهم يدفعهم لتطوير أساليب احتجاجاتهم وضغطهم على الحكومة من خلال تنظيم المظاهرات، واقتحام مؤسسات حكومية معنية بالأمر، من أجل إسماع أصواتهم بعد أن يئسوا من الشرطة وقياداتها.

في المكسيك الخطر الأكبر على الصحفيين يأتي من رجال الشرطة

الصحفية والمصورة الحرة المكسيكية “ساشينا غوتيريز” من صحيفة “إل يونفيرساد” تقوم بواجبها المهني، من خلال تغطيتها الحيّة للمظاهرات، ومتابعتها لأخبار الناشطات اللواتي يتعرضن لعنف رجال الشرطة، وبسببه تتعرض حياة الصحفيات للمصير نفسه.

يقدم الوثائقي قبل مقابلة المصورة حقائق عن جرائم قتل النساء في المكسيك، ففي كل عام تقتل أكثر من 36 ألف امرأة، وتنتهي مطالبة ذوي الضحايا لأجهزة الشرطة بأخذ المبادرة للبحث عنهن كالعادة بمواجهات وصدامات، إذ لا تتردد الشرطة في استخدام كل أساليب العنف ضد المتظاهرين.

تشير الصحفية إلى دورها في نقل وقائع التظاهرات التي ترفع النساء فيها شعار “نحن نقتل مرتين: مرة بيد مجرمين مجهولين، ومرة ثانية بصمت أجهزة الشرطة وإهمالها المتعمد في ملاحقة المجرمين”.

تصف همجية رجال الشرطة من خلال تصويرها بنفسها للعنف الذي يواجهون به الصحفيات المكلفات بتغطية الحدث، وتعمدهم إلحاق الأذى بهن، وذلك من أجل تخويفهن ودفعهن للتراجع عن التغطية خوفا من كشف فسادهم، وفي كثير من الحالات تورطهم في الجرائم المرتكبة ضد الناشطات السياسات على وجه الخصوص.

يشير الوثائقي إلى أن المكسيك هي من بين أكثر الدول خطرا على الصحفي، ومن تجربتها الشخصية تؤكد “ساشينا غوتيريز” ذلك أيضا، فعدد غير قليل من زملائها انتهوا مسجونين أو قتلوا في ظروف غامضة، كما أُجبر كثير من المصورين على حذف صورهم أو إتلافها تحت ضغط الجهات الأمنية. ومثلما لا تجري الشرطة تحقيقاتها في مقتل النساء، فإنها تهمل البحث في القضايا التي تتعلق بمقتل الصحفيين.

قتل منذ عام 2000 حوالي مئتي صحفي، ولم تجر الشرطة التحريات اللازمة للكشف عن المتورطين في 90% من تلك الجرائم، ومع ذلك تؤكد المصورة موقفها الشجاع، وتُصرّ على مواصلة عملها بالرغم من كل التهديدات التي تصلها من مجهولين، ومن تعرضها المستمر لإصابات جسدية جراء تغطيتها للمظاهرات.

انتهاكات الصحافة.. جرائم وحملات برعاية الأحزاب السياسية

يتابع الوثائقي جانبا من اجتماع للجنة حماية الصحفيين -ومقرها في مدينة نيويورك- مع عدد من الصحفيين، ومن بينهم المصورة المكسيكية.

الصحفي مهدد حتى في الأنظمة الديمقراطية

يؤكد مدير اللجنة التنفيذي “جويل سيمون” على صحة شهادات المشاركين في الوثائقي، من خلال تأكيده على تراجع حرية الصحافة في مناطق كثيرة من العالم، ولكونها لجنة تراقب انتهاكات حرية الصحافة في 120 دولة في العالم، يمكنها الإشارة بوضوح إلى المضايقات التي يتعرض لها الصحفيون في الهند، وتوجيه السلطات الأمنية في بيلاروسيا تهما ملفقة ضد الصحفيين المعارضين للحكومة، كما يُقتل زملاء لهم في الصومال وكينيا أثناء تغطيتهم للأحداث هناك.

يشير المشاركون في الاجتماع إلى ظاهرة جديدة تتمثل في تدخل الدول والأحزاب المتنفذة بقوة في الشأن الإعلامي، والضغط على الصحفيين للتراجع عن مواقفهم في قول الحقيقة وتوصيلها للناس بأمانة.

تتوقف اللجنة عند ظاهرة تقلص الصحف المحلية وتراجع مبيعاتها نتيجة للضغوطات المالية التي تواجهها، ولعزوف الكثير من الناس عن قراءة الصحف أصلا بتأثير من الأحزاب اليمينية التي تشجع مؤيديها على التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الوقت نفسه تكيل التهم للصحافة الرصينة وتصفها بالكذب والتلفيق.

“دونالد ترامب”.. عصر انتكاس الحرية في الصحافة الأمريكية

كان الصحفي البريطاني “أوليفر لافلاند” من صحيفة الغارديان مكلفا بتغطية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وبعد متابعته لمصير صحيفة “يونغز تاون فنديكاتور” المحلية في ولاية أوهايو، يبدي استغرابه الشديد من التغيير الحاصل في واقع الصحافة الأمريكية التي تشهد أكثر مراحلها تراجعا -حسب وصفه- منذ تولي الرئيس السابق “دونالد ترامب” الحكم.

مؤيدو ترامب لا يخفون كراهيتم للصحفي المستقل

ينقل “أوليفر” انطباعاته وإعجابه السابق بتميز التجربة الديمقراطية الأمريكية في مجال الإعلام، لكنه يشهد منذ وصوله للبلد عام 2014 تراجعها المؤسف، والمتمثل اليوم في هيمنة أصحاب المصالح الاقتصادية على كثير من وسائل التعبير السمعية والبصرية، وتوجيه العاملين فيها لكيل المديح لهم ولمشاريعهم، والتغاضي في الوقت نفسه عن فسادهم الذي يلحق الأذى بالمناطق التي تُقام فيها مشاريعهم، وبشكل خاص في منطقة يونغز تاون.

ينقل الوثائقي مؤتمرا صحفيا لرجل أعمال يقيم مشروعا صناعيا جديدا فيه كثير من العيوب، ويمكنه إلحاق أذى بالبيئة وبصحة السكان، وحين أراد مراسل الغارديان طرح المزيد من الأسئلة حوله، جُوبه برفض رجل الأعمال الإجابة عليها. هنا يتساءل الصحفي عن الدور المستقبلي للصحافة الأمريكية، فمَن الذي سيقوم بمحاسبة وفضح خروقات الأقوياء في المجتمع؟ مَنْ سيراقب سير عمل الحكومات المحلية ويكشف ثغراتها للرأي العام؟

ينقل الوثائقي زيارته لمبنى الصحيفة المحلية المهجور الذي كان يعج يوما بالمحررين الأكفاء، شأنها شأن الصحف المرموقة التي كانت تحظى قبل سنوات قليلة بشعبية كبيرة، ولها مصداقية بين الناس، بينما يشهد الصحفي اليوم لحظة احتضارها، كما يشهد أثناء نقله أحداث اقتحام مؤيدي “ترامب” للكونغرس الكراهية التي يضمرونها ضده، وضد غيره من الصحفيين الجادين، وذلك عبر إقدامهم على تحطيم كاميراتهم وتهديدهم، وسط تهليل وترحيب من قبل أمثالهم من الغاضبين على نتائج الانتخابات التي لم تأت كما كانوا يريدون.

يلخص مراسل “الغارديان” المشهد الإعلامي الحاصل في أمريكا بأنه تراجع كبير في حرية التعبير التي يكفلها الدستور الأمريكي، وتعبير واضح عن الانقسام الحاد الحاصل في المجتمع.

حرية الصحافة.. تراجع كبير وقلق يهدد حياة الصحفيين

يقرّب الوثائقي لمتابعيه المشاعر والأحاسيس التي تنتاب الصحفيين الذين قابلهم، فلا تخفي البرازيلية خوفها من حملات التشهير التي تواجهها، والتي تنعكس على عائلتها وأطفالها، ولا تتردد في ذكر احتمال هروبها إلى بلد مجاور إذا ما ساءت الأمور، وبات الأمر يهدد حياتها وحياة أطفالها.

وسط مظاهرات سلمية الشرطة الأمريكية تتعمد إيذاء الصحفيين

بنفس الحزن يقابل المصور الأمريكي قرار تحجيم عمل صحيفته التي قرر مديرها إلغاء أقسام تحريرها والاكتفاء بعمل محرريها من خارج البناية التي بات يعجز عن تغطية تكاليف العمل داخلها، أما الصحفية المكسيكية فتصر على متابعة عملها والتعلم من خبرة الصحفيين السابقين لها في مجال تغطية الأحداث التي تكون فيها أجهزة الشرطة الطرف الأكثر خطرا على حياتها، كما تتلقى دورة مهنية عن أساليب الحماية اللازمة للصحفي العامل في بيئات خطيرة.

أما مراسل الغارديان فيرى الحاصل في المشهد الأمريكي كنتيجة لتغيير سياسي أفرز قوى لا تؤمن بالديمقراطية ولا بحرية الصحافة والتعبير.

ولدعم تجارب الصحفيين المشاركين فيه يعرض الوثائقي في ختام مساره لقطات قديمة بالأبيض والأسود، تظهر الدور الذي لعبه الصحفيون الأمريكيون في كشف فضيحة “ووتر غيت” وغيرها، ويتساءل عن مستقبل عملهم، ودورهم المهم الذي من دونه تغيب واحدة من أهم الوسائل الفعالة لمراقبة عمل السياسيين، وكشف خفايا مؤامراتهم التي يريدون التغطية عليها عبر تحجيم وسائل الإعلام الحرة والنزيهة، وتهديد العاملين فيها بكل الوسائل القذرة المتاحة لديهم، وهذا ما كشفته السنوات الأربع التي حكم فيها الرئيس السابق “ترامب”، وشهدت فيها حرية الصحافة الأمريكية تراجعا ملحوظا إلى الوراء.