“الصديق السري”.. تسريبات تفضح مؤامرة اليمين الكبرى في البرازيل

بدت مشاهد التحقيقات مع الرئيس البرازيلي السابق “لويز إيناسيو لولا دا سيلفا” في عام 2016 غريبة وغير مألوفة، إذ أنها تظهر الرئيس اليساري الأثير في بلده وهو يواجه تهم الفساد الاقتصادي الخطيرة، وبالتحديد ما ادُّعي عليه من الحصول على شقة من شركة نفط برازيلية عملاقة.

لم يتخل الرئيس “لولا” في تلك المشاهد الأرشيفية عن صراحته وصدقه اللذين عرف بهما في تاريخه كله، وكانا من الصفات التي أوصلته إلى سدة الحكم في بلده في عام 2002، وفي الجانب الآخر لم تقسُ اللجنة الحكومية على الرئيس كثيرا، وبدت مرتبكة أمام هذه الشخصية المحبوبة التي تعدت في حينها السبعين في العمر، وبدت أقرب إلى الأب أو الجد الوديع.

بيدَ أن لجنة التحقيق وبعدها النظام القضائي قررا في النهاية أن يُرسل الرئيس “لولا” إلى السجن، وأن يقضي أكثر من 500 يوم في الحبس، قبل أن يخرج ويعود بقوة إلى الحياة السياسية، ثم يتوج أخيرا بفوزه على الرئيس اليميني المتطرف “جايير بولسونارو”، ويعود إلى رئاسة البرازيل في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2022.

تستعيد المخرجة البرازيلية المعروفة “ماريا راموس” مشاهد التحقيقات الأرشيفية في فيلمها الوثائقي الضخم “الصديق السري” (Amigo Secreto)، بل إنها تفتح بتلك المشاهد التي صُوِرت عن طريق كاميرات مراقبة وبالأسود والأبيض فيلمها الذي يستعيد تاريخ البرازيل في السنوات العشر الأخيرة.

حلف الصحافة.. عمل مشترك يكشف كواليس اللعبة

يركز الفيلم بالتحديد على ما تكشف من أن التحقيقات التي قادت الرئيس “لولا” إلى السجن كان مخططا لها في الظلام، وهي التي مهدت لوصول الرئيس “بولسونارو” إلى الحكم في عام 2018، الذي ستكون له عواقب كارثية على البرازيل.

يجد الفيلم مدخلا لمقاربة تلك السنوات في التحقيقات الصحفية المشتركة لصحيفتي “ذي إنترسيبت” (The Intercept) والنسخة البرازيلية للصحيفة الإسبانية المعروفة “البلد” (El País) في أعوام 2016-2018، إذ اشتركت هاتين الصحيفتين في سلسلة تحقيقية عن الفساد في حملة مكافحة الفساد في البرازيل.

أشعلت شرارة تلك التحقيقات الصحفية الحصول على تسجيلات لمحادثات سريّة على شبكة الإنترنت بين قاضي لجان التحقيق “سيرجيو مورو” مع الذين وجهوا الدعوة القضائية ضد الرئيس البرازيلي “لولا”، وقد حملت الغرفة التي تضم المحادثات السرية اسم “الصديق السري”، ومنها أخذ الفيلم الوثائقي عنوانه، أما اسم حملات مكافحة الفساد الشهيرة التي انطلقت في البرازيل بعد نهاية حكم الرئيس “لولا” في عام 2011 فحملت عنوان “غسل السيارة”.

يسجل الفيلم لحظات مفصلية من العمل الصحفي للصحيفتين اللتين أطلقتا التحقيقات المثيرة، ويرافق الصحفيين الذين اشتغلوا على التحقيقات وهم يحققون في تفاصيل ما حدث، منطلقين من المحادثات السريّة التي تكشف علاقات ومصالح بين قوى اليمين البرازيلي.

قاضي لجان التحقيق سيرجيو مورو

لا يكتفي الصحفيون الذين رافقهم الفيلم الوثائقي بما توفره التسجيلات السرية، بل يحققون في عدة اتجاهات، ويصلون إلى تورط قوى يمينة في شل وتعطيل شركة النفط البرازيلية الحكومية التي خسرت البلد بسببها مئات الملايين من الدولارات، كما يحقق الفيلم في قرارات أمريكية بمعاقبة شركات برازيلية بسبب علاقتها غير المشروعة مع السلطة في البلد، وهو الأمر الذي كبّد البلد مبالغ ضخمة للغاية.

السلطة الرابعة.. نقد واحتفاء بالمهنة التي عرّت الفساد

إلى جانب الاحتفال بالصحافة المهنية الرصينة التي كشفت في النهاية عمليات فساد خطيرة للغاية، يُسلّط الفيلم الانتباه على انتقادات من داخل الصحافة نفسها، على تقصيرها في عدم كشف ما جرى، ويستعيد كيف احتفت هذه الصحافة بحملة “غسيل سيارة”، من دون أن تضعها تحت مجهر الصحافة ونقدها.

يسجل الفيلم محادثة بين صحفيين عن تلك الفترة تتضمن كثيرا من النقد الذاتي، فالصحافة التي يُطلق عليها السلطة الرابعة في المجتمعات الديمقراطية النزيهة تخلت عن دورها لسنين، أو كانت مكتفية بالرضا الشعبي عن حملات مكافحة الفساد، ولم تشأ هذه الصحافة أن تتحدى هذا الرضا الشعبي.

استعادت الصحافة موقعها، وكسبت احتراما جديدا من البرازيليين عندما وضعت السنوات الحرجة التي مرت بها البرازيل تحت مجهر النقد القاسي، ولا تكتفي بالتسجيلات السرية التي وصلت إليها عن طريق شخص مجهول، بل انطلقت لتُعرّي منظومة الفساد بأكملها.

يتبع الفيلم في مشاهد خارجية الصحفي “لياندرو ديموري” الذي اشتغل على التغطيات وهو يسير وسط شوارع مزدحمة في العاصمة البرازيلية، ويبقى مع الصحفي حتى يصل إلى نقابة الصحفيين، حيث كان ينتظره اجتماع كبير للنقابة يخص التطورات الأخيرة في البلد.

اجتماع هيئة التحرير للتباحث عن آليات تعرية الفساد في البرازيل

لم يكن الناس في الشارع يعرفون شخصية الصحفي، بيد أنه عندما وصل إلى الاجتماع لاقى التقدير الكبير من زملاء مهنته. هذه الثنائية والتباين بين سلطة الصحافة ومجهولية أصحابها تكرر ضمن سياقات الفيلم، وهو في مجمله تحية للصحافة الجادة، وللتحقيقات الاستقصائية التي تكاد تغيب عن صحافة مناطق عدة من العالم.

شركة “بيتروباس”.. ثروات البرازيل التي عطلتها تهم الفساد

يتضمن الفيلم مقابلات طويلة مع اختصاصين اقتصاديين وقانونين، وهؤلاء يكملون الصورة للقضية التي يتناولها الفيلم، خاصة لغير المطلعين على الوضع في البرازيل التي تبدو بعيدة جغرافيا عن كثير من دول العالم، لكن سياساتها لا تختلف كثيرا عن ما يجري في العالم.

كانت إحدى المقابلات الطويلة مع خبير اقتصادي عن شركة “بيتروباس” (Petrobas) النفطية العملاقة التي ساهمت سياسة مكافحة الفساد الفاسدة في تعطيل عملها، وبالتالي خسارتها لأموال طائلة كان البلد في أمسّ الحاجة إليها. وكشف الخبير الاقتصادي أن البرازيل لم تستفد من اكتشاف كميات نفطية كبيرة في السنوات الماضية، بسبب المشاكل القانونية التي واجهت شركة “بيتروباس” بتهم تتعلق بالفساد.

يكشف الفيلم أن هناك مخططا يمينيا لإضعاف الشركة، وذلك تمهيدا لبيعها للقطاع الخاص، وهو الهدف الذي يحاول اليسار البرازيلي منعه وإبقاء الشركة ضمن ملكية الحكومة.

تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا مهما في السياسة الاقتصادية البرازيلية، إذ يساهم قانون أمريكي في معاقبة شركات تتدخل في سياسات دول مختلفة لحظر بعض الشركات البرازيلية العملاقة، وهذا سيضاعف في أزمة الشركات البرازيلية في العقد الأخير.

“بولسونارو”.. تسلل بطيء لليمين المتطرف إلى الحكم

يقطع الربع الأخير في الفيلم مشاهد للسياسي اليميني المتطرف “بولسونارو”، وتكون لها وظائف عدة، فهي من جهة تمهد للمناخ المعتم الذي يصل إليه السرد الزمني في الفيلم، وعندما يقترب هذا السياسي يتسلم زعامة البلد.

السياسي اليميني المتطرف “بولسونارو” خلال تزعمه رئاسة البرازيل

في واحد من المشاهد نسمع “بولسونارو” فقط وهو يدعو الناس إلى امتلاك الأسلحة في بيوتهم، والاستعداد للخروج للشارع، والتدخل ونصرة القضية التي يرونها مناسبة، ضاربا تقاليد ديمقراطية عريقة. وفي مشهد شديد التأثير نسمع صوته منطلقا من جهاز حاسوب صحفيين، يصف الصحفيين والمثقفين بأنهم ألد أعداء البلد، ويجب تخليص البرازيل منهم في المستقبل.

تصف بعض المقابلات التي أجراها الفيلم التسلل البطيء لليمين البرازيلي المتطرف إلى مفاصل الحكم في البلد، وهذا سيكون له عواقب سيئة كثيرا على الاقتصاد والسياسة والتجانس المجتمعي بشكل عام، وهو الأمر الذي ظهر أخيرا، إذ لم يرض أتباع “بولسونارو” بهزيمته في الانتخابات الرئاسية، وهاجموا مباني حكومية، في حادثة تذكر بما حدث في واشنطن بعد هزيمة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”.

يبين الفيلم أن فساد لجنة مكافحة الفساد كان مدبرا، وقد نُفذ بدقة وحقق نجاحا باهرا، إذ انتهى بالرئيس اليساري “لولا” في السجن، وتأذت سمعة اليسار كثيرا، كما أن اليسار لم يوفر بديلا جيدا في انتخابات الرئاسة البرازيلية في عام 2018، ليمهد هذا الطريق للمنافس “بولسونارو” للفوز.

شعب تأكله المجاعة وغابات تلتهمها الحرائق.. أرقام صادمة

يرتكز الفيلم على التحقيقات الصحفية لصحيفتي “ذي إنترسيبت” و”البلد”، ويحاول أن يستعيدها ويفصلها ويضيء بعض الزوايا المظلمة فيها، عبر تكميلها بمقابلات خاصة يجريها الصحفيون أنفسهم.

يتراجع أسلوب المخرجة الخاص الذي كان ظاهرا في أفلامها الوثائقية السابقة، ويفسح المجال لأجواء التحقيق الصحفي، لذلك تغلف الفيلم محافظة أسلوبية وأحيانا برود، وذلك لندرة المشاهد العاطفية، فالفيلم مثلا لم يبحث عن نماذج إنسانية من الحياة في البرازيل يقدمها، لتكمل الصورة السياسية في حقبة السنوات العشر التي يتحدث عنها الفيلم.

الصحفي لياندرو ديموري أحد الذين اشتغلوا على التحقيقات الصحفية

لعل المشاهد الختامية هي الوحيدة التي تخرج من إطار التحقيق الصحفي للفيلم، وتعكس مخاوف المخرجة نفسها من المستقبل، إذ تظهر المشاهد حرائق غابات واسعة، والنار تشتعل بدون توقف، فالسنوات الأخيرة حرقت أميالا كبيرة من غابات الأمازون بسبب الإهمال الحكومي المتعمد.

يظهر في المشاهد الختامية أيضا دخان أسود يصل إلى مدن قريبة من الغابات ليعكر الجو كله، وينذر بكارثة قادمة ربما تكون أكثر فداحة من الكوارث الإنسانية والاقتصادية التي مرت بها البرازيل في السنوات الماضية.

كما تتركنا المخرجة مع مجموعة صادمة من الأرقام من البرازيل اليوم، إذ يعاني 33 مليون برازيلي من الجوع، ومات في وباء كورونا حوالي 600 ألف بسبب سياسة “بولسونارو” غير المبالية، واحترق مليون هكتار من الغابات الاستوائية في الأمازون، أما الذين صاروا يملكون أسلحة مرخصة فقد تضاعف عددهم أربع مرات في الفترة التي حكم فيها “بولسونارو”.


إعلان