“فراشات حديدية”.. طائرة ماليزية أسقطها صاروخ روسي في الأجواء الأوكرانية
هو الاعتداء الأكبر على مدنيين هولنديين منذ الحرب العالمية الثانية. هكذا يُصنف العمل العسكري الروسي بإسقاط الطائرة الماليزية المدنية التي تحمل رقم MH17 في 17 من يوليو/تموز عام 2014، وقد مات جميع ركابها وطاقمها الذين بلغ عددهم 298، بينهم 196 هولنديا.
بدأت الطائرة الماليزية رحلتها من مطار سخيبول القريب من مدينة أمستردام الهولندية في طريقها إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور، وسقطت بسبب صاروخ روسي أُطلق من فوق الأراضي الأوكرانية، في منطقة تسيطر عليها القوات الأوكرانية الموالية لروسيا، والتي تريد إرجاع البلد إلى روسيا مجددا.
كارثة الطائرة الماليزية.. أول تناول وثائقي لحادثة غير مسبوقة
الفيلم الوثائقي “فراشات حديدية” (Iron Butterflies) للمخرج الأوكراني “رومان ليوبي” (2023)؛ يتصدى لكارثة الطائرة الماليزية في أول تناول للسينما الوثائقية لهذه الحادثة غير المسبوقة التي شكلت تطورا خطيرا للغاية في الصراع السياسي في أوكرانيا، وما زالت عواقبها تُخيم على العلاقات الأوروبية الروسية، وبالخصوص علاقة هولندا مع روسيا، فهي تمر بتوتر كبير منذ سنوات.
ولعل التحدي الأكبر للأفلام الوثائقية التي تتناول أحداثا كبيرة من السنوات الماضية القريبة هو منافستها مع التغطيات التلفزيونية المكثفة والمتنوعة للأحداث ذاتها، بسبب ما ينتجه العدد الكبير من القنوات التلفزيونية وخاصة الإخبارية من مادة متخصصة، وكذلك ما ينشر على الأحداث الكبيرة من تغطيات على شبكة الإنترنت، وبالتحديد على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء ما تنتجه مؤسسات إعلامية محترفة خصيصا للإنترنت، أو عن طريق أناس عاديين.
ضيقت وفرة التغطيات الإعلامية للأحداث الكبيرة من السنوات الماضية زوايا المعالجة للمخرجين الوثائقيين، وخاصة أولئك الذين يبحثون عن الأصالة، وتفرض عليهم اليوم البحث عن أساليب وخصوصيات فنية مبتكرة لتتجاوز أفلامُهم الآنيَّ الزائل، من دون أن تتخلى السينما الوثائقية في المقابل عن الطبيعة التحقيقية التي تفرضها بعض المواضيع.
كراسي الحقل.. أسلوب متفرد بالأبيض والأسود
بمشاهد الأسود والأبيض ومشاهد أخرى تجمع بين الفنية التعبيرية الخالصة والرقص الحديث، يعثر الفيلم على أسلوبه المتفرد في استعادة حادثة الطائرة المأساوية، وهو أسلوب له قوة عاطفية كبيرة في مواقع، وفرصة للتأمل بالفادحة الإنسانية التي مثلها الاعتداء العسكري على الطائرة.
لن نشاهد بالفيلم الوثائقي حوارات مع أهل الضحايا، رغم أنه ليس من الصعب العثور عليهم وإقناعهم بالحديث معه، خاصة أن بعضهم تحدث في السنوات الماضية للإعلام، عوضا عن تلك الحوارات يتذكر الفيلم أثر الفقد في سلسلة مشاهد عاطفية شديدة القوة.
واحد من هذه المشاهد يكون في بداية الفيلم، وفيه تظهر مجموعة كبيرة من البشر -ربما يقترب عددهم من عدد ضحايا الطائرة- وهم يقفون في صف طويل، ينتظرون بغموض أمرا ما في حقل زراعي بدا يشبه كثيرا موقع سقوط الطائرة، بينما كان حريق كبير يشتعل بعيدا ودخانه يملأ الأفق.
صُوّر المشهد ذاك بالأسود والأبيض، وبدا قريبا من السينما الفنية الروسية، ثم يقطع انتظار المنتظرين حركات راقصة لامرأة هولندية ورجل من أصول آسيوية (كان من بين الضحايا آسيويون كثر)، ليضيف الرقص الحديث قوة غير متوقعة للبناء الفني للمشاهد.
وفي مشهد آخر مصور بالأسود والأبيض أيضا نرى كراسي بيضاء فارغة وضعت في حقل زراعي فارغ -ربما يكون عدد الكراسي بعدد ضحايا الطائرة– بينما كان شخص ذو لباس أسود يستعد ليعزف على بيانو أبيض لحنا كابوسيا تتخلله ضربات موسيقية مفاجئة تقترب من الانفجارات.
أرشيف السوفيات.. انحياز الفيلم للقديم على حساب الحديث
حتى على صعيد استعادته للأرشيف، يوظف الفيلم المادة الأرشيفية الكبيرة المتوفرة له ضمن بنائه الفني الخاص، فهو ينحاز مثلا لأرشيف قديم من أيام الاتحاد السوفياتي على المادة الصورية الحديثة، لما يتضمنه من روح خاصة على صعيد الصورة أو التعليق الصوتي.
يعرض الفيلم مشاهد مأخوذة من أفلام دعائية من فترة الاتحاد السوفياتي لمنصات صاروخية لضرب الطائرات، اخترعتها الدولة الشيوعية قبل عقود طويلة، وهي التي تطورت فيما بعد لمنظومة بوك الروسية الشهيرة (Buk Missile System) التي ضربت الطائرة الماليزية.
بدا الإعلام الروسي ومعه الإعلام الأوكراني الموالي لروسيا فخورا للغاية بمنظومة الصواريخ الروسية، واعتبرها تاجا على رأس المنظومة العسكرية. هناك مشاهد في هذا الخصوص لموالين أوكرانيين لروسيا يتحدثون بعنجهية كبيرة عن منظومة الصواريخ، لكنها تتحول بعد سقوط الطائرة المدنية لبصمة عار على المنظومة العسكرية الروسية.
صحافة المواطن.. استعانة بصور أناس عاديين في الفيلم والمحكمة
إلى جانب الاستعانة بالأرشيف العادي، يترك الفيلم مساحة كبيرة لمادة صورية صورها أناس عاديون، فيما يطلق عليه مجازا اليوم “صحافة المواطن”، بل إن الفيلم احتفل بهذا الأرشيف الذي أصبح ممكنا بفضل أجهزة الهاتف الحديثة الموجودة في جيوب أغلبنا.
يستعيد الفيلم في سلسلة مشاهد مثيرة ساعة سقوط الطائرة، بل إن هناك من صوّر اللحظات التي أعقبت سقوط الطائرة قرب بيته ومن زوايا مختلفة، بعضها أظهر أعمدة اللهب والدخان العالية التي أحدثها الانفجار، كما تظهر تلك اللقطات ذهول الناس في القرى الأوكرانية الصغيرة من الحادث الذي كان غامضا.
كما يستعيد الفيلم الرحلة البرية التي أخذتها الشاحنة العسكرية التي كانت تنقل حاملة الطائرات الروسية من موقعها في القاعدة العسكرية في روسيا إلى القرية الأوكرانية التي ستكون موقع الحادثة. وقد لفتت حاملة الصواريخ انتباه ناس كثر على الطريق، حتى أن هناك من صوّرها.
ستكون الصور والأفلام التي صورت لمضادة الطائرات الروسية من الأدلة التي تستند عليها المحكمة الهولندية التي أدانت الحكومة الروسية في عام 2022، إذ يمكن مطابقة علامات على الطريق الذي أخذته مضادة الطائرات الروسية مع الواقع، هذا رغم أن الحكومة الروسية نفت ذلك، واعتبرت الأمر تلاعبا بالصورة من قبل أجهزة غربية متخصصة.
علماء الأيدز القريبون من إيجاد العلاج.. ضحايا الطائرة
فضّل الفيلم بشكل عام عدم التقرب من قصص أهل ضحايا ركاب الطائرة، ربما لأنها كانت يمكن أن تأخذه إلى وجهة لا تتناغم مع مقاربة الفيلم الفنية، إلا أنه أفرد مساحة مهمة لعم فتاة هولندية كانت في الطائرة مع خطيبها لقضاء عطلة في إندونيسيا، وقد ذهب هذا العم بنفسه إلى موقع سقوط الطائرة في أوكرانيا، وكان حاضرا أثناء المحاكمة، بل تحول لوجه إعلامي لأهل الضحايا أثناء المحاكمة.
عرض العم صورا أرسلتها ابنه أخيه من الطائرة الماليزية قبل انطلاقها، حيث أرسلتها إلى أهلها، كما صور الفيلم هذا العم وهو يبحث عن موقع الكرسي الذي جلست عليه ابنة أخيه في حطام الطائرة، أثناء تجواله في الموقع الذي تناثرت عليه أغراض الركاب.
يهتم الفيلم بفريق علماء مرض الإيدز الغربيين الذي كانوا على متن الرحلة في طريقهم إلى مؤتمر كبير عن المرض في أستراليا، إذ فقد العالم مع حادثة الطائرة الماليزية خيرة العلماء في هذا المجال، وهم -بحسب متخصصين- كانوا قريبين من اكتشاف علاج لهذا المرض.
يعرض الفيلم مشاهد أرشيفية من المؤتمر العالمي عن مرض الإيدز في أستراليا، وبكاء بعض الحاضرين على زملائهم الذين قتلوا في الطائرة، كما يعثر الفيلم على مريض أوكراني بالإيدز، ويحاوره عن الخسارة المركبة له، فالحادثة الجسيمة وقعت في بلده، وجعلت حلمه بالشفاء من المرض بعيد المنال.
وفي سلسلة مفاجئة بتأثيرها، يستعيد الفيلم عبر التحريك ما يشبه الرحلة الافتراضية لحمام كان موجودا على الطائرة. لم يكن الحمام مع المسافرين في المقصورة، بل كان مشحونا في صناديق خاصة مع الحقائب، وهذا ما حاول أن يتخيله الفيلم ويبدأ من حركتها على حزام الحقائب ثم وصولها إلى قعر الطائرة، وحتى وقت الكارثة.
إدانة الحكومة الروسية.. تحقيق جنائي وإعادة تجميع للطائرة
يستعيد الفيلم الوثائقي أبرز محطات التحقيق الجنائي الذي أجراه فريق التحقيقات الهولندي بمساعدة أوروبية (بدأ في عام 2017 واشتركت فيه هولندا وبلجيكيا وأستراليا وأوكرانيا وماليزيا)، فالفيلم يعرض مثلا حوارات سرية بين أعضاء من القوات الأوكرانية الموالية لروسيا، وكانت تنقل بفرح سقوط الطائرة التي كانت يعتقد أنها تعود لسلاح الجو الاوكراني، ثم يسجل تغير نبرة المحاورات بعدما تبدى أن الطائرة مدنية، وتعود للخطوط الماليزية.
يعرض الفيلم أدلة تكفي لإدانة الحكومة الروسية، من بينها ما يتعلق بالجانب التقني للصواريخ التي استخدمتها روسيا لإسقاط الطائرة، وكيف أن هذه الصواريخ عندما تضرب جسما معينا تتشظى إلى آلاف القطع التي تقود بعدها إلى انفجار أكبر. وقد عثر على هذه القطع في الطائرة الماليزية، بعد تجميع ما بقي منها في موقع خاص في هولندا، ثم أعيد لصق الأجزاء الباقية مع بعضها لتشكل ما يشبه هيكل الطائرة.
يصور الفيلم جلسات وكواليس المحاكمة الهولندية من زوايا مختلفة، بعضها غير مألوف، مثل المشهد الطويل للمحقق العام وهو خارج المحكمة محاطا بعشرات الصحفيين، كما يصور مذيعة للتلفزيون الروسي الرسمي وهي تنقل تقريرا فيه بعض التدليس.
يُبين الفيلم الوثائقي انكسار المذيعة أثناء عملها، فقد كان واضحا، ربما لأنها تعرف في قرارة نفسها أنها تنقل أكاذيب. وفي موقع آخر نسمع القاضية وهي تقرأ أسماء الضحايا في أول جلسات المحكمة، وهو الأمر الذي يتضمن عاطفية غير متوقعة، خاصة عندما كانت تنتقل بين الأسماء المتنوعة.
ربط الماضي بالحاضر.. فوضى تجعل أوكرانيا مسرحا للأحداث
يبدأ الوثائقي بمعلومات عن الأحداث السياسية العاصفة في أوكرانيا، التي قادت إلى العمل الإرهابي ضد الطائرة المدنية، وينتهي بالقاضية الهولندية وهي تصدر الحكم على أربعة روس، وتذكر بعواقب عدم تنفيذ الحكم على مستقبل السلام في أوروبا والعالم.
يلتقط الفيلم كلمة “المستقبل” من قرار القاضية الهولندية، ثم ينتقل إلى الحاضر ليربطها بالحرب الأوكرانية المتواصلة اليوم، وذلك عبر مشهد طويل صُوِّر بكاميرا ثابتة، إذ يظهر انتقال مدنيين أوكرانيين بدا عليهم الهلع الكبير إلى منطقة أخرى، بعد أن وصلت الحرب إلى الحي الذي كانوا فيه.
يأخذ المخرج مسافة زمنية من الحدث الذي شكّلته حادثة الطائرة، ليتمكن من صياغة قراءة فنيّة بعيدة عن العاطفة التقليدية المتوقعة في مثل هذا النوع من الأفلام. هناك الكثير المتميز في هذا الفيلم، مثل المونتاج السريع لصور التقطت عبر الأقمار الصناعية لموقع الحادثة عبر سنوات، وكيف بدأ تدرجيا زوال آثار الحادثة في أرض الحقل الذي وقعت فيه الطائرة، وانتصار الطبيعة التي استعادت هيمنتها مجددا.
أما الخيارات الفنية الأخرى التي تميز بعضها بالتجريب الشديد مثل الرقص الحديث وإعادة تمثيل بعض الأحداث، فكانت أيضا مؤثرة وفعالة، ورفعت مكانة هذا الفيلم من الآني الذي يمكن أن ينسى سريعا إلى عمل ذي خصائص جمالية متفردة، من دون التخلي عن هدفه بإحاطة القضية التي يتناولها بكل الاهتمام التحقيقي الذي تستحقه.
عُرض الفيلم في الدورتين الماضيتين من مهرجاني سندانس الأمريكي وبرلين الألماني، وقبل أسابيع في المهرجان الهولندي “أفلام لها قيمة” (Movies that matter) الذي يقدم أفلاما ذات قصص لها علاقة بقضايا حقوق الإنسان.
يستأثر الفيلم باهتمام إعلامي لأنه يجمع بين قضية الطائرة الماليزية وبين الحرب الأوكرانية المتواصلة.