“اقتصاد الدم”.. دهاء النازية المالي يبعث الأمة الألمانية بعد هزيمتها

على مدار 12 عاما، ابتكر النازيون في ألمانيا نظاما اقتصاديا قائما على التوطين الاقتصادي، والتلاعب المالي، والشغف الأيديولوجي. وقد بذل نظام “هتلر” جهودا جبارة لتمويل الحرب، وبناء اقتصاد حديث، وتصنيع الأسلحة مهما كان الثمن.

ويسلط فيلم “اقتصاد الدم” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- الضوء على تلك الحقبة من التاريخ؛ ففي قلب آلة الحرب الألمانية -وهي رمز لأمة قوية ومنظّمة ومنيعة- أبدى النظام النازي هوسه بالمال وساعات العمل والضرائب، وكان للسياسة الوطنية الاشتراكية ثمن معين، فقد ظلت محاور المال والصناعة والتنظيم الاقتصادي بارزة في تاريخ النازية.

وفي فاتح سبتمبر/ أيلول عام 1939، شن “هتلر” هجوما واسعا على أوروبا، وتحديدا بولندا والدنمارك والنرويج وهولندا وفرنسا، واحتوت دبابات “بانزر” -المصفحة بأطنان من الفولاذ- على دليل تعليمات لأفراد الطاقم، وكُتب على صفحته الأخيرة ما يلي:

“كل قذيفة تطلقها، دفع أبوك مقابلها ضريبة بقيمة 100 رايخ مارك، وعملت أمك أسبوعا في المصنع، وقطعت القطارات 10 آلاف كيلومتر.. كلفة هذه الدبابة 800 ألف رايخ مارك، و300 ألف ساعة عمل، وهذا يعادل أجر أسبوع لثلاثين ألف شخص، وعمل 6 آلاف شخص أسبوعا كاملا، حتى تحظى أنت بمركبة قتالية مدرعة.. الجميع عملوا من أجلكم يا أفراد الطاقم.. فكروا في قيمة ما لديكم”.

“أدولف هتلر”.. طموحات الحرب في بلاد يرثى لها

اعتلى “أدولف هتلر” السلطة في 30 يناير/ كانون الثاني عام 1933. وفي 3 من فبراير/ شباط أفصح لقائد الجيش عن نواياه التوسعية، إذ قال له: هدفنا هو تحدي معاهدة فرساي، وتدمير النظام المالي العالمي، والتوسع في أوروبا الشرقية.

ولطالما أراد “هتلر” إشعال الحرب منذ ألّف كتاب “كفاحي” الذي وضعه في السجن عام 1925. إنها حرب يشنها القوي على الضعيف، ولم تكن الحرب مجرد خيار، بل كانت السبب الوحيد لنشأة النازية.

“أدولف هتلر” يعتلي السلطة في ألمانيا في 30 يناير/ كانون الثاني عام 1933.

ولا بد من جيش لإشعال الحرب، ولم يكن لدى ألمانيا جيش في عام 1933، فقد قيّدت معاهدة “فرساي” قوات المشاة الألمانية بمئة ألف رجل فقط، ومنعت ألمانيا من امتلاك قوة جوية أو بحرية. وكان الجهاز العسكري ضعيفا للغاية، حتى اضطر الجنود للتدرب على دبابات وهمية مصنوعة من الخشب والنسيج.

بعدها، قرر “هتلر” إعادة بناء الجيش، وهذا يتطلب مالا، بينما عانت ألمانيا من الأزمات سنوات عددا، وكانت مفلسة. يقول البروفيسور “آدم توز” -من جامعة كولومبيا بنيويورك- إن مستوى المعيشة في ألمانيا خلال الثلاثينيات كان متدنيا للغاية، خصوصا مع وجود نحو 6 ملايين عاطل، وكانت ألمانيا تعاني من تداعيات “الكساد العظيم” التي كانت في أشدها، إلا في الولايات المتحدة.

بعد قرار “هتلر” إعادة بناء الجيش، طالت البطالة 40% من الأيدي العاملة في ألمانيا

 

أما البروفيسور “ريتشارد أوفري” -من جامعة إكسيتر- فيُوضّح أن ألمانيا كانت مُثقلة بالديون للدول الأخرى،عدا عن تعويضات الحلفاء التي عجزت عن دفعها.. العملات الأجنبية والذهب اختفت تقريبا. وقد طالت البطالة 40% من الأيدي العاملة، ومعظم العاملين كانوا يعملون لفترات قصيرة، وتقلصت التجارة بمقدار النصف بين عامي 1929-1933، وانخفض الإنتاج الصناعي إلى مستويات أواخر القرن الـ19.

باختصار، كانت البلاد في حالة يُرثى لها، وكان النازيون يحلمون بإعادتها إلى مسار الحرب من جديد.

“سندات ميفو”.. فكرة عبقرية من داهية المالية الألمانية

المال هو المعضلة الكبرى، ولما لم يكن لدى النازيين مال فقد اخترعوا مالا، وكان لرجل مغمور دور أساسي في هذه الحيلة السحرية، وهو وزير الاقتصاد ورئيس “بنك الرايخ” أو البنك المركزي الألماني، “يالمار شاخت”، مبتكر “سندات ميفو”، ويصفه البروفيسور “آدم توز” بداهية المالية الألمانية الذي كان قادرا على استخراج المال من الهواء، وقد اكتسب سمعته من محاربة التضخم المفرط في العشرينيات.

وزير الاقتصاد ورئيس “بنك الرايخ” أو البنك المركزي الألماني، “يالمار شاخت”، يبتكر “سندات ميفو”

 

في عام 1934 قال “شاخت”: إذا أردنا أن نعيد التسلح يجب أن نجد آلية مناسبة للقيام بذلك. ولأن معاهدة فرساي كانت تمنع ألمانيا من إعادة التسلح، توصل “شاخت” إلى إصدار “سندات ميفو” من شركة وهمية كانت مجرد واجهة تحجب العالم الخارجي عن ما يحدث في الحقيقة. وقد حصلت الشركات التي بدأت بإنتاج الأسلحة على هذه السندات بوصفها شكلا من أشكال العملة، يمكن تحويلها إلى نقد في وقت لاحق، عندما تستطيع الحكومة سدادها.

“ميفو” هي شركة وهمية رأسمالها مليون رايخ مارك، مُقدّم من “كروب” و”سيمينز”، وغيرهما من الأسماء الكبرى في الصناعات المعدنية والفولاذية في ألمانيا، لكن “ميفو” لم تُنتج شيئا، ولم تُعيّن أي موظفين، ولم تفتتح أي مصانع. بل إن الشيء الوحيد الذي أنتجته هو الديون التي ساعدت على تحويل جزء كبير من نفقات إعادة التسلح في ألمانيا منذ عام 1934.

بداية التصنيع.. نار تتقد في الخفاء بعيدا عن أنظار العالم

عندما كان النظام الألماني يتعاقد مع أي شركة لتوفير السلع اللازمة لإعادة التسلح، لم يكن يُدفع لها بعملة “رايخ مارك” الرسمية، بل بالسندات الصادرة عن “ميفو”. كانت السندات مضمونة من الدولة، وذات مصداقية، واستُخدمت عملةً بين شركات صناعة السلاح لتمويل الإنتاج. وتحوّلت إلى عملة موازية مخصصة لقطاع إعادة التسلح حصرا.

ازدهار الصناعات العسكرية في حقبة “شاخت”

 

ويرى البروفيسور “ريتشارد أوفري” ذلك حيلة ذكية للغاية، لأنها أعادت الثقة أولا، وأدت إلى حجب إعادة التسلح عن العالم الخارجي ثانيا، فلم يعرف أحد ما الذي كان يجري، ولم تكن الحكومة مضطرة للدفع قبل مرور سنوات عدة.

حققت حيلة “شاخت” الماكرة نجاحا مبهرا. وفي عام 1934 استثمر بنك “رايخ” في إعادة التسلح أربعة مليارات “رايخ مارك”، لم يُسجل سوى نصفها في موازنة الرايخ الرسمية. ومن هنا بدأ تحول مدهش، فقد قدمت إعادة التسلح للاقتصاد دفعة قوية، وحررت الألمان من الأزمات ومن ضعف الثقة بالذات.

النظام النازي يبدي هوسه بجمع المال

ذهبت حصة الأسد إلى شركات صناعة المعادن والفولاذ، واستقبلت “كروب” الحد الأقصى من الطلبات، وعملت أفران شركة “تايسون” بأقصى طاقتها، وبدأت “آي جي فاربن” إنتاج وقود صناعي جديد، واخترع مهندسو “بورش” و”مرسيدس” و”بي أم دبليو” محركات جديدة للدبابات التي صنعتها “كروب”، والطائرات التي ستصنعها شركة “مسرشميت”، والسفن والغواصات التي صنعتها شركة “بلوم وفوس”.

مبدأ الولاء للقائد.. نموذج استبدادي في ميادين العمل

لم يكن “هتلر” ينتمي إلى مجتمع الصناعيين الألمان الكبار الذي تنتمي إليها عائلات “كروب” و”تايسون” و”آي جي فاربن”. ورغم أن “غوستاف كروب” -الاسم الكبير في صناعة الفولاذ والمدافع- وزّع نسخا من كتاب “كفاحي” على عمال مصانعه، فقد ظل متوجسا من الحزب النازي الذي كان اسمه الكامل “حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني”، رغم التأكيدات بأن “هتلر” لم يكن يساري النزعة.

توزيع كتاب “كفاحي” لهتلر على عمال المصانع

تقول البروفيسورة “ماري بينيدكت فنست” -من جامعة فرانش كومتي، بيزنسون- إن التلقين العقائدي بدأ عامي 1933، وتمثل الإجراء الأكثر حدة في حظر النقابات العمالية في مايو/ أيار من نفس العام. بعد ذلك، بدأ تكريس مبدأ “الفوهرر” (أي القائد) في المصانع، فقد نص مبدأ القيادة على تسليم الزعامة للقائد والولاء له، مع حس واضح بالتراتبية داخل المصانع.

وكان ذلك يعني أن سلطة صاحب العمل تعلو سلطة مجالس الإدارة، في انقلاب على أحد منجزات “جمهورية فايمار”، وهي الجمهورية التي نشأت في ألمانيا بين عامي 1919-1933 كنتيجة لخسارة ألمانيا الحرب العالمية الأولى.

قبضة النازية.. سلطة تحقق المعجزة الاقتصادية

أحكم النازيون قبضتهم، فأصبحت الإضرابات غير قانونية، وجُمدت الرواتب، وحُظرت النقابات العمالية، لتحل مكانها “جبهة العمال الألمانية”، منظمة موحدة تضم كافة العمال.

وفي المقابل كانت خطابات “هتلر” والدعاية في ألمانيا تركز على إنشاء طرق سريعة وجسور ومنازل. وبعيدا عن مصانع السلاح التي وفرت غالبية الوظائف، قدّم “الفوهرر” للعاطلين عن العمل وظائف في مواقع البناء والطرق السريعة.

 

وهكذا تجسدت المعجزة الاقتصادية للنازيين، فقد أقنعوا الناس بإمكانية بناء مجتمع قائم على الرفاهية والاستهلاك كما في النموذج الأمريكي، لكن النظام كان اشتراكيا، ويبني المنازل للأسر الألمانية، والبواخر السياحية للعُطل.

نظام هتلر يعد كل عائلة ألمانية بسيارة فولكس فاجن من خلال توفير مبلغ بسيط

مُنحت الأولوية للسلع المصنّعة لأفراد الشعب، فأُنتج الراديو بكميات كبيرة، وكذلك سيارة الشعب الشهيرة “فولكس فاغن”. وعاد مليونا عاطل عن العمل إلى أشغالهم، وبعد 5 سنوات من وصول “هتلر” إلى السلطة تحقق التشغيل الكامل، لكن الازدهار لم يشمل كل شيء.

ففي عام 1934 كانت الأسرة الألمانية تُنفق نصف ميزانيتها على الطعام والشراب والتبغ، فخُفضت الرواتب، لكن تأثير ذلك كان ضئيلا، فقد وجد العمال الألمان أملا جديدا، بعد تشجيعهم على الاقتصاد والتوفير، لكي يستطيعوا ذات يوم شراء “سيارة الشعب”.. كان ذلك مجرد وهم، فلم يَقُدْ أي ألماني سيارة “فولكس فاغن” قبل الخمسينيات.

التجنيد الإجباري.. جيش يعيد الألق إلى الأمة الألمانية

كان منتج الشعب الحقيقي هو الجيش، ففي 16 مارس/ آذار عام 1935 أعاد “هتلر” فرض الخدمة العسكرية، وباتت إعادة التسليح رسمية وخرجت إلى العلن. يقول البروفيسور “آدم توز: كانت إعادة التجنيد الإجباري من الإجراءات القليلة التي اتخذها النظام الألماني وحظيت بالشعبية. ساد شعور بأن النازية ستعيد الألق إلى الأمة الألمانية والشعب الألماني، وهو ما حُرم منه هذا الشعب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما فُرضت عليه الشروط المذلة في معاهدة فرساي.

إعادة التجنيد الإجباري واحد من الإجراءات القليلة التي اتخذها النظام الألماني وحظيت بالشعبية

تسللت الحرب إلى الوعي الشعبي، وحظيت مسيرات إعادة التسلح بالقبول الشعبي، وأُقيمت احتفالات كبيرة في كل عام تخللتها معارك وهمية، واستُعرضت الدبابات الهجومية والطائرات الحربية ليراها الجميع. لقد أعادت النازية تنظيم الاقتصاد والمجتمع ليتمحور حول “رؤية الحرب” التي تحولت إلى ترفيه جماهيري.

في عام 1936، أعاد جيش “الرايخ الجديد” أو “الفيرماخت” (قوة الدفاع) احتلال راينلاند، أحد المراكز الكبرى لصناعة الفولاذ، وقد كانت منزوعة السلاح منذ معاهدة فرساي.

نشأت الحاجة إلى المزيد من المواد الخام لمتابعة المسيرة نحو الحرب، وهذه المواد شحيحة في ألمانيا التي كانت تشتريها من الخارج، وتدفع ثمنها ذهبا أو بالعملة مثل الدولار والفرنك والجنيه، لكنها لم تملك أيا منها.

تحفيز الاقتصاد.. صراع داخلي يسقط خبراء النهضة

شعر “شاخت” بالقلق، فقد ساعدت “سندات ميفو” على تحفيز الاقتصاد، لكن حان الوقت لسداد قيمتها. ولم يعد ممكنا الاستمرار بالزخم نفسه، وكان لا بد من تخفيف حدة التسارع في الاقتصاد عبر إبطاء إعادة التسلح، والبدء بسداد الديون المترتبة على “سندات ميفو”، وهذا ما قاله لـ”هتلر”.

 

وقد نشب نقاش حاد داخل النظام الألماني بين طرفين، أولهما “يالمار شاخت” الذي يُطبق مبادئ الوطنية، وإعادة بناء القوة الألمانية، وممارسة القوة السياسية تجاه جيران ألمانيا، لكنه قلق بشأن توازن الاقتصاد الألماني، وهو غير معني بمواجهة شاملة مع القوى الكبرى في العالم ممثلة ببريطانيا وفرنسا.

أما الطرف الآخر فهم المحيطون بـ”هيرمان غورينغ” الذين يرغبون في رفع جهود إعادة التسلح إلى أقصى درجة ممكنة. فكر “هتلر” في ذلك، ثم قرر أن ينزع السلطة الاقتصادية من يد “شاخت” وخبرائه، ويسلمها إلى آخر شخص متوقع. إنه “هيرمان غورينغ”.

الاكتفاء الذاتي.. إغلاق الباب على الاقتصاد

قررت ألمانيا أن تعتمد على نفسها، فجاء “غورينغ” بسياسة الاكتفاء الاقتصادي الذاتي، وبدأ بإقامة مصانع تحمل اسمه، فتأسست شركة “هيرمان غورينغ” للأشغال عام 1937، وأنشأ برنامجا لتصنيع المطاط الصناعي في شركة “آي جي فاربن” العملاقة التي قفزت أرباحها بنسبة 90%.

وكانت ألمانيا بحاجة إلى التوقف عن استيراد البترول بأسرع وقت ممكن، وساهمت الاستثمارات العامة الضخمة في تسريع برنامج إنتاج الوقود الصناعي.

رغم كثرة مصانع الصلب، الاقتصاد النازي يوصد الباب على نفسه استعدادا للحرب

لكن الاكتفاء الذاتي لم يكن بلا ثمن؛ فقد كانت كلفة طن الفولاذ من مصانع “غورينغ” تُعادل ثلاثة أضعاف كلفة الطن الواحد المستورد من رومانيا أو الاتحاد السوفياتي، وتولت الدولة دفع الفرق وتحملت التكاليف الهائلة للدعم الحكومي، ولم يكن أي شيء مهيئا للاكتفاء الذاتي.

فمن وجهة نظر اقتصادية صرفة، لم يكن الاكتفاء الذاتي قرارا عقلانيا؛ فقد أوصد الاقتصاد النازي الباب على نفسه استعدادا للحرب، وهذا بحد ذاته إعلان حرب اقتصادية.

وبالتزامن مع ذلك، أخذ النظام النازي في تصعيد التوتر في السياسة الخارجية؛ فوقعت عملية “أنشلوس” بإعلان ضم النمسا إلى ألمانيا عام 1938، ثم وقع الانقلاب المدبر بهدف تفكيك تشيكوسلوفاكيا، مما أدى إلى حدوث تصعيد على المستوى الدولي لم يكن النظام مستعدا له.

أصحاب المال.. عدو طالما أضمر العداوة للعرق الألماني

يقول البروفيسور “آدم توز” -من جامعة كولومبيا بنيويورك- إن العدو في نظر النازيين تمثّل في أصحاب الأموال من مالكي البنوك والمقرضين، فقد أصبحت هذه الأشياء في نظر النازية سائبة ومتحررة وغير متجذرة في تراب الأمة، باعتبارها تنتمي إلى عِرق لطالما أضمر العداوة للعِرق الألماني على مدى التاريخ.

دبابات تشارك في احتفالية هتلر بعيد ميلاده الخمسين

يقول البروفيسور “فرانك بايور” -من مركز دراسات الهولوكوست في ميونيخ- إن اليهود اعتُبروا كائنات طفيلية تنتمي إلى الطغمة الذهبية للرأسمالية العالمية، والمتمثلة في الذهب والمال، وعلى الجانب المقابل، كان عالم الدم والتراب والإخلاص والشرف مرتبطا بألمانيا.

ولم يكن المال والعِرق متوافقين في نظر الوطنية الاشتراكية، وكان النازيون يُبغضون المال، لكنهم احتاجوا إليه لتمويل اقتصادهم. ووفقا لهذه العقلية الاقتصادية التي تبناها النازيون، لم يكن على الآريين أن يشتروا الأشياء، وإنما أن يأخذوها وحسب. ولم يكن عليهم أن يدفعوا، بل أن يسرقوا، خصوصا من المُكوّن اليهودي.

“ليس لدينا ما نخسره، بل قد نربح كل شيء”

رغم استيلائه على مناجم ومصانع الفولاذ النمساوية، ومصادرة الدبابات التشيكية، والحشد المكثف للمصانع الألمانية، لم يكن “الفوهرر” يمتلك الجيش اللازم لاجتياح أوروبا.

فقد شكلت الآلات جزءا بسيطا من مسيرة الاحتفال بعيد ميلاد “هتلر” الخمسين عام 1939، واعتمد الجيش في المسيرة على الخيول والدراجات الهوائية، وشاركت عربات “كروب” المُدرّعة في المسيرة، لكنها كانت أقل تطورا من الدبابات الفرنسية، ولم تكن البحرية تملك سوى 5 سفن حربية، ولم يكن لدى سلاح الجو أي قاذفات ثقيلة.

نشاط صناعي لإنتاج الطائرات العسكرية استعدادا للحرب

قال “هتلر” لقادته العسكريين: ليس لدينا ما نخسره، بل قد نربح كل شيء، فالقيود المفروضة على اقتصادنا لم تدع لنا مجالا لاستمرار السيطرة عليه.

أصيب الجميع بالدهشة عندما وقّعت ألمانيا والاتحاد السوفياتي اتفاقية عدم اعتداء في 23 من أغسطس/ آب عام 1939، وهي اتفاقية ضمنت وصول الإمدادات الاقتصادية الأساسية للمجهود الحربي الألماني، كالنفط والحبوب والحديد والمعادن والمواد الخام اللازمة لإنتاج الفولاذ.

احتلال بولندا.. انتصار سريع يبدأ الحرب ويزيد التصنيع

في فاتح سبتمبر/ أيلول عام 1939 غزت القوات الألمانية بولندا. كان انتصارا سريعا وخاطفا، لكنه أظهر نقصا في إمدادات الأسلحة، وتعرض ربع الدبابات المهاجمة للإتلاف. وأدى غزو بولندا إلى استدراج فرنسا والمملكة المتحدة إلى النزاع، وبدأت الحرب الزائفة حين تبادلت القوات الفرنسية والألمانية مراقبة تحركات بعضها، وأتاحت هذه الاستراحة فرصة لإعادة تنظيم الاقتصاد النازي.

القوات الألمانية تغزو بولندا سنة 1939 وتحتلها في وقت قصير

وقرر “هتلر” أن الوقت قد حان لتعيين وزير مسؤول عن إنتاج الأسلحة والعتاد الحربي. وهكذا عُين في هذا المنصب عضو الحزب النازي المهندس “فريتز تودت” الذي كان مسؤولا عن بناء الطرق السريعة في الثلاثينيات، وتشييد التحصينات حتى عام 1940، وكان موضع ثقة “هتلر”.

لجأ “هتلر” إلى خيارات قاسية، فضحى بالقوة البحرية، وأبقى على برامج صناعة الدبابات، وجعل الأولوية للعتاد الحربي، وسلاح الجو الذي خُصص له 40% من الإنفاق العسكري، وفوق ذلك تضاعف إنتاج الأسلحة والقذائف والذخائر 8 مرات.

 

تمكن “تودت” من توجيه الصناعات الحربية إلى أهداف قصيرة الأمد وسهلة التحقيق، وكانت الأولوية لسرعة دخول الحرب ولا شيء غير الحرب.. وتحقق الهدف، وتضاعف إنتاج الأسلحة بين يناير/ كانون الثاني ويوليو/ تموز من عام 1940، وتلك أكبر زيادة خلال الحرب بأكملها.

اقتصاد النهب.. انتصارات وحروب لملء البطون والخزائن

غزا الألمان الدنمارك والنرويج في مايو/ أيار عام 1940، ومن بعدهما بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ وفرنسا.. وكل هذا خلال بضعة أسابيع. وحينها أحس “الرايخ” (اسم يطلق على ألمانيا) بنشوة النصر، وصوّرت الأفلام الدعائية احتفال النظام بانتصار العقل على المادة متجسدا في طائرات “ستوكر” ودبابات “بانزر” التي لا تُقهر.

فألمانيا الفقيرة المحصورة في مساحة ضيقة تمكنت من استرداد روحها من جديد، واستطاعت البلاد بفضل النازية أن تتفوق على نفسها، وتعوض النقص في الأموال والمواد الخام، ونجح الاقتصاد الألماني في تخليص نفسه من الاعتبارات المادية.

في الوقت الذي كانت دبابات هتلر تغزو البلدان الشرقية، كان الألمان جوعى لا يجدون الطعام

 

أما في الحقيقة، فكان الألمان يعانون الجوع، وكانت الدبابات بحاجة للوقود، وكان النظام الوطني الاشتراكي يشن حربا على الائتمان الذي تخفيه “سندات ميفو”، وقد بدأ النظام سدادها عبر طباعة النقود والائتمان المبني على السلع المنهوبة من الدول المُحتلة.

موّلت ألمانيا ثلث نفقات مجهودها الحربي من الأموال المنهوبة من المناطق المحتلة، فقد أُلزمت فرنسا -مثلا- بأن تُزوّد ألمانيا بالحبوب وبمبالغ نقدية هائلة، وأُخذت الفضة والذهب والفحم من بولندا، ونهب النازيون كل أجزاء أوروبا، لأن اقتصادهم كان بحاجة إلى ذلك ليستمر. ولجأ الجنود الألمان إلى السرقة للحصول على الطعام فعم الفساد، وأمسى الناس يعولون على قوّتهم في الحصول على الأشياء.

وهكذا عانت ألمانيا من نقص في كل شيء؛ الغذاء والمواد الخام والأموال والمعدات العسكرية، وانتشر النهب المنظم في الدول المهزومة والمحتلة، وتحولت السرقة إلى نشاط قانوني وشائع، ودخل اقتصاد الحرب الألماني في حالة من الفوضى الناتجة عن مزيج من الارتجال والسرقة.