“أرواح ضائعة”.. محاكمات نظام فضحه ملف قيصر في المحاكم الأوروبية

ظلّ عبيدة دباغ -وهو مهندس سوري مقيم في فرنسا- مصّرا على معرفة مصير أخيه وابنه اللذين انقطعت أخبارهما، منذ أوقفتهما أجهزة الأمن السوري عام 2013، وحاولت أمل المقيمة في إسبانيا تقصّي أخبار أخيها السائق الموقوف منذ 2013 في سوريا، لكن فاجعة الاثنين ومعهما آلاف السوريين كانت على أشدها حين اكتشاف ما أطلق عليه ملف قيصر.
قيصر هو الاسم الحركي لمنشق سوري كان يعمل مصورا في المخابرات العسكرية السورية، كانت مهمته تصوير ضحايا الحوادث والجرائم في القسم للتوثيق، وبعد انطلاق الاحتجاجات في البلد، تحوّل عمله إلى تصوير معتقلين قضوا تحت التعذيب خلال فترة اعتقالهم في سجون النظام السوري.
هكذا صوّر ما بين 2011-2013 عشرات الآلاف من الصور لضحايا كان مصيرهم مجهولا لدى أهاليهم، وقد تواصل قيصر مع صديقه سامي -وهو أحد النشطاء في إسطنبول- بهدف نشر هذا الملف المروّع، لإطلاع العالم عليه، ومساعدة السوريين على التعرف على مفقوديهم، وقد هُرّب من سوريا إلى بلد أوروبي شمالي.
نشرت هذه الصور التي يصعب وصف فظاعتها عام 2014، وتمثل رجالا عراة فارقوا الحياة، بينما تَظهر عليهم آثار تعذيب شديد. 27 ألف صورة حُللت واحدة بعد أخرى من قبل خبير في ألمانيا، وشكّلت جميعها صدمة مفجعة للعالم.
كان هذا الملف الذي عُرف عالميا باسم “ملف قيصر” أو “سيزار” نقطة الانطلاق لفيلم وثائقي فرنسي، لكن “أرواح ضائعة” (Les âmes perdues) لم يخرج إلا اليوم بعد سنوات من بدء العمل عليه، وقد عرض عام 2023، وقد أخرجه “ستيفان مالتير”، وكتبته وساعدت في إخراجه “غارانس لي كيزن”.
ملف قيصر.. مادة فيلمية تصور آلة الموت السورية
كان “ستيفان مالتير” و”غارانس لي كيزن” الاثنان قد حققا وثائقيات عن سوريا من قبل، وقد شرعا حينها بتحقيق هذا الفيلم للحديث عن “آلة الموت السورية” هذه، فتنقلا بين تركيا وعدة بلدان أوروبية، والتقيا عددا من الأشخاص من سوريين وأوربيين ومحققين ومحامين وضحايا.
ورغم وفرة المادة الفيلمية فإنها لم تقنعهما، ولم تكن كافية برأيهما لصنع فيلم طويل كما تخيّله المخرج، أي على شكل قصة تمتد على مراحل عدة في الزمن مع شخصيات محددة. كان ما جمعاه من معلومات وحوارات يحدّ من وجود في الزمن الحاضر ومؤثراته، وهو ما يشكل برأيهما اللاعب الحقيقي في القصة.
لكن مع دخول عنصر جديد إلى القضية بات إكمال الفيلم ممكنا، فعلى الرغم من شلل العدالة الدولية بعد ظهور الملف وعدم اتخاذها أي خطوات ضد النظام السوري، عاد ملف الضحايا إلى النور عام 2016، وذلك مع تقديم شكويين اثنتين في محكمة فرنسية وأخرى إسبانية من قبل مواطنين من أصل سوري (اليوم هناك 20 قضية كما يقول الفيلم)، لإطلاق ملاحقات تتعلق بملف قيصر.
وقد صدرت على أثرهما مذكرات توقيف وإعلان عن محاكمة مسؤولين كبار في النظام السوري، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
لوحات قيصر.. فظائع سوداء معلقة على جدران بيضاء
اعتمد الفيلم أسلوبا في الإخراج يقترب من الأسلوب الروائي، وبان ذلك في القصّ الحكائي لناحية متابعته للشخصيات وتطورات الأحداث المتعلقة بها، والمرتبطة بعنصر الفيلم الأول، وهو ملف قيصر.

كما تأكّد في الاهتمام بتركيب المشهد، فقد كان هذا المشهد مبنيا ومدروسا في اختيار أمكنته وعناصرها، وشخصياته ومظهرها وتحركاتها، وهو ما قد يفاجئ المشاهد المطّلع على الحدث، إذ يكون متوقعا لصرامة ما في الإخراج تتناسب مع هول الموضوع.
يُظهر المشهد الأول امرأة تأنقت بالأسود والأبيض أمام لوحات من ملف قيصر علقت على جدران بيضاء، وتركّز اللقطات على تعابيرها تارة وحذائها العالي تارة أخرى، بينما هي تتنقل من صورة إلى أخرى، كأنها وسيلة لتجنب إظهار هذه الفظائع المعلّقة التي لا يبدو منها في الفيلم إلا ما يسمح بالربط مع تساؤلاتها عن إمكانية ارتكاب إنسان لأهوال كهذه، ومدى قدرته على تعذيب وتخريب روح وجسد آخر؟
تلك المرأة هي المحامية الإسبانية للسورية أمل، وهي تسعى لجمع مستندات يستلزمها رفع دعوى ضد النظام السوري وأجهزته. وكانت أمل قد تعرّفت على صورة أخيها في ملف قيصر من بين الضحايا.
قيصر.. أوراق متناثرة تجسد جثثا مرقمة
يحضر قيصر نفسه في الفيلم في المشهد التالي، بعد تردد -على ما يبدو- في الظهور والمشاركة، وفي إخراج مسرحي متعمد ظهر من الخلف وتقدّم في المشهد تدريجيا، ليظهر وقناع على وجهه في مكان بدا واسعا فارغا يردد صدى كلماته، ثم تناثرت على أرضه أوراق تجسد جثثا ثبتت عليها لوحات رقمية.
إنها أجواء توحي بغموض وسرية تتناسب مع الشخصية والألغاز المحيطة بها والعزلة التي أجبرت عليها، كما تثير جوا من الرهبة كفيلا بالتحضير لما هو آت، لكنها قد تبدو على تعارض مع البوح والكشف المناطين بها، إذ يبدو شيئا فشيئا أنهما ليسا هدف الفيلم الوحيد.

ومن خلال متابعة كفاح أولئك الذين يرفضون السماح لهذه الجرائم بالمرور من دون عقاب، يأتي الفيلم ليذكّر بما مضى وبما زال ساريا إلى اليوم، كي يبين أن الملف لم يغلق بعد، وأنه حيّ من خلال آلاف العائلات.
عبيدة الدباغ.. عمل دؤوب في سبيل معاقبة الجناة
يبتعد الفيلم عن أسلوب التحقيق الصحفي في تركيزه على قصة آل الدباغ في فرنسا، وبحثها عن مصير الأخ الفرنسي السوري المختفي في سجون النظام مع ابنه، وأمل في إسبانيا التي تعرفت على أخيها الراحل في صور الملف.
جميعهم تتابعهم الكاميرا في كل إجراءاتهم المتعلقة برفع قضية ضد النظام السوري وأجهزته، تلتقط لحظات أسى كثيرة يتخللها أحيانا عبور موجز لومضة أمل لا تلبث أن تنطفئ. تبدو الثقة واضحة بين الطرفين، بين محققي الفيلم من جهة والمشاركين فيه، وهو أمر ضروري عند ملاحقة الشخصيات لسنوات، والالتصاق بها في كل مكان بين فرنسا أو إسبانيا لمتابعة تطورات القضية، واللقاءات مع المحامية، والمحاولات مع شخصيات سياسية.
لقد حاول عبيدة الدباغ كل ما في وسعه، وكتب للسياسيين الفرنسيين، على اعتبار أن أخاه فرنسي أيضا، ومع أن كل مساعيه باءت بالفشل، فإن اليأس لم يدخل قلبه، وبقي يناضل حتى استطاع الوصول إلى المحكمة، وإلى صدور الأحكام، ورغم أنها لم تعوضه عن أخيه الراحل، فإنها حققت له هدفه بمعاقبة الجناة.
وجوه المتحدثين.. ملامح تنطق بهواجس الحيرة والقلق
لم يعتمد الفيلم صورا من الأرشيف، فكثيرا ما شوهدت صور الحرب السورية كما قال المخرج.
لقد مرّر المخرج صورا من ملف قيصر لأجساد معذّبة مرورا سريعا، لكنه كافٍ بأثره على النفس، ولا يمكن له أن يُنسى. وكما ظهر في الفيلم، فقد فضّل المخرج التركيز على الشخصيات والتقاط أدق تعابيرها في لقطات مقربة، كما اتخذ أسلوب التحقيق البوليسي في متابعة شخصيات يسكنها هاجس الحيرة والقلق لمعرفة مصير أعزاء عليها، فهل هم على قيد الحياة، أم أنهم غادروها؟
وأيضا في تبيان مساعيها لكشف الحقيقة وتطورات الحدث يوما بعد يوم من خلال عمل المحاميتين الفرنسية والإسبانية، ومحاولاتهما الحصول على أدلة تدين الأجهزة الأمنية. كل هذا جرى بأسلوب حريص على مشاعر الجميع.
تصوير الفظائع.. طقوس تقديم الولاء لسيد البلاط
لقد اختفى المخرجان خلف الكاميرا، ولم يطرحا أسئلة مباشرة، بل تركا الشخصيات تعبر عن نفسها وعن الأحداث، لكن مع هذا تبقى تساؤلات عدة تراود المشاهد طوال الفيلم، ومنها بشكل رئيسي السؤال عن دوافع الأنظمة لتوثيق جرائمها على هذا النحو بالصور والأرقام.
فمن المؤكد أن هذا لأغراضها وليس لإعلام أهالي الضحايا، فما الغرض؟
كان يتوقع من فيلم كهذا أن يطرح السؤال على مختصين لتحليل الأمر، فهل هو مثلا رغبة من الجهات العليا بإمساك دلائل على متنفذين في الأجهزة الأمنية تضمن بها ولاءهم للأبد، أم أنها -كما رد سامي سريعا في الفيلم- محاولات الأجهزة الأمنية لإثبات الولاء للرئيس؟
“ستيفان مالتير”.. وثائقيات مخرج مهموم بأوجاع الشرق
عمل مخرج الفيلم “ستيفان مالتير” صحفيا ومراسل وكالات أنباء إعلامية، وحقق ما لا يقل عن عشرين وثائقيا عرضت في المحطات الفرنسية.
لقد حقق في تجارة الأسلحة والصراعات في أفريقيا قبل أن يتجه نحو صنع الفيلم الوثائقي، فأخرج فيلم “باسم الأب والابن والجهاد” (Au Nom du Père, du Fils et du Jihad)، وهو فيلم طويل صوّره خلال ثلاث سنوات من سوريا، وعرض عام 2016.
أما “غارانس لي كيزن” فهي تهتم بالإسلام الفرنسي، وأنجزت عدة تحقيقات صحفية عن سوريا، كما شاركت أيضا في كتابة الوثائقي “سوريا.. شهود الإثبات” (Syrie Témoins à charge) الذي أنتجته قناة الجزيرة والقناة الخامسة الفرنسية (2016).