“تلَمُّس الحرية”.. قصة مصورين عايشا أيام كوباني العصيبة
لم يتصور الصديقان الكرديان السوريان حسين عباس وجنكيدار شيخدمار أن رحلتهما من بيروت إلى كوباني لزيارة عوائلهما، وتصوير الحالة الجديدة التي يعيشها سكانها بعد تخلصهم من سيطرة النظام السوري عليهم، ستحولهما إلى مصورين ميدانيين، وشاهدين على صمود المدينة أمام هجمات مسلحي “الدولة الإسلامية” عليها عام 2014.
وقد جعلتهما هذه الرحلة أول الموثقين لوقائع الهجمات الحية، مما ألهم المخرجة السويدية اللبنانية الأصل منال مصري لكتابة نص سينمائي عنها سمته: “تَلمُس الحرية” (Touching Freedom)، لكنها لم تكتفِ بالخامات المصورة بكامرتهما، بل عملت على توسيع مساحته الدرامية، من خلال التقرب بنفسها من الشابين الكرديين ومعرفة تأثير التجربة عليهما، لتتمكن بعد ذلك من الربط بين ما صوروه من مشاهِد في سوريا وبين مجريات حياتهما بعد الخروج منها.
كوباني.. رحلة إلى مدينة استنشقت أنفاس الحرية
يبدأ الوثائقي مساره من لقطتين سريعتين يظهران فيها، كل في مكانه الجديد؛ حسين في باريس وجنكيدار في برشلونة، وهما يجيبان باقتضاب على سؤال المخرجة حول ما يشعران به بعد خوضهما تجربة معارك كوباني. أجوبتهما تجلي حزنا عميقا على خسارة أقارب وأصدقاء لهم فيها.
من ذلك المفتتح يرجع الوثائقي بالزمن إلى الوراء قليلا، وينقل من بيروت تفاصيل اللحظة التي كانا يستعدان فيها للسفر إلى كوباني، وهي تشهد تحولات جذرية لها صلة بالمتغيرات السياسية التي تشهدها المناطق الكردية في شمال سوريا، فقد حصلت منذ 2012 على هامش حرية لم تعرفه من قبل، وتتمتع بإدارة ذاتية لمناطقها، تخلصت بها من سيطرة النظام السوري عليها.
تلك التحولات هي التي شجعت الصديقين على التفكير بتوثيقها بكاميراتهم الرقمية البسيطة، ووجدا فيها أيضا فرصة لمقابلة عوائلهم وأصدقائهم بعد انقطاع عنهم بسبب دراستهما في لبنان، هذا إلى جانب إحساسهما بأن العالم لم يطّلع بشكل جيد على التجربة الكردية الجديدة، لهذا تحمسا لنقلها بأنفسهم والتعريف بها.
مدخل المدينة.. ترحيب بلغة كانت محظورة في العلن
في طريقهما إلى سوريا، لم يتصور البطلان ما الذي ينتظرهما هناك، ولم يفهم حسين لماذا يطلب منه والده عدم المجيء، والاكتفاء بالتواصل معهم هاتفيا من بيروت، فقد كانت رغبتهما بالوصول تؤجل التفكير بأي أمر آخر، وما إن اقتربا من حاجز للقوات الكردية -أقيم عند مدخل المدينة- حتى شعرا بحقيقة ما يجري على الأرض.
فللمرة الأولى في حياتهما يُرحب بوصولهما إلى المدينة باللغة الكردية التي منع النظام السوري عليهم التحدث بها علنا، وفي بيت كل منهما يرحب الأهالي بهما، فشعرا بالسعادة من وجودهما بينهم، على الرغم من أن ظروف المعيشة لم تتحسن كثيرا، بسبب استمرار الاضطرابات السياسية والعسكرية في المنطقة.
فأم حسين تشكي نوعية الطحين الذي تخبز به رغيفها، وتنقل له مخاوف أهالي المنطقة من سماعهم المستمر لأصوات دوي القنابل القريب من بيوتهم، أما والده فيبدو غير متحمس كثيرا لعودته، لأنه لم يصغ لنصيحته.
وفي بيت أهله يستعيد “جنكيدار” ذكريات طفولته وعلاقته المتميزة بأخيه حسن النجار الماهر الذي يتولى رعاية العائلة أثناء غيابه، والمستعد على الدوام لتقديم يد العون لمن يحتاجها.
“ثورة إقليم روجادا”.. أحلام كبرى تتجسد على الأرض
في الخارج، توثق كاميرات البطلين جوانب من “ثورة إقليم روجافا” كما يسميها الأكراد السوريون، وعلى الرغم من شح إمكانياته يشهد الإقليم تحولات في مجالات كثيرة، منها تعليم اللغة الكردية في المدارس، الأمر الذي كان يعد في السابق حلما لا يمكن تحقيقه، وتحسين العمل في المستشفيات والحرص على توفير اللقاحات الضرورية للأطفال، إلى جانب مد الأسلاك الكهربائية، ونصب وتشغيل المولدات بعد أن قطع النظام السوري الطاقة الكهربائية عن المناطق الكردية.
وفي كل هذا تسهم المرأة الكردية وتلعب دورا حيويا فيه، فالمشهد العام في روجافا يثير فرح الشابين المتحمسين لنقله إلى العالم، مثلما يودان نقل السعادة التي غمرتهما وهما يشاركان الناس احتفالاتهم بعيد النوروز القومي. ولمُشاهدتهما ولأول مرة حركة انتقال الأكراد بين حدود الدول المجاورة للمشاركة في الاحتفالات.
ووسط تلك الفرحة تصل أنباء مقلقة عن سيطرة مسلحي “الدولة الإسلامية” على الموصل ثاني أكبر المدن العراقية، وحصولهم على كميات كبيرة من الأسلحة، بما فيها الدبابات والمدرعات، وبدء تحركهم نحو الحدود السورية، للسيطرة على مدينتهم وبقية المدن المتاخمة للحدود التركية.
“الدولة الإسلامية”.. حصار المدينة الشجاعة المتشبثة بحريتها
للدفاع عن المدينة يتطوع شبابها للتدريب على حمل السلاح، فيدخل المصوران ساحات التدريب، ويلتقي حسين فيها صدفة بصديق طفولته ماهر وأخاه الأصغر باسل الذي يلازمه ولا ينفصل عنه، وكأنهما توأمان، ويتذكرون معا طفولتهم واللعب في أزقة مدينة كوباني وفي ساحات مدارسها البسيطة، كما يقابل جنكيدار صديقه المقرب رستم، وللذكرى يلتقط صورة له بالزي العسكري.
ومما يسترعي انتباه الوثائقي، كثافة مشاركة النساء الكرديات في التدريبات على حمل السلاح، إذ يقابل المصوران عددا من المتطوعات في فصيلهن، ويندهشان لحماستهن في الذود عن مدينتهن.
وبعد أن شن مسلحو تنظيم “الدولة الإسلامية” هجومهم على كوباني، تحولت المدينة بأكملها إلى قلعة استبسل حماتها في الدفاع عنها بأسلحتهم البسيطة والمتهالكة. وبعد استمرار القتال عدة أسابيع، استطاع التنظيم محاصرة المدينة والاقتراب كثيرا من مواقع المقاتلين الأكراد، مما أدى إلى سقوط الكثير منهم.
وتكشف مرافَقة المصوريْن للمقاتلين ونقلهما لمجريات المعارك الشرسة، عن شجاعة يتمتعان بها، ولم يتخليا عنها حتى عند اقتراب نيرانها منهما كثيرا. وتوثق كاميرتهما أيضا حالة الخوف الذي أخذ ينتقل إلى دواخل المدنيين، ويدفع الكثير من السكان لمغادرة المدينة والنزوح منها نحو المناطق الحدودية.
موجة النزوح.. آخر فرصة للنجاة من براثن الموت
توثق الكاميرا عملية النزوح الكبيرة الحاصلة خوفا من سقوط المدينة المحاصرة، وفي الوقت نفسه تنقل المعنويات العالية للمُصرّين على البقاء فيها والدفاع عنها حتى الرمق الأخير. وكان من بين المغادرين النجار حسن وعائلته، أما المقاتلون رستم وماهر وباسل، فقد وردت أسماؤهم بين قوائم شهداء كوباني، وإليهم أضيفت أسماء جميع مقاتلات فصيل النساء.
تترك خسارة الأصدقاء أثرها العميق على المصوريْن، كما يضيف طلب المسؤولين السياسيين من كل سكان المدينة مغادرتها -حفاظا على حياتهم- حزنا وغضبا عاما ينصبّ على العالم الساكت عما يجري في مدينتهم، على الرغم من إعلان قوات التحالف الدولي نيتها للتدخل في الدفاع عنها.
وبعد طول انتظار، يهاجم طيران التحالف مسلحي التنظيم وإلى جانبه يتحرك المقاتلون الأكراد على الأرض، وفي تلك اللحظة تصبح كوباني في قلب الاهتمام العالمي، بينما كان سكانها خلال 3 أشهر مستمرة من القتال يتألمون لموت أحبة لهم على أطراف المدينة، ومن بينهم النجار حسن ووالد حسين. فخبر موتهما أثر كثيرا على المصوريْن، ودفعهما لمغادرة المدينة بعد ابتعاد مسلحي التنظيم عنها، وفي طريقهما إلى الخارج أخذا معهما صور مدينتهم التي أضحت خرابا.
مواصلة العمل من بلاد المهجر.. تخليد الضحايا
يتصل جنكيدار من برشلونة بصديقه في باريس، ويطلب منه مواصلة ما أنجزاه، على الرغم من الأحزان التي تركتها تجربة كوباني في نفوسهم.
وينطلق الشاب المتحمس من فكرة إحياء ذكرى المدينة وتعريف العالم بما جرى فيها، ويتضمن جانب منه تكريما للضحايا وتشجيعا للباقين على قيد الحياة، لمواصلة ما سعوا من أجل تحقيقه تاريخيا.
وفي مشهد داخل قاعة جامعة إسبانية -منحته دراسة على حسابها- يظهر حسين وهو يلقي محاضرة عن تجربته التي تعلم منها أن النصر يأتي من الإصرار وعدم الاستسلام. وينضم إليه صديقه القادم من باريس، بعد أن حصل على حق الإقامة فيها لإكمال دراسته في جامعة السوربون، ويريد صديقه منه أن يحاضر في الجامعات الإسبانية عن تجربته، وعن المدينة التي أضحت بالنسبة للشعب الكردي مثالا على صموده وإصراره على نيل حقوقه القومية.