“بوابة هوليود”.. عدسة تتابع يوميات الورَثة الجدد للقاعدة الأمريكية
عرضت دور السينما حتى الآن فيلما أو أكثر عن انسحاب الأمريكيين من أفغانستان، لكننا لم نكن قد شاهدنا فيلما عما بعد الانسحاب، أي بعد سيطرة مقاتلي طالبان على الأمور، وتحويل البلاد إلى إمارة إسلامية أطلقوا عليها “إمارة أفغانستان الإسلامية”، حتى جاء هذا الفيلم الذي عرض في الدورة الماضية لمهرجان البندقية السينمائي.
الفيلم هو “بوابة هوليود” (Hollywood Gate)، وهو الاسم الذي أطلقه الأمريكيون على قاعدتهم العسكرية في كابل، التي يرى البعض أنها كانت قاعدة رئيسية للمخابرات المركزية.
فيلم “بوابة هوليود” هو وثائقي طويل (92 دقيقة) من إخراج إبراهيم نشأت، وإنتاج طلال الديركي، ويعد أول محاولة حقيقية لاكتشاف ما يحدث في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية، وفرض طالبان سيطرتها على البلاد.
إبراهيم نشأت.. أول صحفي يدخل أفغانستان بعد الانسحاب
مخرج الفيلم المصري إبراهيم نشأت هو صحفي مقيم في ألمانيا، عمل في التلفزيون الألماني، وفيلمه من الإنتاج الألماني الأمريكي، وهو أول مخرج يدخل بالكاميرا إلى أفغانستان بعد يومين فقط من انسحاب الأمريكيين المصحوب بالفوضى في أغسطس/آب عام 2021، مسلحا بكاميرا محمولة على اليد، ومصحوبا بمترجم أفغاني، لكن طبقا للشروط التي وضعها مسؤولو طالبان التي يحدثنا عنها نشأت في بداية الفيلم.
فقد كان مسموحا له فقط بتصوير شخصيتين من شخصيات طالبان؛ الأول هو مولاي منصور الذي عُيّن حديثا قائدا لسلاح الطيران دون أن يمتلك أي معرفة بالطيران، فهو مقاتل تقليدي نراه وهو يهرول في جلبابه، ويجرجر جسده الضخم داخل القاعدة الأمريكية مزهوا بنفسه.
وأما الثاني فهو محمد مختار، وهو أقل مرتبة ورتبة من منصور، فهو ضابط في ميليشيا طالبان التي أصبحت الآن جيشا يتطلع إلى إصلاح المعدات والأسلحة الحديثة التي تركها الأمريكيون خلفهم، وأهمها أسراب من الطائرات المقاتلة والمروحيات من طراز “بلاك هوك”، فقد تركها الأمريكيون بعد أن أعطبوها.
مولاي منصور.. همجي عديم الخبرة لا يحسن الحساب
يجتمع قائد سلاح الطيران مولاي منصور بعدد ممن كانوا طيارين في سلاح الجو التابع للنظام الأفغاني المنهار، يبدي تشككه في بعضهم، يستخدم أيضا لغة الوعيد والتهديد، مع التلويح أيضا بالمكافآت الضخمة، خصوصا لو نجحوا في إصلاح تلك الطائرات وإعادتها إلى العمل.
لكن هذا الرجل نفسه يخطئ في حساب بسيط عندما لا يتمكن من تحديد حاصل ضرب 67 في 100، وهو الرقم المطلوب لدفع رواتب الضباط، فهو يطلب الحصول على 67 ألف أفغاني (العملة الأفغانية) بدلا من 6700.
إن كان هذا لا يبدو مستغربا، كذلك لا يبدو نهج منصور الذي أراد هو وقادته أن يكون الفيلم عملا دعائيا يصور الإيجابيات، ومنحوا نشأت عاما كاملا لتصوير “إنجازاتهم” في تحويل أفغانستان إلى إمارة إسلامية، فهو يصدر ما يتناقض تماما مع فكرة الدعاية، ومع تقديم صورة إيجابية عن طالبان، فنراه مهددا ومتوعدا فهو يقول على سبيل المثال: إن كانت نيات هذا الشخص (يقصد المخرج) سيئة، فسيكون مصيره الموت.
ونحن نسمع هذا على شريط الصوت، كما سجله المخرج نشأت دون أن يتدخل ولا يعلق، فهو يحاول باستمرار طوال الفيلم أن يبقى على مسافة ممن يصورهم، لا يشتبك معهم بل يوجه الأسئلة على استحياء، لكنه في الوقت نفسه يلتقط خلسة غير المسموح له بتصويره، مثل المرور ولو سريعا على أحوال النساء، واعتداء أحد رجال طالبان بالضرب على إحداهن في الشارع.
أحلام المحاربين.. طموحات دعم السلطة والانتقام
نرى في الفيلم عددا من سكان كابل الذين يفترشون الأرض في السوق، والأطفال الذين تبدو على ملامحهم علامات الجوع، في تناقض مع طفل آخر مفعم بالصحة والرفاهية، وهو أحد أبناء منصور، فنراه يلهو بالسلاح وكأنه يتمثل ما نشأ في ظله من عنف.
لا يتحدث منصور أبدا عما سيقيمونه من مشاريع للنهوض بالبلاد لخدمة السكان، فهذا أبعد ما يكون عن تفكيره وعن تفكير زملائه، فهم مشغولون بأمر واحد فقط، هو دعم سلطتهم وتقوية ميليشياتهم، والحلم بالانتقام الدائم، والتهديد بشن حرب على جارتهم طاجكستان، فمنصور يتصل هاتفيا بوزارة الدفاع في تلك الدولة، ويهدد بالحرب، متهما طاجيكستان بدعم المتمردين في الأراضي الأفغانية.
وهو يتحدث بفخر عن زوجته التي كانت تعمل طبيبة، ثم اشترط عليها قبل أن يتزوجها، أن تتخلى عن مهنتها وتتفرغ للمنزل فقط، أما الضابط مختار، فهو يصحب نشأت إلى قبر أخيه الذي قُتل في غارة أمريكية، ويتعهد أمام القبر بالانتقام له، ويهدي له كل الانتصارات العسكرية التي حققوها، ثم يقول للمخرج إنه يحلم فقط بأن يهبط فوق فرقة من الجنود الأمريكيين وهو يحمل المدفع الرشاش، ثم يفتح النار ليقتل أكبر عدد منهم.
“هذا الأحمق يهتم كثيرا بتصوير النساء”
يسمح المخرج لنفسه بتصوير صفوف الطائرات المتراصة في القاعدة العسكرية، على الرغم من تحذير القائد مولاي منصور له من ذلك، وعند إصلاحها فيما بعد، يصورها ويصور الطيارين الذين يستعدون لقيادتها، كما يتجه بالكاميرا إلى وجوه النساء التي يغطيها البرقع، ويلاحظ منصور هذا، فيعلق ساخرا بالقول “هذا الأحمق يهتم كثيرا بتصوير النساء”.
وفي أحد المشاهد يقول له أحد رجال طالبان مفسرا سبب فرض ارتداء البرقع على النساء، إن الأمر شبيه بأن تلقي قطعتين من الحلوى على الأرض، إحداهما ملفوفة والأخرى عارية، فأي منها يمكنك أن تلتقطه وتأكله، وهو تلخيص ساذج يشي بالنظرة المستقرة إلى جسد المرأة.
والطريف أنه عندما يسأله زميل له من طالبان: هل الشريعة تفرض ارتداء البرقع، يتردد ولا يجيب، وكأنه فوجئ بالسؤال.
“لقد خسرتم الحرب”.. غنائم الأمريكيين في القاعدة العسكرية
يستعرض القائد مولاي منصور داخل القاعدة العسكرية ما تركه الأمريكيون وراءهم، من معدات عسكرية هائلة تبلغ -حسب ما يرد في الفيلم- أكثر من 7 مليارات دولار، وقد أصبحت حاليا بأيدي أعدائهم، مع كثير من الأشياء الأخرى، منها أطنان من الأدوية يكتشفون انتهاء صلاحية معظمها، وأجهزة تدريبات رياضية داخل قسم مخصص للتدرب من أجل الحفاظ على اللياقة البدنية، وأرفف ممتلئة بزجاجات الخمور من جميع الأنواع يجمعونها تمهيدا للتخلص منها، وكثير من أجهزة الحاسوب المهشمة، وغير ذلك.
جميع رجال طالبان يحملون أجهزة الهواتف المحمولة، بعضهم يستخدمها في التصوير، وكلهم يستخدمونها في الإضاءة، فهي مصدر للضوء في الليل، بسبب انقطاع الكهرباء عن المدينة.
وفي أحد المشاهد يصطحب الضابط محمد مختار المخرجَ إلى مكان ما في الجبال، حيث يطلعه على الكهف الذي كان يختبئ فيه طيلة سنوات، وقد عجز الأمريكيون عن الوصول إليه بقنابلهم، ويقول إنهم كانوا يحاربون اليهود، وإنهم انتصروا عليهم، ويصيح “أيها اليهود.. لقد خسرتم الحرب”، ثم يقول في سذاجة إن طالبان يمكنها السيطرة على العالم كله، لو كان لديها من التكنولوجيا مثل ما يمتلك الأمريكيون.
تصوير الواقع.. تجري الرياح بما لا تشتهي سفن طالبان
لا يوجد تعليق صوتي على ما نشاهده، بل يحرص المخرج إبراهيم نشأت على أن يحتفظ باللقطات الطويلة التي تتابع خلالها الكاميرا المتحركة الرجال والأماكن، كما يصور لقطات أخرى عامة من زوايا مرتفعة تظهر المدينة، وترصد -ولو عن بُعد- ما وقع فيها من دمار، كما يحفظ على شريط الصوت ما يتلفظ به منصور وصحبه من شتائم وألفاظ موجهة إليه، تعكس سخريتهم واستهانتهم به، فهم يعتبرونه من مرتبة أدنى، لكونه لا يتماثل مع معتقداتهم وقناعاتهم.
إنه يصور صلاتهم الجماعية، ثم تجمعهم لتناول الطعام على الأرض، وبعض أحاديثهم واجتماعاتهم ومناقشاتهم حول الأسلحة الحديثة التي تركها الأمريكيون خلفهم، مع مغادرتهم السريعة من أفغانستان، وفي كل خطوة يخطوها المخرج بالكاميرا التي يحملها يمكننا أن نلمح آثار الحرب، وتصبح الصور التي نراها أكثر ما يعبر عن مأزق الوضع الراهن هناك، ويدفع إلى السؤال التالي: هل يمكن إدارة دولة على هذا النحو العشوائي؟
لا يترك إبراهيم نشأت نفسه فريسة بين أيدي طالبان، يصنع لهم ما يريدونه من دعاية باستخدام وسائل السينما، بل يجعل فيلمه كاشفا لجانب من حقيقة الوضع المتردي الذي يعيش فيه الناس، دون أن يحاول إخفاء انعكاسات صورته في المرايا أو الأسطح الزجاجية، ويترك لنفسه حرية المتابعة الطويلة للحدث من دون انتقالات حادة، فهو كما يقول لنا في النهاية، أراد أن ينقل لنا ما شاهده من دون أي تدخل.
ذكرى الانسحاب.. عرض عسكري في القاعدة الأمريكية
يحتفل رجال طالبان بمرور عام على خروج الأمريكيين بإقامة عرض عسكري في قاعدة “باغرام” العسكرية، ويدعون عددا من الدبلوماسيين والمسؤولين الأجانب من فرنسا وروسيا والصين وباكستان وإيران، مع مدعوين من رجالهم.
لكنهم في نفس الوقت يستبعدون من لا يحملون دعوة رسمية، ويطردونهم من الطائرة التي ستحملهم إلى تلك القاعدة بشكل فظ، وأحيانا يضربونهم ضربا مبرحا أمام الكاميرا، ويوجهون الشتائم لهم، مما يتعارض مع مزاعمهم بالتسامح والتزام ضبط النفس، وهي صورة تكشف أيضا حقيقة النظام البديل الذي جاء على الأنقاض والدمار، وكيف يتعامل حتى مع رفاقه والمؤمنين به.
وخلال العرض نرى أسرابا من الطائرات المروحية التي أصلحت وأعيدت للعمل، كما نشاهد فرقا من الجنود، وبتركيز خاص على الفرقة التي يطلقون عليها “فيلق الاستشهاديين”.
“بوابة هوليود” فيلم مصنوع بمهارة وفي ظروف شديدة الصعوبة والخطورة، ولا شك أن تصوير الفيلم كان في حد ذاته مغامرة شاقة، خرج منها المخرج بالمادة التي يشاهدها العالم، ليدرك بنفسه طبيعة ما يحدث في أفغانستان، بعد كل ما وقع طوال أكثر من 20 عاما.