“كذب أبيض”.. صورة شخصية تُحيي حكاية عائلية وذاكرة وطن منسية
ينفرد فيلم “كذب أبيض” للمخرجة المغربية أسماء المدير بخصائص عدة تميّزه عن أفلام معاصريها من المخرجين المغاربة والعرب على حد سواء، فهو ينتمي إلى “سينما المؤلف”، إذ تشارك أسماء في كتابة السيناريو والتمثيل والمونتاج والإخراج، وتفرض هيمنتها على مدار مدة الفيلم (75 دقيقة)، لتعيدنا إلى سنوات الجمر والرصاص في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي من دون ضجيج، ومبالغات مُفتعَلة وشعارات صارخة.
ومع أن شكل الفيلم ومضمونه ليس جديدا، وهو يُذكِّرنا بفيلم “الصورة المفقودة” (The Missing Picture) للمخرج الكمبودي “ريثي بان” (2013)، وهو يرصد الفظائع التي ارتكبها الخمير الحمر في كمبوديا بين عامي (1975–1979)، مُستعينا بالرسوم المتحركة واللقطات الأرشيفية وتماثيل الديوراما (المجسّمات الثلاثية الأبعاد)، ويبحث المخرج عن طفولته المتوارية كما فعلت أسماء المدير التي كانت تتحرّق شوقا لرؤية صورة شخصية واحدة لها، قبل أن تبلغ 12 سنة.
عناق الثنائيات.. حكاية يتداخل فيها الحاضر والماضي
تتعانق الثنائيات في هذا الفيلم، فتنتقل المخرجة في تقنيتها السردية والبصرية بسلاسة من الذاتي إلى الموضوعي، ومن الحاضر إلى الماضي، ومن الوثائقي إلى الروائي، وهي تمزج بحرَفية عالية بين الحقيقة والخيال، الأمر الذي أفضى إلى صعوبة تصنيف هذا الفيلم أو إدراجه ضمن نمط معيّن، فهو يأخذ من الواقع كثيرا، لكنها تُطّعمه بشذرات من الخيال الجامح تقرّبه من النَفَس السُريالي المشبّع بمحمولات تعبيرية وتجريدية في آن معا.
ومع ذلك فهو يجمع بين السيرة الذاتية والتاريخ والفن التشكيلي بشكل عام، ولا سيما التماثيل والدُمى والمجسمّات، إضافة إلى تلاقح التقنيتين الوثائقية والروائية اللتين تُتيحان للساردة والمخرجة أن تبسط نفوذها، وتوجّه مسار الأحداث على مدار الفيلم بين ثلاثة أجيال، وثلاثة أنماط من الناس، وهم الأحفاد والآباء والأجداد.
تمثل المخرجة أسماء المدير الجيل الأحدث، في حين يمثل الجيل الثاني الوالدان محمد المدير ووردة زرقاني وأصدقاؤهما، ولا سيما عبد الله الزويد وسعيد مسرور، وأما الجيل الثالث فتمثِّله شخصية الجدة المُستبدة زهرة، وهي تلعب دورا مهما في هذا الفيلم الذي يعيد بناء الذاكرة، ويصوغ الأحداث الماضية بطريقة جديدة تتناسب مع روح العصر.
كما تقسّم المخرجةُ البيت إلى ثلاثة أمكنة، فتسكن الجدة زهرة في الطابق الأول لضرورات أمنية وتجسسية، فهي أشبه بضابط الجمارك الذي يجب أن يرى ويفحص كل شيء ولا تفوته شاردة أو واردة. أمّا العائلة المؤلفة من الأبوين والبنت أسماء فهم يسكنون في الوسط، وأما عمّها جمال الملقب بالألحى فيسكن في الطابق الأعلى، وهو يمثل السلطة الدينية التي تفرض حضورها في المنزل، إضافة إلى سلطة الجدة وهيبتها وجبروتها الذي يطغى على الجميع، مع المعارضة الضمنية للحفيدة التي تتحملها على مضض.
لا يجد المتلقي صعوبة في تصديق فكرة الفيلم حينما تأتي الحفيدة إلى الدار البيضاء لتنقل أسرتها إلى بيت جديد، ثم تتوالى وقائع وأحداث يتداخل فيها التاريخ الشخصي بالوطني، وهي تبحث عن الحقيقة والهوية والانتماء، كما تبحث عن مبرر منطقي للشروع بالأحداث وهي تتنقل بين الذات والموضوع، والداخل والخارج، بلغة عفوية سلسة لا تتعالى على المتلقي البسيط، ولا تُقلل من أهميته الاجتماعية.
صورة الطفولة.. كذبة صغيرة مغفورة في ليلة القدر
تسعى المخرجة في هذا الفيلم لأن تتناول عدد من المواضيع المهمة، منها الدين والسياسة والذاكرة الفردية والجماعية والسجن والقمع والتعذيب والتصفيات الجسدية وما إلى ذلك. لكنها تخفف وطأة الفيلم حينما تنتقل إلى الحديث عن كرة القدم، والأغاني الفرنسية، وموسيقى ناس الغيوان، واحتفال الجدة بعيد ميلادها الذي رقصت فيه وتمايلت مثل عود البان، ولم تضعه في دائرة الحظر أو التحريم.
يبدأ الفيلم بداية موفقة حينما تتحدث الحفيدة عن ليلة القدر التي أُنزل فيها القرآن الكريم على سيدنا محمد ﷺ، وهي الليلة التي يمحو فيها الله سبحانه وتعالى كل الذنوب، أما الساردة فقد محت في تلك الليلة كذبة أمها، فثمة أكاذيب صغيرة نستخف بها ولا نُعيرها شأنا، لكنها تترك أثرا كبيرا على نفسية الطفل.
تماما كما حدث لأسماء التي تشكو من أنها ليست لديها صورة شخصية قبل عامها الثاني عشر، لكن أمها كذبت عليها كذبة صغيرة، وأوهمتها بأنها هي الفتاة الصغيرة الجالسة على كرسي في نهاية مجموعة من الأطفال، وليس هناك ما يُثبت صحة هذا الكلام، فالملامح مُضببة، حتى أنّ أسماء نفسها كانت تشكّك في هذا الادعاء، وسوف تكتشف لاحقا أنّ جدتها المتسلطة قد منعت الصور، وحظرت التصوير في منزلها، لأنه حرام وخطيئة كبرى من وجهة نظرها المتزمتة.
صورة الأستديو.. توثيق لزمن جميل لا يغادر الذاكرة
تلوّن أسماء شفتيها بالعلكة الحمراء، وتتسلل من منزلها لكي تذهب إلى أستوديو “هاواي”، وتلتقط أول صورة في حياتها، وتوثِّق ملامحها في ذلك الزمن الجميل الذي لن يغادر ذاكرتها أبدا.
تستدعي المخرجة جانبا مهما من التراث المغربي، ففي قائمة الأستوديو يمكن للصبيات أن يصورن في هيئة عرائس يجلسن على “العمارية”، وهي هودج منمّق بالذهب والفضة، ويصور الصبيان وهم يمتطون الخيول، أمّا أولئك الناس الذين لا يستطيعون التصوير على الهودج أو الجياد، فلهم خيارات أخرى للخلفية التي يصورون أمامها.
وهنا تستعيد الراوية ذكرى صورتها الأولى في أستوديو “هاواي” حينما وصلت مغطاة بالعرق، ومُلفعة بثوب أكبر من حجمها، وكانت قد سرقته من أختها، ووضعت ثلاث نقاط من معجون الأسنان على جبينها لتقلّد الهنود، وتُدخل البهجة إلى قلبها، لأنها التقطت أول صورة في حياتها.
محمد المدير.. والد مُحب لكرة القدم وبنّاء ماهر
لا يخلو الفيلم من نَفَس فكاهي، فأسماء تسأل والدتها عن مكان اللقاء الأول مع أبيها، فتخبرها بأنها التقت به صدفة في المقبرة، وقد تحدثت معه أول مرة وأحبته من أول نظرة، لكن هذا الحُب لم يستمر طويلا، لأنّ كل شيء قد تغيّر، ومع ذلك فهي تضحك وتقول إنها ما تزال تحبّه قليلا.
كان الأب محمد المدير بنّاء ماهرا، فقرر إعادة تشييد الحارة كلها، لكي يحرر الذكريات ويكشف الأسرار، كما كان محبا لكرة القدم، فقرر أن يبني الملعب المحلي لكرة القدم ويلعب فيه مع أصدقائه سنينا طوالا، وحَلُم أن يكون لاعبا مُحترفا، فتحقق هذا الحلم وأصبح أفضل حارس مرمى، حتى أنّ المشجعين كانوا يلقبونه بـ “لوري الأسد” لأنه كان لديه أسدا من حجر.
لقد انتهى من صنع المجسم الهندسي للحارة، ولم يبقَ لديه سوى كتابة رقم البيت والتأكد من الأضواء، وانتظار الأصباغ لكي تجف، لقد صنع الوالد مجسما لبيوت الحارة كلها، بما في ذلك أستوديو “هاواي” الذي تحتوي واجهته على صور كثيرة.
إن كل شخص بلا صورة هو إنسان بلا ذكريات، لكن الصور محرّمة عند الجدة، ما عدا صورة الملك الحسن الثاني، وهي الصورة الوحيدة الموجودة في المنزل والمفضّلة لدى الجدة، وتقبّلها كلما وقع نظرها عليها.
منحوتة الجدة.. صورة مشوهة ولوحة زجاجية تهشمها العصا
كانت هذه الجدة تجلس كل يوم أمام الباب، لتراقب الجميع ما عدا العم جمال، ولم تصعد إلى السطح قط منذ 13 سنة، وكانت الحفيدة هي الإنسانة الوحيدة التي تتجاذب معها أطراف الحديث، وتُخبرها بما تُحب أن تسمعه فقط، لكي تتفادى توليد أي مشكلة جانبية معها، وحين مات العم جمال كانت الجدة تقول إنها تُركت لكي تعيش مع الخونة، فتخلت عن مهمتها المنزلية تقريبا، وبدأت تتلصص على الجيران.
يصنع الأب محمد الدُمى للجميع، وقد حرص على نحت دُمية والدته زهرة على أكمل وجه، لكنها لم تقتنع بالملامح التي توصل إليها، وكانت الدمية -من وجهة نظرها- مشوّهة ومعوّجة، مع أن الشبه واضح جدا بين الأصل والصورة.
تعترض الجدة على المنحوتة المشوّهة أكثر من مرة، فتقرر الحفيدة أن تستدعي رسّاما ماهرا ليرسم لها بورتريها جميلا على الزجاج، وحينما ينتهي من وضع اللمسات الأخيرة عليه، تطرده شر طردة، وتهشّم اللوحة الزجاجية بعكازتها الصقيلة.
عبد الله الزويد.. وثيقة حية تروي مرارة أيام انتفاضة الخبز
الرجل الوحيد الذي تعرّف على صورة أسماء هو عبد الله الزويد، مع أنه لا يرى إلا بعين واحدة، أما الآخرون فقد عجزوا عن معرفتها وتشخيص ملامحها الباهتة.
يروي عبد الله الزويد تجربته المريرة في 20 يونيو/ حزيران 1981، هذا التاريخ المحفور في الذاكرة الجمعية للمغاربة، ولا سيما أفراد الطبقة الفقيرة الذين خرجوا في تظاهرة ضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وخاصة الخبز، فقُتل 600 مواطن مغربي بينهم أطفال ونساء، وجُرح الآلاف.
ومع أن أرقام السلطة تتضارب مع أرقام المعارضة، فإن عدد القتلى والجرحى كان كبيرا، وقد دفنتهم الأجهزة الأمنية في مقبرة جماعية في نفس الملعب الذي كان يلعب فيه والد أسماء كرة القدم مع أصحابه.
ليست لدى المخرجة صور من “ثورة الخبز”، وقد رأتها مصادفة على شاشة القناة الثانية سنة 2016، فقررت متابعة التاريخ الشفهي بوصفة وثيقة حيّة يمكن الاعتماد عليها، فأخذت تسأل أفراد أسرتها وأصدقاءهم عن ذلك التاريخ.
وبسبب وجود صديق العائلة عبد الله الزويد في البيت، فقد تركتهُ يبوح بكل ما يدور في ذهنه من ذكريات أليمة، وما يعتمل في صدره من هموم، فقد كان يتغدى مع عائلته، فسمع ضربا قويا على الباب، وفجأة رأى أمامه عددا من الجنود مُدججين بالعصيّ، فجرّوه من بين أمه وزوجته الحامل في شهرها الثامن، ثم انهالوا عليه ضربا بالعصي على رأسه وجسمه.
شعر عبد الله بالألم لكنه قاومهم، فأدخلوه إلى بناية فيها صف من الجنود يحملون الهراوات ويرتدون أحذية ثقالا، وكانوا يضربونه بشكل عشوائي كلما مرّ من أمام أحدهم، ثم أدخلوه إلى زنزانة صغيرة الحجم مبنية بالحجر والإسمنت، لا تتجاوز مساحتها 12 مترا مربعا، فحشروهم فيها بقوة، وألقوا عليهم باللائمة، لأنهم يثيرون المشاكل في البلاد.
شعر عبد الله بعد عشر دقائق بضيق النفس والاختناق، وبدأ بالاستغاثة لكن ما من مجيب. امتلأت الزنزانة بالضباب بسبب الحرارة والعرق، وأصبحت مظلمة جدا، ولم يعد يسمع سوى صرخات الجنود، ووقع الأحذية الثقيلة على الأرض، ثم فتح الجنود الباب، لأن البعض قد أُغمي عليهم، والبعض الآخر قد مات، فخرج عبد الله إلى الساحة وانهار أمام الباب، مثل الدمية التي نحتها والد أسماء ووضعها أمام باب السجن.
التصالح مع التاريخ.. جيل جديد لا يخجل من ماضيه
لا تتخذ المخرجة موقفا من أحد، لكنها تستمع إلى الحقائق التي لم تكن تعرفها من قبل، وهي تريد القول إن الجيل الجديد لا يخجل من ماضيه، حتى وإن كان هذا الماضي قاسيا، فالإنسان المغربي المعاصر لا بد أن يتصالح مع هذا الماضي ويوثقه، لكي لا يتكرر من جديد.
وهذا ما فعلته أسماء المدير في فيلمها الذي يحمل عنوانين، وهما “كذب أبيض” أو “أم الأكاذيب” (The Mother of All Lies)، ومع كل ما تعرض له سجناء انتفاضة الخبز من قساوة السجن وفظاظة التعذيب، فإن المخرجة لم تقع في خانة التهويل وإدانة النظام السابق.
والدليل على ذلك أن الجدة المتسلطة المتزمتة لا تزال تحتفظ بصورة الملك وتقبّلها بين آونة وأخرى، وكأنها تصالحت مع الماضي، وأن “هيئة الإنصاف والمصالحة” قد أغلقت هذا الملف، ولن تضطر لإعادة فتحه من جديد.
“لم يعد لدينا ملعب نتدرب فيه”
تتواصل سلاسة الأحداث في هذا الفيلم، فيستمر الوالد في الحديث عن هوايته المفضلة لكرة القدم، واستذكار بعض اللاعبين المهرة، مثل “ميغيل” الذي كان يراوغ ويسدد من مسافة بعيدة ويصنع الأهداف.
ويدّعي الأب بأنه كان يصدّ مثل هذه الضربات القوية، فلا غرابة أن يصنع التاريخ مثلما صنعه بعض اللاعبين الكبار، ومع ذلك فقد توقف عن هذه الهواية، ولم يعد يمارس لعبة كرة القدم مع أنه يحبها جدا، وحينما تسأله ابنته عن السبب يقول “لم يعد لدينا ملعب نتدرب فيه”.
ثم يخبرها بحكاية جديدة صادمة لا تختلف عن حكاية عبد الله الزويد، فترويها لنا بطريقتها الخاصة، وتقول إنّ والدها قد تخلى عن لعبة كرة القدم، وصار بنّاء يشيّد البيوت في الدار البيضاء، ففي أحد أيام التمرين وصل إلى الملعب، فوجد حفرة كبيرة في منتصفه مسوّرة بجدار عال، وأدركت في ذلك النهار أنّ حلم أبيها في أن يصبح أفضل حارس مرمى قد انتهى تماما، وأن الملعب المفضل لديه قد تحوّل إلى شيء آخر تماما.
ما تطالب به “هيئة الإنصاف والمصالحة” قد تحقق، ففي إحدى ليالي السبت من عام 2005 جلبوا أضواء كشّافة وجرّافات ليبحثوا في أرض الملعب، فأخرجوا العشرات من الجثامين، ودفنوها على الطريقة الإسلامية الملائمة التي تحترم جثة الميت، وتدفنها وفق العادات والتقاليد الاجتماعية المتعارف عليها.
وهنا تبرز حكاية الشهيدة فاطمة، ومع أن المخرجة لم تلتقِ بها قط، فهي تشعر بأنها صديقة قديمة لها، وكانت ترى نفسها فيها لأنها (أي الساردة) حين كانت ابنة 12 عاما كانت جسدا بلا ذاكرة، أما فاطمة فقد أصبحت ذاكرة بلا جسد.
فاطمة.. رصاصتان تصرعان أول ضحية في الحي
تسأل أسماء أمها عمّا حدث في ذلك اليوم، فتروي لها ما تعرفه عن “سنوات الرصاص”، حينما ارتفع سعر الخبز، فتململ الناس ودعت الاتحادات إلى الإضراب، فنزل الآلاف إلى شوارع الدار البيضاء، لكن المظاهرات قُمعت بالقوة، واستعملت الشرطة الذخيرة الحيّة وسقط المئات من القتلى، وكان بينهم عدد من الأطفال، وقد خُبئت الأجساد قريبا عن بيتهم، وكانت الضحية الأولى في الحي هي فاطمة، فقد أُصيبت بطلقتين في عنقها، وقد منعوا الناس من جمع جثث المشاركين في الإضراب.
وحين عادت سيارات الشرطة مسحت كل الذكريات والصور، والشيء الوحيد الذي لا يزال يربطهم بهذا المكان أنّ كل واحد منهم لديه قصة مع صورة من الصور، وهذه هي الصورة الوحيدة لذلك اليوم. كان الوقت صيفا بحسب ما تتذكر الأم، فجاء ساعي البريد يحمل تقرير فاطمة المدرسي التي نجحت في الامتحان، لكن روحها صعدت إلى السماء.
لم تعد فاطمة موجودة في ذلك المكان، ولا يهم إن اختفت الأجساد، لأنه إذا فقدت الصور، فإن الذكريات حيّة ويمكنها أن توثق للأحداث.
“عاش الملك”.. هتاف للملك في عيد الميلاد وصمت عن التاريخ
تسأل أسماء جدتها، لكنها لا تريد الكلام عن هذا الإضراب، فقد أغلقت الأبواب بحجة حماية أبنائها، لقد كانت في دارها ولم تغادرها، فلا غرابة ألا ترى شيئا، حتى أنها قامت بحركة من يدها مرّرتها على فمها، وهي إشارة واضحة إلى أنها لزمت الصمت المطبق، ولم تفتح فمها على الإطلاق. أغلقت النوافذ وسحبت الستائر، ثم ذهبت تعد العجين ولم تنبس بحرف واحد.
تحتفل الجدة بعيد ميلادها، وترقص على إيقاع موسيقى محلية، ولم تُرضِ فضول حفيدتها التي سألتها عن عمرها، وكان الردّ “أنا عايشة ولم أحسب عمري أبدا”. وختمت حفلة عيد ميلادها بجملة “عاش الملك”.
عندما جلبت أسماء عائلتها إلى البيت الجديد كانت تظن أن الجدران الجديدة ستغيّرهم وترمم ذاكرتهم، وتحرر الكلمات التي قُمعت سنوات طوالا، وكانت تأمل أن تراهم متصالحين فرحين يضحكون ويستمتعون بالحياة، لكن جدتها خبيرة في إفساد الأفراح وقتلها.
ليس لوالدة أسماء أي صور، لأن والدتها قد أحرقت كل الصور، وألقتها في صندوق النفايات، كما أنها لم تلتقط حتى صور الزواج، فتنخرط في البكاء، لكن ابنتها تطلب منها أن تنسى الماضي أو تمحوه تماما.
“من يقول إن العصيدة باردة فليضع يده فيها”
تطلب أسماء من أمها أن تغني معها أغنية البحّار الشاب الذي يعود من وحدته العسكرية المشاركة في الحرب ليرى حبيبته “آديل”، وحين يتقدم لطلب يدها يخبره والدها بأنها بعيدة من هنا، وأنها راقدة تحت التراب، وقد تسامت روحها إلى السماء.
تصطحب أسماء أمها بعد أن أغلقت عينيها بقطعة قماش، لكي تريها المنزل الجديد، وحين تزيح الغِمامة تخبرها بأنّ الجدران لم يعد لديها آذان كما في السابق. تشعر الساردة بصعوبة في مغادرة هذا المكان الذي أصبح جزءا منها، فلا غرابة أن تسأل نفسها قائلة: هل سأشعر بحاجة لأن أعود عندما أكون في عمر أمي، أو هل سأكون خائفة لأرجع عندما أكون في عمر جدتي؟
لقد فكرت بمصير هذا المكان كثيرا، لكنه أصبح ذاكرة يعيشون معها كل يوم، وأصبح حلما عاديا يحلمون به كل ليلة، أما هي فقد قررت أن تهدم هذا الحلم، وعند ذاك لن تكون للحيطان آذان. لم تصعد الجدة إلى السطح منذ 14 سنة عندما رأت الشمس تغرب، وطالما أنهم غادروا جميعا، فإنها شعرت بأن الشمس قد غربت عليها.
تأكدت المخرجة في خاتمة المطاف بأن أفضل طريقة لفهم ما حدث هو أن تحفر عميقا داخل نفسها، وطلبت منهم ألا يخبروا جدتها بأنها مخرجة، وأن من يقول إن العصيدة باردة فعليه أن يضع يده فيها.
أسماء المدير.. صائدة الجوائز من المهرجانات الكبرى
جدير بالذكر أنّ أسماء المدير من مواليد مدينة سلا 1990، وهي مخرجة سينمائية وكاتبة سيناريو ومنتجة مغربية.
حصلت أسماء على درجة الماجستير في السينما الوثائقية من جامعة عبد المالك السعدي في تطوان، ودرجة الماجستير في الإنتاج من المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط. كما درست في المدرسة الوطنية لمهن الصورة والصوت في باريس، وتخرّجت في عام 2010 من الأكاديمية المغربية للسينما في قسم الإخراج السينمائي.
أنجزت أسماء حتى الآن 8 أفلام من بينها:
الرصاصة الأخيرة. ألوان الصمت. جمعة مباركة. الحرب المنسية. في زاوية أمي.
وقد فاز فيلم “كذب أبيض” بعدد من الجوائز، منها جائزة أفضل مخرجة في الدورة الـ76 لمهرجان “كان” السينمائي، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان سيدني، كما رُشح لجائزة الأوسكار سنة 2024. والفيلم هو إنتاج مشترك بين المغرب ومصر وقطر والمملكة العربية السعودية.