“يوميات حرب العصابات”.. كفاح امرأة هولندية في منظمة يسارية بغابات كولومبيا
ماذا تفعل فتاة هولندية آتية من قرية صغيرة بالشمال الهولندي مع تنظيم “فارك” (FARC) الكولومبي الماركسي اليساري الشديد القسوة، وكيف تحولت هذه الفتاة العادية لوجه لهذا التنظيم، حتى أنها كانت من ضمن الفريق الذي قاد مفاوضات السلام بين التنظيم والحكومية الكولومبية؟
يشغل الجواب على هذا السؤال وغيره من الأسئلة الفيلم الوثائقي “تانيا.. يوميات حرب العصابات” (Tanja – Dagboek van een guerrillera)، وهو يستعيد سيرة فتاة أوروبية عادية أصبحت لغزا وأيقونة في بلدها وأيضا في كولومبيا، البلد الذي اختارته لحياتها.
“هل تعلمين أن هناك حربا أهلية في كولومبيا؟”، هذا السؤال سأله موظف السفارة الكولومبية في هولندا للفتاة الهولندية “تانيا نايماير” التي جاءت تطلب تأشيرة للبلد في عام 2001، لكن الحرب الدائرة هناك لم تكن تشغلها أو تقلقها، وإنما كانت تريد أن تجد معنى لحياتها بعيدا عن قريتها الهولندية. وستعثر على هذا المعنى في البلد الأمريكي الجنوبي الأخاذ، الذي يخفي تحت طبقة الجمال عنفا وقساوة لا مثيل لهما.
تروي “تانيا نايماير” حكايتها في الوثائقي بنفسها، فتستعيد عامها الأول في كولومبيا، فقد وصلت إلى البلد لتعلم اللغة الإنجليزية في منطقة الغابات الواسعة، لكنها ستغرق سريعا في مشاكل البلد. وتصف مشاعرها الأولى ويقظتها لما يحصل حولها بقولها: أحسستُ سريعا بغياب العدالة، والفروق بين الطبقات.
فتاة التنظيم المحظور.. هولندية تبحث عن معنى الحياة
كان قرارا واعيا انضمام المرأة الهولندية لمنظمة “فارك”، لكنه حدث على مراحل وعلى نحو غير مخطط، كما تسرد هي نفسها للفيلم، ذلك أنها تقربت سريعا من هموم الناس العاديين ولمست عن قرب غياب العدالة في البلد، وهو ما دفعها تلقائيا بصف المظلومين، وما حدث بعد ذلك أنها ستحظو بمكانة مهمة في التنظيم، إذ سيُقدر –ويستغل أحيانا– وجود هذه المرأة الأوروبية في صفوفهم.
تدفع الأحداث العنيفة -ومنها تفجيرات قوية كانت المنظمة وراءها- إلى إعلان الحرب الشاملة ضد التنظيم الماركسي، مما يقود إلى دفعه للغابات الواسعة في البلد، لتصبح ملاذا آمنا للتنظيم، بعيدا عن هجمات الطيران والجيش الكولومبي.
تظهر مشاهد أرشيفية “تانيا” وهي في صفوف التنظيم، منخرطة تماما في العمل الثوري، وتصف الأجواء بين أعضاء التنظيم قائلة “أصبحنا عائلة واحدة”، وقد كانوا يعيشون ظروف حياة صعبة في الغابات، ومع ذلك فإن الابتسامة لم تفارق وجهها، فقد وجدت العائلة التي تحتويها، ووجدت أيضا الحب، منذ ارتبطت بعلاقة مع شاب من التنظيم.
كشف قادة التنظيم الفاسدين.. نهاية شهر العسل
تبدأ “تانيا” بكتابة رسائل إلى صديقتها من أيام الجامعة الهولندية، لكنها لم تبعث هذه الرسائل، فقد كان صعبا للغاية التواصل مع العالم الخارجي من مكانها في الغابات، ومع ذلك فإنها تواصل الكتابة لنفسها، وتوثق كل شيء في مذكرات سوف تحظى باهتمام عالمي كبير بعد سنوات.
ينقل الوثائقي أجزاء من المذكرات بصوت “تانيا” نفسها، وتكشف تلك المذكرات أن شهر العسل بينها وبين التنظيم انتهى سريعا، بسبب ظروف العيش الصعبة، واطلاعها على فساد قادة التنظيم وتورطهم في تجارة المخدرات، وتنافسهم على نساء التنظيم الجميلات، هذا كله سيظلّل علاقتها بالتنظيم بالشكوك، لكنه لن يعني نهاية هذه العلاقة.
يعرّف الفيلم بصحفية كولومبية سيكون لها دور مهم في مسارات حياة المرأة الهولندية، فقد جاءت مع القوة التي اقتحمت المخيم الذي كانت تعيش فيه “تانيا”، فاكتشفت مذكراتها التي تركتها في خيمتها قبل هربها، لكنها ستحتاج بعض الوقت حتى تعرف طبيعة اللغة التي كتبت هذه اليوميات، وستحتاج وقتا آخر حتى تترجمها وتدخل في عالمها.
نواقص الحركة.. جوانب من مذكرات تثير ضجة في البلدين
تثير المذكرات فضول الصحفية الكولومبية، ولا سيما أنها كانت فيما مضى ضحية لمنظمة “فارك”، فقد اعتُقلت وحبست واغتصب، وهي الحادثة التي حددت مصيرها، فاختارت بعد ذلك أن تتجه إلى الصحافة. وقد بحثت في يوميات المرأة الهولندية، فلفت انتباهها الضيق الذي كانت تعيش فيه، ووصفها إياه بحساسية شديدة.
تعاطفت الصحافية الكولومبية مع ما بدا محنة لامرأة أوروبية لم تكن تعرف عمق الحفرة الذي سقطت فيها، لكنها تنتقي مقاطع خاصة من تلك اليوميات، لتركز الانتباه على جانب واحد يُبين نواقص في الحركة المعارضة، وتهمل الجوانب الأخرى من تجارب المناضلة الهولندية.
يعود الفيلم مرارا لتلك المذكرات، مرة من باب ما أثارته من ضجة في كولومبيا وهولندا على حد سواء، فيستعيد تغطيات إخبارية من كلا البلدين، ولا سيما هولندا التي أثارت فيها قصتها اهتماما كبيرا من لدن الصحافة، وتصدرت قصتها نشرات الأخبار وافتتاحيات الصحف التي كانت مصدومة جدا من الحياة المتطرفة التي اختارتها فتاة هولندية، كانت حتى تركها هولندا في عام 2001 تعيش حياة عادية تماما.
مناشدات الأم.. رحلة إلى كولومبيا بعد اختفاء غامض
يصل الفيلم في ربعه الأخير إلى الاختفاء الغامض للمرأة الهولندية مدة 3 أعوام، فقد اختفت تماما بعد الهجوم الحكومي على معسكرها ونشر المذكرات، وحتى الاتصالات النادرة مع عائلتها وصديقتها الأثيرة في هولندا انقطعت بالكامل.
لم يكشف الفيلم أسباب هذا الانقطاع، لكنه لمّح إلى أنها ربما مُنعت من التواصل من العالم الخارجي، بعد أن أصبحت رمزا لحركة “فارك” إثر انتشار كتاب يومياتها.
يركز الوثائقي في هذا الجانب على الآثار النفسية التي تركها اختفاؤها على أمّها، فينقل في مشاهد أرشيفية مناشدات عاطفية جدا لأمها بالإعلام الهولندي، من أجل عودة ابنتها، كما ينقل مشاهد من الرحلة التي أخذتها الأم إلى كولومبيا، وسفرها إلى الغابات التي كان يتخذها التنظيم مقرا لها، ودعوتها من هناك عن طريق موجات الراديو لعودة الابنة. لكن كل تلك المحاولات لم تثمر عن نتيجة.
لقاء الأيقونة.. ابتسامة واثقة في أعماق الغابات
تواصل الهوس الإعلامي العالمي بالمرأة الهولندية عبر السنين، ولم يزل الأمر كذلك حتى استطاع صحفي كولومبي معروف أن يحصل على موافقة تنظيم “فارك” لمقابلتها، وقد وثّق رحلته الشاقة الطويلة في غابات لا يبدو لها أول ولا آخر، للوصول إلى معسكر التنظيم. وعندما حضرت “تانيا” بدت مثلما كانت قبل أعوام، ذات ابتسامة واثقة كبيرة تغطي وجهها.
نفت “تانيا” الرواية التي تقول إنها محتجزة عند التنظيم، وأكدت أن المُثل التي دعتها للبقاء في التنظيم ما زالت حاضرة في روحها، وهي التي تدفعها لعيش هذه الحياة الصعبة التي اختارتها بمحض إرادتها، ثم سخّفت اليوميات التي نشرت عنها، وأكدت أن بعضها أخذ من سياقه ومن زمنه.
تظهر المشاهد الأرشيفية التي سجلها الصحفي الكولومبي آنذاك “تانيا” وهي ترقص مع رفاق النضال في حفلة جماعية، كما تُبين بعض المشاهد الأخرى العلاقة القوية بينها وبين زعيم التنظيم حينها “ألفونسو كانو”، والمكانة التي لها عند التنظيم، فقد منحته بجنسيتها الأوروبية وصلابتها اللافتة شرعية هو في أمسّ الحاجة اليها.
نجمة المفاوضات.. سياسية محنكة تخطف الأضواء في كوبا
المرة القادمة التي تظهر فيها “تانيا” في الإعلام، كانت في محادثات السلام بين الحكومة الكولومبية وتنظيم “فارك”، وقد رعتها الحكومة الكوبية في العاصمة هافانا في عام 2016، وبدت المرأة الهولندية في تلك المحادثات -التي نقلتها كاميرات من دول عدة- سياسيةً محنكة، وكانت تتصدر تلك المفاوضات.
تنقل الصحفية الكولومبية التي نشرت مذكرات “تانيا” أنها كانت في محادثات السلام في كوبا، وأنها رغبت كثيرا بمقابلة المرأة الهولندية، وعندما تسنى لها ذلك وعرّفتها بنفسها، وبأنها هي التي نشرت المذكرات في صحيفتها، رفضت “تانيا” أن تصافحها وتركتها وعادت إلى مفاوضات السلام.
انتهت مفاوضات السلام بنتائج باهرة، فطُويت صفحة النضال المسلح لمنظمة “فارك”، وعاد أعضاؤها إلى الحياة المدنية، وبذلك انتهت حرب قتلت عشرات الآلاف من الكولومبيين المسلحين والمدنيين، لكن أزمة “تانيا” لم تنتهِ بعد، فما زالت معلقة حتى اليوم.
قائمة الإرهاب.. عواقب مأساوية على مترجمة التنظيم
بدأ الفيلم الوثائقي “تانيا.. يوميات حرب العصابات” زمنه بعرض مشاهد أرشيفية مرعبة للقاء مع ثلاثة أمريكيين أسرى عند منظمة “فارك”، كانوا قد أُسروا بعد إسقاط طائرتهم الصغيرة فوق غابات كولومبيا.
وفي تلك المشاهد نسمع صوت المترجمة التي كانت تنقل اتهامات المنظمة للأمريكيين بالتجسس، في حين بدا الخوف على وجوه الأمريكيين وهم ينفون هذه التهمة. وعندما تتحرك الكاميرا في تلك المشاهد نرى وجه المرأة التي كانت تترجم، وهي الهولندية “تانيا”.
كان حضور “تانيا” في ذلك اللقاء ذا عواقب مأساوية عليها، فوُضع اسمها في قائمة الإرهابيين في سجلات الشرطة الدولية (الإنتربول)، وهو ما يمنعها إلى اليوم من العودة إلى هولندا ومقابلة أهلها، وهي تفصح عن ألمها ورغبتها بزيارة أهلها، فنراها في مشهد تتحدث إلى أمها عن طريق الهاتف، وقد بدت الشيخوخة واضحة على الأم، على عكس النشاط الذي كانت عليه في المشاهد الأرشيفية حين كانت تبحث عن ابنتها.
استغلال الفيلم.. منصة الدفاع عن سيرة شوهتها الصحافة
ينجح الفيلم في الوصول لشخصيات مهمة في حياة “تانيا”، منهم صديقتها الهولندية، أما عائلتها فقد غابت عن الفيلم، ربما بسبب ما مرت به في الماضي، فقد اضطرت أثناء ضجة نشر اليوميات قبل سنوات إلى ترك منزلها، ولجأت إلى مكان وفّرته الشرطة الهولندية، خوفا على حياتها من التهديد من جهات خارجية.
أما على صعيد ما كشفه الفيلم عن حياة “تانيا” نفسها، فقد نجح بالتقرب منها، وحاورها طويلا، بيد أنه ما زالت هناك بعض المناطق الغامضة والمعتمة من حياتها والوجهات التي أخذتها هذه الحياة.
كما حاولت “تانيا” أن تدافع عن نفسها، واتخذت الفيلم أحيانا منصة للدفاع عن سيرتها التي شوهتها التغطيات الصحفية الباحثة عن الإثارة.