“اليورو”.. كيف توحدت عملة أوروبا؟
أدرك تداول العملة الأوروبية الموحّدة اليوم ربع قرن من الزّمان، فقد وُلد اليورو عام 1999، وجاءت ولادته بعد حمل طويل متعسر تجاوزت مدته نصف القرن، تلك المدّة التي تطلبتها مسيرة التكامل الاقتصادي الأوروبي.
فقد بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تواصلت في مرحلتها الأولى حتى التاريخ الذي ذكرنا، وتتواصل إلى اليوم في شكل مراجعات تقتضيها التحديات الطارئة، ذات الصلة بتوسيع قاعدة الاتحاد أو التحولات التكنولوجية أو المناخية أو تبعات الجوائح.
ومثلت هذه المراحل المختلفة مادة ملهمة للمخرجة الإيطالية “أناليزا بيراس”، لتجعلها موضوعا لفيلمها الوثائقي “التاريخ السّري لليورو” (Secret History of the Euro) الذي أُنتج عام 2021. فلاحقت في الحلقة الأولى منه ما أشرنا إليه مجازا بمرحلة الحمل، بداية من العمليات الأولى للتقارب الأوروبي سنة 1948، إلى إنشاء هذه العملة سنة 1999. ثم جعلت موضوع الحلقة الثانية تداول اليورو بين مستخدميه، وما جلبه معه من المغانم، وما سببه أحيانا من المشاكل.
التاريخ السري لليورو.. قصة تتجاوز ذاكرة مشتعلة بالحروب
تعدّ قصة اليورو مذهلة حقا. فقد تحول بسرعة هائلة إلى العملة الاحتياطية الثانية في العالم بعد الدولار، فقد وحّد أغلب الدول الأوروبية اقتصاديا، وبات عنوانا للتكامل فيما يُسمى “منطقة اليورو”، وهي دول الاتحاد الأوروبي التي جعلته عملتها الموحدة. فمعلوم أنّ مجموع دول الاتحاد الأوروبي يبلغ 28 دولة، وأنّ عشرين منها تبنت هذه العملة، واتخذتها بديلا عن عملتها الوطنية.
وفي هذا الفيلم ترصد “أناليزا بيراس” خصائص هذه العملة ضمن عمل تحليلي اقتصادي ضخم. ولكن ليست الوقائع الكثيرة وتعقيداتها، سوى تفاصيل تختفي أمام الهدف الكبير للمشروع العملاق، وهو الحفاظ على السلام والاستقرار في أوروبا، وضمان ازدهارها الاقتصادي، وفق شراكة تضامنية توحّد المنطقة، وتحول دون قيام الحرب فيها مرّة ثانية.
وقد انتهت رحلة نصف القرن إلى وحدة فريدة على قدر من الذّكاء والابتكار، فكان اليورو تتويجا لها وعنوانا في الآن نفسه. ولكن لنفهم هذه القصّة الملهمة لا بدّ لنا من العودة إلى الوراء، لنفهم الحافز الذي جعل أوروبا تنجح في سعيها الدؤوب، وتتجاوز خلافاتها، وتقدّم التضحيات للوصول إلى هذا الهدف الكبير.
“الطريق محاطة بحقول مليئة بالمقابر”.. استفاقة على هول الكارثة
كانت خسائر أوروبا في الحربين العالميتين ثقيلة جدّا، فقد تسببت جولتها الأولى بمقتل أكثر من 8 ملايين ونصف من العسكر، وأكثر من 13 مليون مدني، وأكثر من 20 مليون جريح. أما جولتها الثانية، فتسببت بمقتل نحو 60 مليون شخص، ثلثاهم تقريبا من المدنيين.
وتعود أسبابهما غير المباشرة أو العميقة إلى النزعة الإمبريالية والتنافس الشديد بين الدّول الأوروبية على بسط نفوذها على الدّول الضعيفة، للاستيلاء على ما تحتويه من مواد أولية تحتاجها صناعتها الصاعدة، وللسيطرة على أسواقها لتصريف فائض إنتاجها الصناعي. فدخلت هذه الدول الإمبريالية في تحالفات سياسية وعسكرية، وفي سباق تسلح، حتى توترت العلاقات بينها، وكانت منطلق الحربين كلتيهما هو التنافس على السيطرة على منطقة البلقان، وانتزاعها من الخلافة العثمانية.
وبعد أن صمتت البنادق وهدأت الجبهات، استفاقت أوروبا على هول الدّمار الذي حلّ بها. فقد كانت “الطريق بين آخن وباريس محاطة بحقول مليئة بالمقابر، لا نعرف من هو ألماني ومن هو فرنسي”، على عبارة المستشار الألماني “هيلمت كول”.
وعندها اشتدت الرغبة لدى الجميع في تغيير قواعد المنافسة القوية، ورفع شعار التكامل الاقتصادي بديلا للصدام العسكري، وعلى كثرة الأزمات التي توجب على الأوروبيين أن يواجهوها، فقد كان إيمانهم بأنّ هذا التكامل يوفّر فرصة هائلة لأوروبا لضمان الرّخاء والرّفاه الاقتصادي قويّا، فكانت المسيرة مفعمة بالعواطف والدّموع والرغبة في عدم تكرار الحماقة نفسها.
“أريد اليورو لأن أخي توفي في الحرب العالمية الثانية”
اختارت المخرجة أن تستجوب السياسيين أساسا للتأريخ لهذه المسيرة، وبديهي أن يمثل الاقتصاديون العنصر الذي يحكم شهاداتهم، نظرا لتكوينهم الأكاديمي وخلفياتهم الوظيفية، ومنهم “فولفغانغ شويبله” السياسي الألماني البارز الذي تولى وزارة المالية طويلا (توفي في 27-12-2023)، و”ثيو وايغل” وزير المالية الألماني سابق، ومصمم ميثاق الاستقرار والنّمو الذي يكنّى بأبي اليورو.
وفضلا عن ذلك، كان هؤلاء السياسيون يعوّلون على معايشتهم للأحداث والوقائع، ويرفعون الستار عن الكواليس بما تتضمن من الصراعات والمناكفات والتنافس السياسي والمؤامرات الانتخابية، على خلاف عروض المؤرّخين التي تنظر غالبا إلى مجريات الأحداث من الخارج، وتقدّمها جميعا على أنها معطيات موضوعية.
تعود فكرة هذا التقارب إلى نهاية الحرب العالمية الثانية كما أسلفنا، ولكنّ السعي إلى تجسيمه بدأ منذ سنة 1948، أمّا التنفيذ الفعلي فيعود إلى تأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب في 18 أبريل/ نيسان 1951 بمشاركة ست دول أوروبية، هي فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا وإيطاليا.
وقد تطوّرت هذه المجموعة فيما بعد، حتى كانت النواة التي تنبثق منها المجموعة الاقتصادية الأوروبية في 25 مارس/ آذار 1957، فوقعت اتفاقية روما، وظلت توسع تعاونها الاقتصادي، حتى تحوّلت إلى الاتحاد الأوروبي.
لقد كانت ألمانيا الأكثر حرصا على هذا التّعاون، فقدّمت التضحيات المالية في سبيل ذلك، وحرصها يعود إلى ما عاشته من مآسي الحربين اللتين كان ساستها أبرز المتسببين فيها. فيفسر المستشار “هيلمت كول” مثلا حرصه الشخصي على تعميق التعاون، وصولا إلى اعتماد عملة مشتركة بدافع ذاتي، ولا شكّ أنه يشترك فيه مع ألمانيين كثيرين، فيقول “أريد اليورو لأن أخي توفي في الحرب العالمية الثانية”.
تحرير الاقتصاد من الهيمنة الأمريكية.. مسار صعب
من الأسباب التي وجّهت التعاون الاقتصادي الأوروبي نحو التكامل والبناء النقدي، قناعة غلبت على رجال الاقتصاد، مفادها أنّ الحرب العالمية الثّانية تعود بشكل ما إلى حالة الرّكود الاقتصادي التي أصبحت عليها أوروبا بعد الحرب الأولى، وأنّ تحويل العملات بحثا عن تجارة مزدهرة من الحلول الممكنة لتفادي الصدام بين دولها، فتكون جميع العملات قابلة للتحويل بناء على علاقتها بالدولار، ويبقى الدولار مرتبطا مباشرة بالذهب، وفق نظام “بريتون وودز” الذي تستند فيه الوحدة الاقتصادية القياسية إلى كمية ثابتة من الذهب.
ولكنّ هذا النظام أفضى لاحقا إلى أفضلية مفرطة لصالح الدولار، خوّلت للولايات المتحدة الأمريكية أن تهيمن على الاقتصاد العالمي، وأن تجعل أوروبا في تبعية لها اقتصاديا وسياسيا، وكان على أوروبا أن توحّد عملتها حتى يتسنى لها أن تواجه انخرام التوازن هذا.
فمنذ الستينيات ظهرت محاولات مختلفة لتأسيس أبنية اجتماعية تعمل على تحقيق هذه الوحدة، ولكن خطة “بيير فيرنر” رئيس وزراء لوكسمبورغ (1970) كانت الأكثر صلابة، غير أنّ تنفيذها استغرق 29 سنة كاملة، بسبب التحديات الكثيرة التي واجهتها، وكانت التقديرات تتوقع الوصول إلى هذه العملة الموحدة في عام 1980.
سقوط جدار برلين.. وحدة ألمانية كادت تفسد مشروع اليورو
شهد اقتصاد بعض الدّول الأوروبية ارتفاعا كبيرا في التضخّم خلال السنوات 1979-1990، دفعها إلى تخفيض عملاتها، وهو ما كان يربك الأسواق في ظل التنافس الشديد بين بعض المنتجات المتقاربة في القيمة. وهذا ما أكّد ضرورة توحيد العملات، لضمان سوق موحّدة فعّالة ومستقرة نقديا، وضرورة بعث بنك مركزي أوروبي مستقل يتحكم بالعملة.
وهكذا تحوّل الهمّ الأوروبي من البحث عن السلام إلى البحث عن الاستقرار الاقتصادي، وقد مثّل العام 1985 المنعطف الحاسم في تحقيق هذا الهدف، فقد عُيّن “جاك ديلور” -وهو وزير الاقتصاد الفرنسي السابق- رئيسا للجنة الأوروبية، فضبط خطّة لإكمال بناء السوق الموحد، ولكن الطريق إلى ذلك لم تكن سالكة.
فقد سقط جدار برلين عام 1989، ووضع المستشار الألماني “هيلمت كول” خطة من 10 نقاط لتوحيد ألمانيا دون التشاور مع شركائه الأوروبيين، وسريعا ما عادت إلى الأذهان صورة ألمانيا الموحدة ما قبل الحرب العالمية الثانية وما سببته من حروب ومآس.
وقد عبّر الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” ورئيسة الوزراء البريطانية “مارغريت تاتشر” عن هذا الارتباك الذي اختزلته مزحة رئيس وزراء إيطاليا “جوليو أندريوتي” حين قال إنه يحب ألمانيا إلى درجة أنه يريد أن يرى منها نسختين.
لقد كان “المارك” الألماني عملة ناجحة ومستقرة، وكان من شأن نخوة الوحدة المستعادة أن تصرف الألمان عن مشروع اليورو، لذلك لعبت فرنسا دورا محوريا في الكواليس، لفرض مقايضة تعترف أوروبا بموجبها بتوحيد ألمانيا، لكن مقابل قبول ألمانيا بالعملة الأوروبية الموحدة.
ميلاد الاتحاد.. مخاض عسير وسباق لتخطي العقبات
مثلت معاهدة “ماستريخت” خطوة كبيرة في مشروع الوحدة الأوروبية في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1991، ودخلت حيّز التنفيذ في 7 فبراير/ شباط 1992، وتقضي بتحويل المجموعة الأوروبية إلى اتحاد أوروبي ذي سياسة خارجية واقتصادية وأمنية مشتركة، وتطوير البعد الاجتماعي للجماعة الأوروبية.
لقد شُبه المشروع الأوروبي بالدراجة الهوائية، فالتوقف عن استخدام الدوّاسات يعني وقوع راكبها، لذلك تطلبت كل مرحلة اتفاقيات جديدة، تضبط الأفق وتحدّد التحديات. فقد نصّت اتفاقية أمستردام 1997 على إلزام معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتبني اليورو، عند استيفاء معايير معيّنة متعلّقة بالتوافق النقدي والميزانية، كما نصت على استقلالية البنك المركزي الأوروبي عن كل دولة.
وأنشئ بذلك معهد النقد الأوروبي، واختيرت مدينة فرانكفورت الألمانية مقرا له، وأصبح محافظو البنوك المركزية الأوروبية أوصياء على قيمة المال، فكان عليهم أن يقاوموا نزعات السياسيين لاختيار الحلول السهلة وطباعة المال، وأن يأخذوا بعين الاعتبار التحديات المختلفة للبنوك المركزية في هذه الدول، فأعلن في فاتح يونيو/ حزيران 1998 رسميا دخول هذا البنك حيز العمل.
“ضريبة أوروبا”.. تفاوت بين الشمال الغني والجنوب الفقيرة
خلال بدء المشروع النقدي، طرحت معضلة التفاوت الاقتصادي بين الشمال الغني والجنوب الفقير، واتضح أنّ بعض الدول كانت جاهزة للانخراط في هذه الوحدة النقدية أكثر من غيرها. كما اقتُرح تأجيل انخراط إيطاليا ريثما تهيئ لنفسها الظروف الملائمة، فمثّل هذا المقترح مأزقا إيطاليا حقيقيا، فدخولها إلى أوروبا باقتصاد غير مؤهل له ضريبته، وبقاؤها في الخارج له خسارته العظيمة، لذا اختارت أن تحث الخطى وأن تقوم بمجهود إصلاحي استثنائي وأن تدفع “ضريبة أوروبا”.
وهكذا، تحول الأمر إلى رهان وإلى حفاظ على كبرياء، لا سيما أنه سيُكسر حين تسبقها إسبانيا في ظل التنافس الشديد بينهما، والحال أنّها من الدول المؤسسة. واستطاعت 11 دولة أن تستجيب للشروط وتنجح في الانضمام إلى هذا الاتحاد، فضمت القائمة بلجيكا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا وأيرلندا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا والنمسا والبرتغال وفنلندا.
وهكذا بات البناء المؤسساتي والاقتصادي للاتحاد جاهزا، وأضحى الاتحاد الأوروبي كيانا مكتمل الشروط، له علَمه وحدوده المضبوطة ولغاته المعتمدة وعملته المشتركة وبنكه المركزي وبرلمانه. ولكن كلّ ذلك كان يتحقّق من خلال تجمع دول لها استقلالها الخاص في الآن نفسه، فمثّل صيغة جديدة من قيام الكيانات المجتمعية، تختلف عن الوحدة الاندماجية أو الائتلاف الفيدرالي أو التّحالف.