“الجدار”.. حارسة عنصرية تفرغ غضبها على أسوار الحدود الأمريكية
قال المخرج البلجيكي “فيليب فان ليو” (70 سنة) في إحدى مقابلاته الصحفية إنه استوحى فكرة فيلمه “الجدار” من السياج الذي أمر الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” ببنائه على الحدود الأمريكية المكسيكية، وقد فرّق من خلاله بين أفراد العائلة الواحدة، مثل عائلات السكان الأصليين المنتشرين في عدة ولايات حدودية، وهو ما خلق مأساة إنسانية لا يمكن تخيلها.
لهذا تقّرب “فيليب” من تلك العائلات المتضررة من بناء هذا الجدار العنصري، واستمع لشهاداتهم، وصاغ من خلالها فيلما روائيا طويلا حمل عنوان “الجدار” (The Wall)، وهو من إنتاج مشترك بين بلجيكا ولوكسمبورغ والدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية (2023).
وقد شارك الفيلم في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة عام 2023.
ولاية أريزونا.. مسرح التمييز العنصري بين أمريكا والمكسيك
قدّم “فيليب فان ليو” في فيلمه “الجدار” مقاربة إنسانية مهمة وملفتة، من خلال تسليطه الضوء على مفهوم التمييز العنصري، ليس بشكله المطلق، بل انطلاقا من زاوية محددة، لا سيما أن أسباب هذا السلوك البشري المرفوض كثيرة ومتعددة، لا يمكن حصرها أو تناولها بفيلم واحد محدود في الزمان والمكان، لهذا أحاط مقاربته السينمائية في اتجاه معين، ووفر لها معطيات جمالية وسياقات حتى يضمن لها تشخيصا معقولا.
ومن الملفت أن يختار هذا المخرج البلجيكي فضاء غير أوروبي ليكون مسرحا لأحداثه، وهو خيار موضوعي فرضه سياق الفيلم، وقد جرت أحداثه في صحراء ولاية أريزونا الأمريكية الواقعة على الحدود المكسيكية.
ولم يكن هذا الفيلم الوحيد الذي تناوله فيه المخرج مأساة بهذا الشكل، فقد قدّم عام 2017 فيلما روائيا طويلا بعنوان “في سوريا” (Is Syria)، وقد نقل من خلاله ما عاشته العائلات السورية من جحيم الحرب، وهو يعود اليوم مرة أخرى في فيلم إنساني آخر، يسلط من خلاله الضور على أبعاد العنصرية ومآسيها المتعددة.
“جيسيكا كوملي”.. حارسة تنتقم من مهاجر برصاصة حاقدة
يروي فيلم “الجدار” قصة الشابة “جيسيكا كوملي” (الممثلة فيكي كريس)، وهي تعمل حارسة في قوات حرس الحدود الأمريكية، تقضي يومها في التنقل من فضاء إلى آخر، علّها تجد مهاجرا غير شرعي، تقبض عليه وتسلمه للسلطات المختصة.
لكن “جيسيكا” لم تكن مثل غيرها من الحراس، فقد كان الغضب يملأ قلبها من كل جهة، لهذا أصبحت عدوانية بشكل كبير، سواء مع زملائها في العمل، أو أثناء مطاردتها للمهاجرين، حتى في غير أوقات عملها.
كما أنها متعالية في تعاملها مع الهنود الحمر، ممن يسكنون المنطقة منذ أجيال خلت، إذ ترى كل واحد منهم مشتبها به في تهريب المهاجرين والمخدرات عبر الحدود، وقد وصل بها الأمر أن أطلقت النار على أحد المهاجرين المكسيكيين المصابين فأردته قتيلا، مع أنه لم يكن مسلحا، ولم يشكل أي خطر عليها وعلى زميلها.
من هنا تفتح الجهات المختصة تحقيقا لمعرفة أسباب الموت الحقيقية، وهل كانت هناك ضرورة لهذا، أم أن الأمر كان انتقاميا، وحينها تأخذ الأحداث منحى دراميا آخر، تنكشف فيه عدة حقائق معلومة ومجهولة.
ذات الملامح القاسية.. ابنة صدامية ترث صفات أبيها
اعتمد المخرج وكاتب السيناريو “فيليب فان ليو” في فيلم “الجدار” على عملية الإحاطة ونحت شخصية “جيسيكا كوملي”، وقد انعكس هذا في رسم أبعادها النفسية والجسدية، مع تأثيث خلفياتها المجتمعة والأسرية، وهو المعطى الذي فسّر شخصيتها أو ساعد على ذلك.
تظهر “جيسيكا” في الفيلم غير اجتماعية وصدامية، غاضبة ذات ملامح قاسية، لديها مشاكل كثيرة مع أمها “كوني” (الممثلة هاريس كندال) وصلت بها حد الهجران، وفي الوقت نفسه لديها علاقة قوية مع والدها العنصري “آدم” (الممثل ستيف أندرسون).
يملك الوالد “آدم” شبه مؤسسة أو جمعية سرية، ينظم من خلالها فرق مطاردة بالأسلحة النارية للمهاجرين السريين، فيلاحقهم ويقتلهم بطريقة وحشية خارج نطاق القانون، وهي تعرف جيدا ما يقترفه أبوها، لكنها تحبه ومتعلقة به.
ولديها علاقة مقربة جدا مع أختها “سال كوملي” (الممثلة مارلا روبينسون)، وهي تحتضر بسبب مرض عضال أصابها، وكل تلك المعطيات تساهم بشكل كبير في خلق شخصية “جيسيكا” الغاضبة والعنصرية والعنيفة، لهذا باتت تكره الآخر وتحتقره، وتنظر له دائما بريبة وقلق واضح.
“كما تدين تدان”.. سلوك عنصري ظالم ومأساة عائلية
ينعكس سلوك “جيسيكا” العنصري العنيف في ما حدث مع “مايك ويلسون”، وهو أحد السكان الأصليين، فقد أوقفته وحاولت تلفيق تهمة له بأنه هو من يهرّب المهاجرين، كما أخذت خنجره ودسته في يد المهاجر الذي أطلقت عليه الرصاص، حتى توحي بأنه كان مسلحا، وذلك بالتعاون مع زميلها “بريت كوالسكي” (الممثل هايدن وينستون)، لكن المحققين ومن بينهم “الشريف” (الممثل برنداي غاي ميرفي) أطلقوا سراحه، لأنهم عرفوا أنه رجل طيب ومحب للبيئة والفعل الإنساني.
وكان من بين الجمل الملفتة للنظر جملة قالها هذا العجوز أثناء التحقيق معه، بعد أن سأله المحقق عن السبب الذي جعله يدخل المكسيك بعيدا عن نقاط الحدود الرسمية القريبة، فرد عليه بأنه ذهب من أجل زيارة أخيه لإعطائه الدواء، كما أنه لا يعترف بالحدود التي وضعها البيض، بمعنى أن الحدود غير موجودة بالنسبة له، ويتعامل معها على ذلك الأساس.
وعندما خرج من مقر الشرطة مرت عليه “جيسيكا” وحملته بالسيارة مع حفيده، وحاولت في الطريق استفزازه، لكنها لم تستطع، لأنه رجل مُشبع بحكمة أجداده، ولا يريد أن يعطيها ما تريده. وبعد أن تقدمت أمتارا قليلة بسيارتها وصلتها مكالمة هاتفية تفيد بموت أختها، وكأن المخرج يحاول ربط تصرفها بمبدأ “كما تدين تدان”، من خلال قتلها غير المبرر للمهاجر، وتعاملها غير الأخلاقي مع الساكن الأصلي.
وينعكس هذا المفهوم (الكارما) في عدد من الثقافات والحضارات القديمة، ويفيد بأن ما يحدث للفرد سببه الأول نياته وأفعاله السابقة، وهي ما يؤثر على مستقبله، وهذا ما حدث لـ”جيسيكا” حسب معطى الحادث الذي رسمه المخرج وكاتب السيناريو “فيليب فان ليو”.
وباء العنصرية.. سلوك سام يلتقطه الفرد من البيئة
فيلم “الجدار” عمل سينمائي يعتمد بشكل أساسي على مبدأ الفعل وردة الفعل، وكأن المخرج يقول إن العنصرية أو أي فعل غير مقبول هو ابن البيئة، أي أنه لا يولد مع الفرد، بل هو سلوك منعزل يتلقاه المرء من الآخرين، من الأسرة والمجتمع والفضاء الذي يتنقل فيه ويستمد منه ثقافته ومرجعيته.
هذا ما وقع لـ”جيسيكا”، فقد كانت ضحية من ضحايا هذا المجتمع، وربما هي النتيجة المباشرة لسلوك والدها الذي يكون قد دمّرها من الناحية الأخلاقية، فقد زرع فيها بذور الكره والحقد ورفض الآخر، وفي الوقت نفسه حطّم حاضرها ومستقبلها، بعد أن فُتح تحقيق في حقها، ومن الممكن متابعتها بجريمة القتل غير المبرر.
من هنا يتشكل مستقبل كل من يرسم أبعاد الشر، ويتضح بصورة لا شك فيها مجال ومصير وأبعاد العنصرية التي تقضي علي الجلاد والضحية معا.
صور الصحراء.. جماليات استثمر فيها مدير التصوير
لم تُثنِ قوة الموضوع وعاطفيته المفرطة المخرج “فيليب فان ليو” عن رسم جماليات أخرى، لا سيما صور الصحراء بسحرها وامتدادها وإضاءتها الطبيعية، وهو معطى استغله بشكل جيد مدير التصوير “جواكيم فيليب”.
ومع أن المُخرج كانت مهنته الأولى التصوير، وقد درسه في المعهد الأمريكي للأفلام، وقبلها في بروكسل، فإنه فضل الاعتماد على مهني آخر، ربما من أجل توفير صورة أوضح على ما يمكن القيام به بشكل أفضل وأكثر حرفية.
يظهر ذلك جليا من خلال الوقوف على إطارات الصورة الملتقطة بعناية فائقة، إضافة إلى التركيز على ملامح الشخصيات، ولا سيما “جيسيكا” الحزينة والغاضبة والحاقدة والموجوعة والمتألمة، كلها عواطف ارتسمت على ملامحها الحادة، حتى تتناسب مع دورها المركب والمعقد.
“فيليب فان ليو”.. جوائز مخرج إنساني دخل الحلبة متأخرا
استطاع المخرج “فيليب فان ليو” إخراج فيلم سينمائي جيد، أشار فيه لقضية إنسانية لا تموت ولا تبلى، فهي حاضرة في كل المجتمعات بشكل متعدد أو نسبي، ومع أنه دخل مجال الإخراج متأخرا، فإنه أظهر نضجا كبيرا.
كان أول تجارب “فيليب” في إخراج الأفلام الروائية الطويلة، هو فيلم “اليوم الذي ابتعد فيه الرب” (The Day God Walked Away) الذي أُنتج عام 2009، ونال عليه عددا من الجوائز، من بينها جائزة أفضل مخرج صاعد في مهرجان سان سباستيان السينمائي الدولي، إضافة إلى فيلمه الثاني “في سوريا” (2017) الذي حاز على جائزة الجمهور في مهرجان برلين السينمائي، ليكون فيلمه “الجدار” (2023) ثالث أفلامه الروائية الطويلة.