من تشافيز إلى مادورو.. هل كفر الفنزويليون باليسار؟

إسماعيل نافع

 

يسعى غوايدو (يسار) إلى الإطاحة بالسيد مادورو بينما يصارع الأخير للبقاء في السلطة في فنزويلا

 

تصحح امرأة فنزويلية بشكل مهذب سؤال الصحفي لها عن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو قائلة: “لم يعد مادورو رئيسا للجمهورية.. الرئيس الشرعي الوحيد الآن هو خوان غوايدو.. سيكون عليكم أن تعتادوا عليه، فقد أدى اليمين الدستورية بموجب دستورنا، واعترف به ستون بلدا.. هذا مفهوم؟”. السيدة تقول إنها “متفائلة جدا”، فهي تصدق بشدة أن توازن القوى قد انعكس وأن “الجيش سيتخلى في النهاية عن نيكولاس مادورو”.

من هو الرئيس إذن؟

قد يكون هذا سؤالا غير عادي في معظم بلدان العالم، ولكن في فنزويلا يرغب كثيرون في معرفة الإجابة في أعقاب الأحداث الدرامية التي وقعت في 23 يناير/كانون الثاني.

ففي ذلك اليوم أعلن رئيس البرلمان الفنزويلي خوان غوايدو بشكل مفاجئ، نفسه رئيسا لفنزويلا وقال إنه سيتولى السلطة التنفيذية في البلاد. وكانت هذه الخطوة بمثابة تحد مباشر لسلطة الرئيس الاشتراكي نيكولاس مادورو، الذي أدى اليمين الدستورية لفترة ولاية ثانية مدتها ست سنوات قبل أسبوعين فقط.

وفي أول رد على الانقلاب، أعلن مادورو قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأكد في كلمة أمام حشد من أنصاره في العاصمة كاراكاس: “لا نريد العودة إلى عهد التدخلات الأمريكية. سأبقى في قصر الرئاسة مع أصوات الشعب الذي ينتخب رئيسا دستوريا لفنزويلا”.

يقول خوان غوايدو رئيس البرلمان الذي تديره المعارضة أن حكم مادورو غير شرعي

ما سبب النزاع الحالي؟

في أبريل/نيسان 2013 انتُخب نيكولاس مادورو لأول مرة بعد وفاة معلمه الاشتراكي وسلفه في الحكم هوغو تشافيز. وحينها فاز مادورو بفارق ضئيل قدره 1.6 نقطة مئوية على منافسه حاكم ولاية ميراندا هنريك كابريليس. وخلال فترة ولايته الأولى دخل اقتصاد فنزويلا في حالة من السقوط الحر.

في مايو/أيار 2018 أعيد انتخاب مادورو لفترة ثانية مدتها ست سنوات بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية المبكرة بنسبة 68% من الأصوات، وذلك في ظل مشاركة محدودة لبعض أحزاب المعارضة ومقاطعة أحزاب أخرى. وأكد المراقبون الدوليون حينها، ومنهم ممثل من مجلس الخبراء الانتخابيين من أمريكا اللاتينية (CEELA) موثوقية نظام الانتخابات الفنزويلي، بينما عبر هنري فالكون المنشق عن تيار تشافيز، والذي نافس مادورو في الانتخابات، عن عدم اعترافه بنتائجها، واعتبر أنها تفتقر إلى “الشرعية” وطالب بإجراء انتخابات جديدة قبل نهاية العام.

وأعلن نيكولاس مادورو وقتها أنه سيكمل فترة ولايته الأولى المتبقية ثم يؤدي اليمين الدستورية لفترة ثانية في 10 يناير/كانون الثاني 2019.

رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو يؤدي اليمين الدستورية إلى ولاية ثانية أمام رئيس المحكمة العليا “مايك مورينو” وسط أسوء أزمة اقتصادية تعيشها البلاد

لكن ماذا حصل قبل أداء مادورو اليمين لولاية ثانية؟

في 5 يناير/كانون الثاني 2019 –أي قبل خمسة أيام من أداء مادورو اليمين الدستورية- أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانا هاجمت فيه ما أسمته “نظام مادورو الفاسد والاستبدادي”. وقالت إن البرلمان هو المؤسسة الشرعية الوحيدة الباقية والمنتخبة ديمقراطيا التي تمثل بحق إرادة الشعب الفنزويلي”.

في 10 يناير/كانون الثاني أدى مادورو اليمين الدستورية لولاية ثانية أمام المحكمة العليا، بينما أعلن خوان غوايدو رئيس البرلمان الفنزويلي الذي تسيطر عليه المعارضة أنه سيعترض على ما أسماه التنصيب “غير المشروع” لمادورو.

في 11 يناير/كانون الثاني عقد غوايدو اجتماعا للبرلمان أعلن فيه أنه سيتولى منصب الرئيس وسيستمر في التخطيط لإزاحة مادورو، وسارعت الولايات المتحدة لدعم موقف غوايدو.

في 23 يناير/كانون الثاني أعلن غوايدو نفسه “رئيسا بالوكالة” للبلاد أمام الآلاف من مؤيديه الذين تجمعوا في كراكاس، ووقعت اشتباكات مع قوات الأمن أسفرت عن مقتل 13 واعتقال المئات.

في 24 يناير/كانون الثاني أعلن وزير الدفاع الفنزويلي فلاديمير بادرينو أن الجيش يرفض إعلان رئيس البرلمان نفسه “رئيساً بالوكالة”، وأكد وقوف الجيش وراء الرئيس الشرعي للبلاد مادورو.

في 27 يناير/كانون الثاني أطلق غوايدو دعوات لجولة مظاهرات ضد مادورو للمطالبة بإجراء انتخابات جديدة، كما دعا لتنظيم إضراب “سلمي” لشل البلاد.

في 29 يناير/كانون الثاني قال المتحدث باسم الأمم المتحدة لحقوق الإنسان روبرت كولفيل إنه يُعتقد أن 40 شخصا على الأقل قتلوا في أعمال العنف الأخيرة التي شهدتها فنزويلا، بما في ذلك 26 قتلوا برصاص القوات للحكومة.

متظاهرون مناوئون لنظام الرئيس مادورو يحرقون دراجات نارية أثناء الاشتباكات مع قوات الأمن

حقائق معروفة

في 05 يوليو/تموز 2015 تمكنت المعارضة من تحقيق فوز تاريخي في الانتخابات البرلمانية، مهددة للمرة الأولى سياسة تيار الرئيس الأسبق هوغو تشافيز الذي حكم البلاد من عام 1999 حتى وفاته عام 2013، وهو الأمر الذي منحها مساحة أكبر لتحدي الرئيس نيكولاس مادورو. وأقر مادورو وقتها بالهزيمة، ملقيا اللوم على “الحرب الاقتصادية” التي تواجهها بلاده.

في 30 يوليو/تموز 2017 تجاوزت الحكومة البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وذلك بالدعوة إلى انتخاب جمعية تأسيسية.

في 4 أغسطس/آب 2017 انتخبت جمعية موالية للرئيس مادورو حيّدت البرلمان ومُنحت صلاحيات واسعة تبدأ من تغيير الدستور وتنتهي بحل البرلمان.

مناصروا غوايدو يرفعون أيديهم خلال مظاهرة مناهضة للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في كاراكاس في 23 يناير 2019 (أ.ف.ب)

من يدعم مادورو؟

أعلنت كل من روسيا والصين والمكسيك وتركيا وفلسطين وسوريا وكوبا وبوليفيا وإيران وأوروغواي دعمها لمادورو.

وفي 27 يناير/كانون الثاني اتهمت روسيا واشنطن بالتآمر لإحداث انقلاب في فنزويلا، وأكدت أنها ستأتي للدفاع عن حليفها في فنزويلا إذا استدعى الأمر، في أقوى دعم للرئيس مادورو.

من يدعم غوايدو؟

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بغوايدو “رئيسا بالوكالة” بعد دقائق فقط من إعلان الأخير أنه سيتولى السلطة التنفيذية.

وقد اعترفت نحو ستين دولة بغوايدو رئيسا لفنزويلا منها كندا وأستراليا وإسرائيل ودول عدة في أمريكا اللاتينية، بينما حددت ست دول أوروبية -هي إسبانيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والبرتغال وهولندا- مهلة ثمانية أيام للدعوة إلى انتخابات، وإلا اعترفت هي أيضا بالمعارض غوايدو، وهي المهلة التي رفضها مادورو.

فنزويلا 27 يناير 2019، مادورو يشارك في تدريبات عسكرية في فالنسيا (رويترز)

هل يمكن أن يكون هناك تدخل عسكري؟

في 25 يناير/كانون الثاني أكد مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي هربرت ماكماستر، أن الولايات المتحدة تدرس جميع خيارات التعامل مع الأزمة الفنزويلية، بما في ذلك العسكرية.

في 28 يناير/كانون الثاني ظهر بولتون وزير الدفاع الأمريكي في إحاطة للصحفيين وهو يحمل مفكرة مكتوب عليها عبارة “5000 جندي إلى كولومبيا”، وهو ما أثار تساؤلات إزاء نوايا الولايات المتحدة تجاه فنزويلا. ولم يتضح بعد ما الذي تعنيه هذه الكلمات، وما إذا كانت إدارة ترامب تفكر جديا في إرسال قوات أمريكية إلى كولومبيا، كما لم يتضح أيضا إن كان الكشف عن هذه الكلمات مقصودا، في حين لا توجد أي دلالة على اللجوء إلى الخيار العسكري في أي وقت قريب.

في 29 يناير/كانون الثاني اتهم السفير الفنزويلي لدى الأمم المتحدة في نيويورك خورخي فاليرو الإدارة الأمريكية بإعداد “غزو عسكري” لبلاده.

ظهر بولتون في مؤتمر صحافي، ومعه كراسة ملاحظات مدون عليها كلمات “5000 جندي إلى كولومبيا” ولم يتضح بعد إن كان الكشف عن هذه الكلمات مقصودا (رويترز)

عقوبات أمريكية

في 28 يناير/كانون الثاني أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون فرض عقوبات على شركة النفط الحكومية الفنزويلية (PDVSA) وهي أكبر مصدر للدخل في فنزويلا، وردت حكومة مادورو برفض تحميل شحنات خام دون سداد ثمنها.

وفي مساء اليوم نفسه، وفي خطاب وطني اتسم بالتحدي، قال مادورو إنه سيتخذ إجراء قانونيا للتصدي للعقوبات والدفاع عن سيتغو بتروليوم كورب شركة التكرير الأمريكية التابعة لشركة النفط الحكومية الفنزويلية (PDVSA) والتي اتهم الولايات المتحدة بالسعي للاستيلاء عليها، كما تعهد بالرد لكنه لم يعلن إجراءات محددة.

في 29 يناير/كانون الثاني أدانت روسيا العقوبات الأمريكية المفروضة على شركة النفط الحكومية الفنزويلية ووصفتها بأنها “غير شرعية” وتنتهك كل المعايير الدولية الممكنة”، وتعهد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف “بكل شيء لدعم الحكومة الشرعية للرئيس مادورو”، بينما حذرت الصين من أن العقوبات الأمريكية ستضر بمعيشة الناس العاديين وتعقد الوضع في البلاد التي ضربتها الأزمة.

صعدت إدارة ترامب الضغوط ضد الفنزوليين

كيف لأغنى دولة نفطية أن تعاني الفقر؟

قفز احتياطي بترول فنزويلا المؤكد فجأة عام 2010 من 77.68 مليار برميل إلى 300 مليار، ورغم ذلك بدأ إنتاج بترول فنزويلا في نفس العام 2010 ينخفض تدريجيا من 3.22 ملايين برميل في اليوم إلى أن أصبح الآن حوالي 2.5 مليون برميل فقط.

وهذا التناقض الواضح المتمثل في زيادة احتياطي البترول الفنزويلي -ليصبح أكبر احتياطي في العالم- وترافقه مع انخفاض حجم إنتاج بترول فنزويلا ليصبح ترتيب إنتاجها ثالثا في أمريكا الجنوبية بعد البرازيل والمكسيك رغم أن احتياطيات البرازيل والمكسيك قطرة في بحر احتياطي فنزويلا (احتياطي البرازيل 16.2 مليار برميل أي 5.4% من احتياطي فنزويلا، واحتياطي المكسيك 11.1 مليار برميل أي 3.7% من احتياطي فنزويلا).. هذا التناقض ينم عن مشكلة بنيوية في الاقتصاد الفنزويلي.

وتذكر تقارير غربية عن فنزويلا (على سبيل المثال: تقرير إدارة الطاقة الأميركية/EIA الصادر في 20/06/ 2014) أن السبب في تدهور صناعة البترول الفنزويلي يرجع إلى سوء سياسة الحكومة الحالية التي تسير على خطى سياسة الرئيس السابق هوغو تشافيز الذي بدأ بعد انتخابه عام 1999 برفع معدلات الضريبة وعوائد الريع على شركات البترول الأجنبية وزيادة نسبة ملكية شركة البترول الفنزويلية.. فتفاقمت الخلافات مع شركات البترول الأجنبية وأعاق استثماراتها.

10 يناير 2019، يتجمع أنصار رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو حول المحكمة العليا خلال مراسم أداء اليمين، في كاراكاس. لا يزال لدى الرئيس مؤيدوه، لكن شعبيته تراجعت مع تدهور الوضع الاقتصادي للبلاد

ما سبب تراجع شعبية مادورو؟

منذ تولي مادورو الحكم في أبريل/نيسان 2013 خليفة لتشافيز بعد وفاته والبلاد تشهد أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة. ففنزويلا الغنية بالنفط بدأت تمر بأسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخها الحديث مباشرة بعد تراجع أسعار النفط الذي يشكل 96% من عائداتها ويعتمد عليه حكم الرئيس نيكولاس مادورو.

ربما يعاب على الرئيس مادورو عدم استحداثه بدائل تدر عائدات على البلد غير النفط، مما وضعه في واجهة انتقادات من قبيل قيامه بتدابير اقتصادية متأخرة أو خاطئة، واتهامات بالفساد وباكتناز السلطة، ليصل حجم التضخم إلى درجات غير مسبوقة.

و”يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ التضخم 10 ملايين في المئة عام 2019″. وأدى التضخم إلى تدهور العملة الوطنية، مع نقص حاد في الضروريات الأساسية وخاصة “المواد الغذائية والأدوية”، مما أثر بشكل كبير على السكان وتسبب بهروب مئات الآلاف إلى خارج البلاد.

وبات العجز المالي اليوم يشكل نحو 20% من إجمالي الناتج الداخلي، في حين بلغ الدين الخارجي 150 مليار دولار.

مادورو يحمل ورقة نقدية من العملة الفنزويلية الجديدة السيادية بوليفار في قصر ميرافلوريس في كراكاس، فنزويلا

البوليفار السيادي يخلف البوليفار القوي

يسعى الرئيس نيكولاس مادورو هذه الأيام إلى كبح جماح الأزمة الاقتصادية، معلنا عن العديد من المبادرات الاقتصادية والمالية، ولعل أبرزها إطلاق عملة جديدة تدعى “البوليفار السيادي” مع حذف خمسة أصفار منه ليحل محل “البوليفار القوي” السابق.

وفي 27 يناير/كانون الثاني كشف مادورو عن إجراءات جديدة تشمل رفع الحد الأدنى للأجور إلى نصف بترو (أي 1800 بوليفار سيادي)، ويساوي هذا المبلغ نحو 28 دولارا، وهو ما يعني زيادة بـ34 ضعفا عن الحد الأدنى السابق الذي يعادل أقل من دولار، بحسب معدل السوق السوداء السائد حاليا في فنزويلا.

ويسعى مادورو من هذه المبادرة إلى الحد من مشكلة التضخم التي طالت الاقتصاد الفنزويلي، وفرض “انضباط مالي” للبلاد فضلا عن التوقف عن طباعة النقود بشكل مفرط مثلما كان الحال في السنوات الماضية.

فنزويلا. المساحة: 912.050 كلم2 / الموارد الطبيعة: النفط والغاز الطبيعي وخام الحديد والذهب والألماس

لماذا فنزويلا مهمة للعالم؟

هي البلد الأغنى بالنفط بامتلاكها أضخم احتياطي نفطي على وجه الأرض بـ300 مليار برميل، أما السعودية فتأتي ثانية بـ267 مليار برميل، وهو ما يفسِّر تنافس دول كثيرة في العالم عليها.

ويمنح الموقع الجغرافي لفنزويلا في شمال أمريكا الجنوبية وحدودها مع كولومبيا والبرازيل وجويانا أهمية إستراتيجية خاصة بالنظر إلى إطلالتها على المحيط الأطلسي الشمالي والبحر الكاريبي.

ويعني تغيير الوجهة في فنزويلا انقلاب الدفة في أمريكا الجنوبية، فقبل عشر سنوات كان أغلب سكان قارة أمريكا الجنوبية والكاريبي يعيشون في ظل حكومات يسارية، واليوم لم يتبق منها سوى القليل بعد فوز اليمين في الانتخابات في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، فهل جاء الدور على فنزويلا؟

الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو والرئيس الفلسطيني محمود عباس (أ.ف.ب)

لماذا فنزويلا مهمة للعرب؟

تشكل فنزويلا بالنسبة لغالبية العرب نموذجا في تحدي الهيمنة الأمريكية، فمنذ قدوم الرئيس الراحل هوغو تشافيز إلى الحكم انحاز إلى كثير من القضايا العربية وعلى رأسها الحق الفلسطيني، وكانت مواقفه دائما مع فلسطين.

ولم تتغير سياسة كاراكاس مع قدوم الرئيس مادورو إلى الحكم، بل زاد من حدة انتقاداته للسياسات الإسرائيلية في الشرق الأوسط.


إعلان