الدبكة.. رقصات عابرة للحدود
سنان ساتيك

ليس هناك دراسة علمية يُعتد بها تستكشف الدبكة ومراحل تطورها واختلافها بين الشعوب، لكن يوجد بعض الشذرات المنثورة التي تحاول تفسير سر هذه الرقصة الجماعية
يعلو قرع الطبل وتتعالى معه خبطات الأقدام بالأرض، كأنها خبطة واحدة في حالة جمعية يندمج الراقصون المشتركون فيها، رجالا ونساء، في جسد واحد، فتمسي الأقدام قدما واحدة تُتابع قائد الرقصة الذي يمسك سبحة يلوحها في الهواء، لتكون رابطا معنويا له تساعده على الاحتفاظ بالنسق الذي يسير عليه، حتى يهتدي به بقية الراقصين.. تلك هي رقصة الدبكة المشهورة في بلاد الشام.
محاولات تفسيرية
ليس هناك دراسة علمية يُعتد بها تستكشف الدبكة ومراحل تطورها واختلافها بين الشعوب، لكن يوجد بعض الشذرات المنثورة التي تحاول تفسير سر هذه الرقصة الجماعية، إذ يروى أن “الدَبِّيكة” كانوا يتجمعون بطلب من أحد ما لتمهيد طريق عبر سيرهم عليها بحلقات دبكة وخبط الأقدام بها.
أو أنها تعود بأصولها إلى الرقص الشركسي المنحدر من القوقاز الذي يتشابه معها بالرقص الجماعي، وتشكيل حلقات عبر مجموعة راقصين يصطفون إلى جانب بعضهم، فاقتبست منها وأضيف إليها طقوس أخرى ظلت تنمو وتتطور، وتتمازج مع الفولكلور المحلي حتى صارت سمة متفردة لكل منطقة.
ويرى الموسيقار اللبناني الراحل زكي ناصيف أن الدبكة ليس لها تاريخ، وأنها نتجت من خبط الأرجل بأسطح المنازل الترابية لتسويتها حتى لا تتسرب الأمطار منها مع نطقهم “دِ العونة.. دِ العونة” السريانية أي العونَ العونَ[1]، فصارت الدلعونا والهوارة وغيرهما من متلازمات الدبكة ترافقها حتى تُنشط الراقصين وتبث الحماس في نفوسهم ويكون الخبط بروح موحدة.
لكل منطقة دبكتها، وفي كل منها تسمية خاصة. تتبعثر التسميات والأنواع، لكنها تتشابه في الحركات واعتمادها على الأرجل، وتختلف في الإيقاع والحركات وعدد الخطوات، فعناصرها الأساسية تتجلى في حركة منتظمة بإيقاعات متوازنة، تتواتر الحركة فيها دوريا بلغة تعبيرية تعتمد على حركات الجسد الجماعي، فترتفع الأرجل مع بعضها ويكون الخطو متباعدا متساويا حتى يصل إلى خبط الأرض في اللحظة ذاتها، فيحسبها السامع خبطة قدم واحدة.

هذا الرقص نوع من أنواع التعبير لحاجة ما، وهو حالة اجتماعية يتهادى فيها الفرد داخل الجماعة التي تعتقد أن اجتماعها سيكون في حالة إيمانية
إيحاءات تعبيرية
لا تفرح النفس البشرية بلا حركات ترافقها، ولا تحزن من دون تحركات جسدية تعبر عنها بدفقات شعورية تنعكس على الجسد، حتى في حالات التضرع والابتهال يكون الإيماء الجسدي وسيلة في التعبير. لذا ينحو خزعل الماجدي إلى أن هذه الدبكات عبارة عن رقصات لاستسقاء المطر في حالات استغاثة الآلهة، وأن البدو في سوريا والعراق ما زالوا يؤدونها بالطريقة ذاتها مع بعض التمايزات[2]، فهذا الرقص نوع من أنواع التعبير لحاجة ما، وهو حالة اجتماعية يتهادى فيها الفرد داخل الجماعة التي تعتقد أن اجتماعها سيكون في حالة إيمانية، لأنه منبثق من وعي جمعي يستعطف الآلهة، وذو تأثير أبلغ.
تترافق احتفالات الربيع في سوريا اليوم مع رقص تعبيري يحاكي الفرح بالاخضرار والإنبات، فعلى سبيل المثال للكرد دبكة شعبية يؤدونها في احتفالاتهم بعيد النوروز يتفردون بها تدعى في الكردية ديلان[3]، وتطلق على الرقصة الجميلة في الساحل السوري التي يستخدمونها (من دون أن يعرفوا معناها) للدبكة المؤلفة من عدد كبير من “الدبيكة”.
إن الدبكة السريانية والجزراوية عموما المنتشرة اليوم في الجزيرة السورية تدل على هذا التراث الفولكلوري الذي يماثل رقصات إيحائية كانت تؤدى عند احتفال الشعوب القديمة (السومريون والبابليون) بعودة الإله من العالم السفلي بعد فترة موات قسرية، فيوحي للطبيعة أن تعود للخلق والإخصاب بإزهار الأشجار، والشروع في الزراعة وبدء نضج القمح، واستئناف الحياة دورتها الطبيعية بعد الشتاء الحزين على غياب الإله، فتبدأ احتفالات الربيع لقيامة الإله بنفحة شعورية تتدفق فعلا جمعيا لا فرديا في طقس شعبي يشترك فيه الكهنة، لا يغيب الرقص الاحتفالي عنه.

إن الدبكة السريانية والجزراوية عموما تدل على هذا التراث الفولكلوري الذي يماثل رقصات إيحائية كانت تؤدى عند احتفال الشعوب القديمة بعودة الإله من العالم السفلي بعد فترة موات قسرية
طقس فينيقي
هذا التراث غير المادي استمر مع الفينيقيين مع مزجه بروحانيات محلية تتماشى مع بيئتهم، وبما أنهم أول المسرحيين في تمثيليات الربيع فقد أدخلوا إليها رقصات إيحائية تتماشى مع النص الدرامي، فأدوا تمثيليات شعرية تصور حكاية الخِصب وقيامة الإله، وثمة رسومات ومنحوتات ونقوش متفرقة تصور كهنة يمسكون بأيدي بعضهم يرقصون رقصة تُشابه الدبكة الحالية، مع عازف مزمار يؤدي أنغاما ترافقهم.
فهذه الرقصة لا تخلو من مدلول مقدس، لأن سياقها يكون بحركة دائرية تدور حول نقطة ما تمثل المركز والمحور، كأن هناك شيئا في الوسط، ونلمح هذا الأثر في كثير من الرقص الروحاني، ولا سيما الصوفي. فالحضارات القديمة كانت ترقص وتدور حول وثن يمثل أحد الآلهة للتعبير عن عظمته وتقديم الامتنان له.
ولعل فقدان معنى كلمة دبكة في اللغة العربية يعزز فرضية أصولها العائدة إلى الحضارات القديمة، فهذه الكلمة مشتقة من اللغة السريانية لأن معنى دبك: رقص الدبكة من السريانية (dabek) أي تبع ولحق، إذ إن الراقصين يلحقون بعضهم في حركاتهم أو من (dbeq) أي لصق به[4]، لأن الراقصين يلتصقون ببعضهم ممسكين الأيادي ويضعون الكتف جنب الكتف.
أما الدبكة: رقص شعبي ريفي (يقصد ريف سوريا) فيه خطو متقارب متحد متزن، ثم يضربون أرجلهم بسرعة في الأرض، ويقفزون إلى غير موقفهم الأول قفزة واحدة وهكذا دواليك حتى تتم الحلقة دروتها[5].
إذاً أمست الدبكة في المراحل السابقة تراثا ريفيا، تسللت إليه بعد انهيار الإمبراطوريات السابقة التي كان تمارس طقوسا تتضمنها في دراميات تجسدها على المسارح في المدن الكبرى، فانحرفت إلى الريف بعدما صارت المدنية تنفر منها، لكنها عادت اليوم إلى الانتشار في المدن مع الهجرة التي قصدتها، ولنزوع الناس إلى التقاليد والكلاسيكيات حنينا إلى الماضي.
[1] خطيب بدلة، “كيف نشأت الدبكة اللبنانية؟”، 2/10/2017، العربي الجديد، شوهد في 13/4/2019، في: https://bit.ly/2P6OSk5
[2] خزعل الماجدي، أدب الكالا.. أدب النار (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2001)، ص 27.
[3] فرهاد شامي، “الدبكات الجزراوية بين الحركة والإيماء”، esyria، 21/3/2011، شوهد في 13/4/2019، في: https://bit.ly/2GcWLAn
[4] ياسين عبد الرحيم، موسوعة العامية السورية، ج 2 (دمشق: وزارة الثقافة السورية، 2003)، ص 911.
[5] المرجع نفسه.