دنيا الأفيش.. السينما المصرية تحكي عن زمنها الجميل

خاص-الوثائقية

الأفيش تعريب لـ مفردة (AFFICHE) الفرنسية، وتعني الملصق الدعائي للفيلم، ويوضع عادة على واجهة المباني واللوحات الدعائية في الشوارع

في سبعينيات القرن الماضي، تجول المؤرشِف مكرم سلامة في مطابع وإستديوهات القاهرة، ومنها حزم حقائبه إلى الإسكندرية. وعندما لم تكتمل مهمته سافر إلى السويس، وبعد عقود قرر سامح فتحي أن يسير على ذات الدرب.

كانتا رحلتين في الماضي. فقد أراد سلامة أرشفة الأفيش السينمائي، فيما اختار صبحي أن ينفض عنه الغبار ليكتب عن العصر الذهبي لفنٍ عشقه الناس، وكان يوما شُرفة يطلون منها على الترفيه والحلم والحب.

والأفيش تعريب لـ مفردة (AFFICHE) الفرنسية، وتعني في الحقل السينمائي الملصق أو الدليل الدعائي للفيلم، ويوضع عادة على واجهة المباني واللوحات الدعائية في الشوارع.

وقبل 130 عاما كانت الإسكندرية تعج بالأوروبيين ومنها ازدهرت الصناعة الفنية بمصر، وكان الأفيش عاملا مهما في رواج الأفلام وتشكلت حول رسمه وطباعته وتوزيعه قصص ترويها الأجيال وتخلدها المكتبات والمتاحف.

هذه القصص والعوالم يسردها فيلم بعنوان “دنيا الأفيش” أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية وبثته في يوليو/تموز من عام 2018.

 

الأفيش.. آلية دعائية للمسرح والسينما

يوضح الممثل الراحل نور الشريف أن الأفيش رافق الفن في رحلته عبر الزمن، وكان آلية دعائية للمسرح الذي سبق السينما بقرون.

ويروي أن العربات كانت تجوب الشوارع في المدن القديمة وعليها ألواح خشبية كتبت عليها معلومات عن المسرحيات وذلك من أجل أن يطّلع عليها الناس.

لاحقا تطور الأفيش ليتخذ شكل رسومات في الشارع تُقدم فكرة مختصرة عن العمل السينمائي أو المسرحي قبل عرضه، لجذب الجمهور للحضور والمشاهدة.

وعندما ازدهرت السينما، بدأت حقبة الأفيش اليدوي الذي يمكن إيصاله للأحياء السكنية من أجل الدعاية للأفلام داخل البيوت. وبات الأفيش البوابة الأولى للوصول للجمهور. والسينما المصرية في هذا الجانب تأثرت كثيرا بالسينما في فرنسا وإيطاليا.

نور الشريف: الأفيش رافق الفن في رحلته عبر الزمن، وكان آلية دعائية للمسرح الذي سبق السينما بقرون

تحولات الأفيش.. فن مستقل بذاته

لكن الأفيش تحول لاحقا إلى فن مستقل بذاته، ولم يعد مجرد آلية لتسويق الأعمال الفنية. هذا التحول يتحدث عنه المخرج السينمائي علي بدر خان قائلا إنه لم يعد يكفي رسم أبطال الفيلم بطريقة سطحية أو تقديم فكرة موجزة عنه.

في هذه المرحلة، شهدت مصر تَشكّل نخبة جديدة من الفنانين لا تشارك في الأداء الفني ولكنها ترسمه بطريقة محترفة وتحببه للجمهور من حيث الألوان والخط والرموز والإيحاءات.

وفي حديثه بالوثائقي، روى المخرج سامح فتحي أنه رأى الأفيش لأول مرة بحوزة والده. كان عن فيلم “ديرتي دوزن”، وكان أفيشا مبهرا وأصليا، ومرة أخرى اطلع على أفيش عن فيلم بعنوان “امرأة في الطريق”.

ومن اللحظة الأولى وقع سامح فتحي في غرام الأفيش، وهو ما قاده لنفض الغبار عن هذا الفن وعرضه لأجيال اليوم في كتاب بعنوان “العصر الذهبي للأفيش”.

بحث سامح فتحي عن الأفيشات الأصلية في مدينتي الإسكندرية وطنطا وتعرف على أوائل رساميها في تاريخ سينما مصر، ويومها كانت السينما هي وسيلة الترفيه الوحيدة في البلاد.

وبحوزة سامح فتحي أفيشات لأفلام رشدي أباظة وشكري سرحان، كما يحكي أيضا أنه اطلع على أفيشات لأفلام في خمسينيات القرن الماضي.

بات الأفيش البوابة الأولى للوصول للجمهور. والسينما المصرية في هذا الجانب تأثرت كثيرا بالسينما في فرنسا وإيطاليا.

أفيشات من أرشيف الزمن الجميل

بيد أن مهمة سامح فتحي لم تكن لتكتمل لولا الجهد الكبير الذي بذله المؤرشف مكرم سلامة وأنفق فيه وقته قبل أربعة أو خمسة عقود.

لذلك، يعطي وثائقي الجزيرة مساحة مهمة لمكرم سلامة للتحدث عن جهده في جمع 2000 أفيش من مدن الصعيد والإسكندرية والقاهرة والسويس.

في أرشيف سلامة أفيشات لأفلام شهيرة مثل “كفّري عن خطيئتك” و”المليونير” و”أمير الانتقام” و”قلبي يهواك” و”انتصار الشباب” و”السبع بنات”.

ولأن فن الأفيش نضج أولا في الإسكندرية على يد الرسامين اليونانيين، تحولت الكاميرا إلى أثينا حيث تحدثت الصحفية والباحثة أماريا أدمنتيدس عن تاريخ الجالية اليونانية بمصر، وكيف ساهمت في ازدهار الفن وتركت بصمتها على الحقل الثقافي في بلاد النيل.

تروي المؤرخة أدمنتيدس أن اليوناني إستماتيس عمل بالأهرام في الثلاثينيات، وكان من أشهر رسامي الأفيش في مصر وأنه غادرها بعد الحرب العالمية الثانية، وعاد إليها في الستينيات لاستئناف رسم الأفيشات.

من أهم المطابع حينها الرغائب في القاهرة والمستقبل والنصر في الإسكندرية والقاهرة. وكان معظم الرسامين من اليونان قبل أن ينخرط المصريون في هذا الفن في العشرينيات.

أدمنتيدس التي تحدثت في الوثائقي باللهجة المصرية، لا تزال تذكر أفيشات أعجبتها قبل عقود وكانت لأفلام مثل “الهوى والشباب” و”ليلة من عمري” و”الأخ الكبير”.

فن الأفيش نضج أولا في الإسكندرية على يد الرسامين اليونانيين

الصور الناطقة

ومن أثينا، عادت الكاميرا من جديد إلى القاهرة والإسكندرية، لتتجول في الأزقة الضيقة وجدران الأستديوهات الملبدة بالسنين، حيث تتكدس الصحف والصور والملصقات القديمة وينبعث صوت فيروز مخترقا السماء “يا طير يا طاير على أطراف الدنيا لو فيك تحكي للحبايب”.

وعن ازدهار الأفيش في مصر، يتوجه الوثائقي للمخرج السينمائي سمير سيف ليتحدث عن الصورة الناطقة في الملصق كونها تضيف روحا حركية وعمقا للألوان والورق.

رائد الصورة الناطقة هو الرسام الشهير جاسور المولود في عام 1925 والذي درس فن الأفيش على يد اليونانيين وتحول إلى أحد أهم المبدعين في هذا المجال بحكم قدرته على ضخ الحركية والحياة في الأفيشات.

من أعماله البارزة أفيش فيلم “أحمر شفايف” لنجيب الرحيم. وتحكي ابنته هالة جاسور عن تاريخه وقدرته على تحويل الرسوم إلى قصة مختصرة أو حدوتة تنبض بالحياة.

كذلك، قصّ مصطفى مراد سيرته الأولى مع رسم وجوه أبطال الفيلم على الملصقات، وكيف كانت الإسكندرية عاصمة الأفيش ثم انتقلت الصناعة للقاهرة.

والأفيش في نظر مراد أكثر من رسم، إنه تاريخ وعلم وثقافة وبيئة عمل تحكي قصصا تنبض بالإنسانية والحب والحياة.

وبينما كان جاسور رائد الصورة الناطقة في دنيا الأفيش، يصف الفنانون الرسام عبد العزيز بأنه مؤسس مذهب الواقعية في الأفيش حيث كانت رسوماته تحكي واقع الفيلم وتقربه من الجمهور قبل مشاهدته.

وفي هذا المحور، ظهر عمر عبد العزيز يسرد قصة ارتباط والده بالأفيش ويتحسر على اختفاء هذا الفن في مصر ليحل محله تصوير لا طعم فيه ولا حياة.

قبل 130 عاما كانت الإسكندرية تعج بالأوروبيين ومنها ازدهرت الصناعة الفنية بمصر، وكان الأفيش عاملا مهما في رواج الأفلام

الأفيش.. كنز يرزح تحت التراب

لكن المخرج لم يختم الوثائقي بمشاعر التحسر وعبارات الرثاء، لعله تعمّد تفادي معاني الفناء والانقراض واختار نهاية تعكس احتفاظ الذاكرة الفنية بالجميل لجيل الأفيش، وإمكانية العودة لأرشيفهم واستلهام الإبداع من بين أناملهم.

في المقطع الأخير تحدث الوثائقي عن الفنان وهيب فهمي الذي وصفه معاصروه بالكنز الثمين بحكم تجربته العريقة والتقدير الهائل الذي كان يحظى به في الوسط السينمائي.

وعن هذا الكنز تحدث مدير مطابع النصر بليغ الأتربي، قائلا إن مخرجي الأفلام في الحقب الماضية كثيرا ما كانوا يشترطون عليه أن يتولى وهيب فهمي رسم أفيشات أعمالهم.

فهمي الذي خدم الصنعة وخدمته ظهر في لقطات قديمة غارقا في عالمه الخاص، فيما روى رفاقه أنه كان يرفض إملاءات المخرجين وعجلتهم إذ يؤمن بأن الفن يُصنع على مهل.

على جدران مكتب وهيب فهمي أُلصقت أفيشات لأفلام بينها “هارب من الحياة” و”الحقيقة العارية” و”ميرامار”. وصور وملصقات لموديلات من السيارات القديمة، فيما تتكوم الصحف على الأرضية والرفوف.

ومن رحلة مكرم سلامة إلى مكتب وهيب فهمي، سرد الزمن قصة فن عاش مع الناس لعقود في مدنهم وبيوتهم وانتهى به المطاف يرزح تحت الغبار وحبيسا بين الجدران.


إعلان