صوفية الجزائر.. من جهاد المستعمر إلى أحضان السلطة
حبيب مايابى

عندما دخل الفرنسيون الجزائر عام 1830 وجدوا على أسوارها 17 ألفا من أتباع الصوفية، فاستماتوا دفاعا عن أرضهم وشعبهم، لكن زهّاد الخلوة صاهروا الغزاة لاحقا وصحبوهم حسنا، وانتهى بهم المطاف في صف الأنظمة يحمدونها ويدعون لها بالبقاء والتمكين.
ومن بين دول إسلامية كثيرة تعتبر الجزائر دولة ذات تاريخ ضارب في التصوف العميق، تمتد جذوره قرابة تسعة قرون من الزمن.
والطرق الصوفية في الجزائر طرائق قددا ومذاهب شتى، وهي حاضرة في الجوانب السياسية والاجتماعية.
وفي التاريخ الجزائري الحديث مرت العلاقة بين الزوايا والأنظمة بمراحل متنوعة تراوحت من أقصى حالات العداء إلى أقصى حالات الود.
وفي يونيو/حزيران 2017 أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما خاصا بعنوان “الصوفية في الجزائر.. عبادة وسياسة” يروي تاريخ الطرق الصوفية قبل وبعد الاستعمار وحضورها في المشهد السياسي الحالي.
بين الجهاد والشبهات
لم تكن الحركات الصوفية بمنأى عن مقارعة الفرنسيين عندما أرادوا احتلال الجزائر، فقد كان أبناء الطرق من أبرز المستميتين في الدفاع عن بلدهم.
ويقول محمد الأمين بلغيث أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر “عندما دخل الفرنسيون الجزائر وجدوا على أسوار المدينة 17 ألفا من أتباع الطريقة الرحمانية، وكانت تربية هذه الطريقة تربية صوفية جهادية”.
ويقول الحبيب العولمة وهو من شيوخ الطريقة الفهرية “إن أغلب الثورات هي ثورات طرق صوفية، مثل ثورة أولاد سيد الشيخ وثورة لاله نسومر وثورة الشعابنة”.
وبسبب تلك الثورات التي تبنتها تلك الطرق ركزت التقارير العسكرية الفرنسية على دور الزوايا الخطير في مقارعة المستعمر ونبهوا على ضرورة محاصرتهم وتجويعهم.
بيد أن العلاقة بين التجانيين والفرنسيين دارت حولها بعض الشبهات خصوصا بعدما تزوج الشيخ سيد أحمد عمار التجاني بفرنسية وبنى لها قصرا مشيدا وأصبحت تتدخل في شؤون الزاوية وعلاقاتها بالفرنسيين.
ويوضح بلغيث أن الفرنسيين تمكنوا من احتلال الطرق الصوفية عبر الإغراءات المادية والتسفير والتهديد بسجن الأبناء وتعذيبهم.

حرب على الاستعمار الفرنسي.. والصوفية
دخلت الجزائر القرن الـ20 فرنسية الحكم والتربية، وتقلص دور المؤسسات الصوفية في التعلق بالروحانيات والذهاب بالأتباع إلى زيارة القبور حتى وصفهم شيوخ الحجاز بالدخلاء على الإسلام.
يقول أستاذ التاريخ بلغيث إن جمعية العلماء المسلمين كانت تحارب استعمارَين، الاستعمار العسكري الفرنسي والاستعمار الروحي الذي يقوده شيوخ الطرق المنحرفين الذين دجّلوا الإنسان الجزائري وجعلوا منه إنسانا مَتحفيا.
وقد برزت الدولة الحديثة أيام الاستعمار بعداء واضح للطرق الصوفية ليبلغ ذلك العداء ذروته أيام الحكم الاشتراكي في عهد هواري بومدين، فصادر أوقاف الزوايا وسجن بعض قياداتها الروحية كالشيخ المهدي بن تونس شيخ الطريقة العلوية بمدينة مستغانم.
ويضيف بلغيث أن جيل الاستقلال والإصلاح كانت لديه نظرة سيئة تجاه أصحاب العمائم.

حقبة العودة والحضور
وفي مدينة الأغواط في قلب الجزائر تنتشر الطريقة التجانية، وهي الطريقة الأكثر انتشارا في بلاد عقبة بن نافع، ولها ما يربو على 300 ألف مريد في جميع أنحاء العالم وفقا لإحصاءاتهم.
عانت الطريقة وأتباعها كثيرا حتى كادت تختفي، لكن موت محمد الحبيب التجاني في السنغال كان بداية للفرج بالنسبة لهذه الطريقة، فقد أوصى أن يُدفن بالجزائر وشارك في تشييع جثمانه آلاف المريدين من أتباع هذه الطريقة بينهم رؤساء أفارقة وشخصيات سياسية ودينية مرموقة من عدة دول مجاورة وذلك ما جعل السلطات تعيد النظر بشأنها.
وفي مدينة مستغانم التي لا تبعد كثيرا عن الحدود المغربية توجد زاوية الطريقة العلوية ذات الأتباع الكُثر.
وتختلف هذه الزاوية شكلا عن باقي الزوايا، حيث توجد بها مبانٍ حضارية أنيقة وحدائق غناء وتُقدم دروسا في التربية الروحية والموسيقى.
ومن بين العوامل التي جعلت الاهتمام بها حاضرا التنافس بين المغرب والجزائر، فلكل من الزوايا أتباع في القارة الأفريقية، ولا يغيب عن بال السلطات في الجزائر أن هذه الطرق أداة للتوسع وانتشار النفوذ.
يقول الدكتور بلغيث “إن استخدام هذه الطرق شبيه باستخدام الأحزاب والحركات السياسية بهدف النفوذ وبث الأيدولوجيا.

احتضان الصوفية ضربا للإسلام الحركي
في عام 1990 جرت أول انتخابات تعددية في الجزائر، وأسفرت عن فوز الحركة الإسلامية وانقلاب الجيش على المسار الديمقراطي.
كانت تلك فرصة أخرى لدخول الطرق الصوفية إلى مفاصل الحياة الاجتماعية والسياسية بشكل أوسع، فقد أراد رئيس الحكومة آنذاك مولود حمروش أن يقلص نفوذ الحركة الإسلامية في الجزائر، ففتح الباب أمام الطرق الصوفية، ليس حبا فيها وإنما بهدف التضييق على الحركة الإسلامية، وهكذا تم تأسيس الاتحاد الوطني للزوايا في الجزائر.
ورغم أن العقيدة الصوفية تبتعد في منهجها تماما عن المظاهر وتميل للزهد والتقشف، إذ يقول الباحث في مجال التصوف محمد بن بريكة إن “الصوفي من لبس الصوف على الصفاء وأطعم البطن إطعام الجفاء وترك الدنيا خلف القفا وسلك سبيل المصطفى”.. فإن ذلك لم يمنع الطرق الصوفية في الجزائر من الحضور والمشاركة في الشأن السياسي.
ففي العام 2009 ذهب الخليفة العام للطريقة التجانية من مدينة الأغواط إلى العاصمة الجزائر، ليعلن في ندوة صحفية عن دعمه ومساندته لعهدة رئاسية ثالثة للرئيس بوتفليقة، فحافظت الأغواط على مكانتها الخاصة وحظيت بتمويل كبير.
وفي مدينة مستغانم أقيم مؤخرا احتفال كبير بمناسبة مئوية الطريقة العلوية حضرته الوفود من جميع أنحاء العالم، وقد موّلت الحكومة ذلك النشاط بسخاء.
لم يجد القائمون على الزوايا حرجا في البوح بمساندة السلطات ودعمها والإشادة بكل ما تفعله. وقد كان عهد الرئيس بوتفليقة بالنسبة للزوايا عهد رخاء ورزق ورغد، حيث أعطى للطرق مكانة خاصة وحضورا لائقا، فأصبحت الدولة تنفق عليها بسخاء، وظهرت زوايا جديدة في وهران ومستغانم وبقية المدن الأخرى، ودُشنت المواقع ونُظمت الملتقيات وبث التلفزيون الرسمي أنشطة هذه الطرق.
كان الحديث عن إنجازات بوتفليقة ومشروعه الريادي حاضرا في أذهان مشايخ الطرق. ويقول الخليفة العام للطريقة التجانية سيدي شريف بلعراني في حديثه بوثائقي الجزيرة “إن الرئيس بوتفليقة هو من فتح الأبواب ونرجو الله أن يعينه حتى يكمل مشواره الذي بدأه”.

أفواج المريدين وآمال الغرب
نظرا للمكانة التي حظيت بها الزوايا في الفترة الأخيرة، أصبح المريدون يدخلون في الطرق الصوفية أفواجا.
ووفقا لمركز الدراسات والأبحاث في جامعة كامبريدج يوجد في الجزائر 1.5 مليون مريد، ويعتبر هذا الرقم قياسيا لجماعات ظلت محاصرة إلى عهد قريب.
وفي سنة 2007 نشرت مؤسسة راند للأبحاث تقريرا يقول إن الصوفية يمكن أن تكون بديلا للسلفية، وبسبب كونهم ضحايا للسلفيين يمكن أن يكون التقليديون والصوفيون حلفاء للغرب لدرجة أنه يمكن الوصول معهم لأرضية مشتركة.
ويضيف التقرير أن التعامل مع الصوفيين ينبغي أن يكون حذرا لأن ماضيهم القريب عُرف بدعم حركات التمرد المسلحة وذلك ما يشكل مصدر قلق.
وتعتمد هذه الرؤية الغربية على نجاحات سياسية حققها تيار التصوف في عدد من البلدان الإسلامية من دون تطرف.
ويقول بلغيث “إن محاولة الصوفي الرجوع للواجهة حق طبيعي له ما دام يتحرك في إطار الحريات العامة، والناس أحرار فيما اختاروا”.
ويزداد تنامي الطرق الصوفية في الجزائر في ظل ظروف حساسية خلفتها الحرب الأهلية التي لم تضع أوزارها إلا مؤخرا.
وبينما يرى البعض ظاهرة التنامي عامل استقرار بإمكانه أن يساعد في خلق توازنات محلية تساهم في القضاء على مخلفات الحرب الأهلية وتبعاتها، فإن كثيرا من المهتمين والمراقبين يخافون أن يكون نمو الطرق الصوفية بهدف النيل من الحركة الإسلامية أو لخدمة الأجندات المحلية أو الخارجية.