كاتدرائية نوتردام.. عندما يتهشم التاريخ

سنان ساتيك

بُني هذا الرمز الحضاري المادي على ضفة نهر السين عند منتصفه على جزيرة صغيرة تسمى "إلي دي لاسيت

على أحد جدران كاتدرائية نوتردام في أخدود صغير مخفي عبارة مكتوبة باللاتينية “الأيام عمياء والناس حمقى”، كأن هذه العبارة كُتبت لتصير حقيقة بعد 850 عاما، لتجسد عبثية التاريخ، أو إهمال العمال الذين كانوا يرممون الكاتدرائية الشهيرة، أو القدر المكتوب لها منذ كتبت هذه العبارة.

 

إهمال قديم

قبل قرابة 200 عام كتب فيكتور هوغو في رائعته “أحدب نوتردام”: “لا شك أن كنيسة نوتردام دو باري لا تزال حتى اليوم بناء جليلا بالغ الروعة، ومهما يكن احتفاظها بجمالها وهي تهرم، فإن من الصعب ألا نتنهد، ونثور ناقمين أمام الانهيارات والتشوهات الكثيرة التي سببها الناس والأيام على التوالي لهذا الأثر الوقور، منتهكين حرمة شارلمان واضع حجرها الأول، وفيليب أوغست واضع حجرها الأخير”[1].

وفي الآونة الأخيرة نتيجة تعرضها للعوامل الجوية وتعاقب السنين عليها احتاجت الكاتدرائية للترميم، لكن ذلك تأخر لأن الحكومة الفرنسية لم تقدر على توفير الأموال اللازمة، فتأخر العمل بها حتى تهالكت بشكل متزايد، وأصبحت تتداعى.

بُني هذا الرمز الحضاري المادي على ضفة نهر السين عند منتصفه على جزيرة صغيرة تسمى “إلي دي لاسيت” (Ile de la Cité) في قلب مدينة باريس التاريخية مكان أول كنيسة أنشئت في باريس، وهي بازيليك القديس إستيفان، والتي كانت مبنية على أنقاض معبد جوبيتر الروماني.[2].

تعد كاتدرائية نوتردام، والتي تعني سيدة بالفرنسية، من أبرز كاتدرائيات فرنسا والعالم، فقد بدأت أعمال بنائها في القرن الثاني عشر عندما وضع البابا ألكسندر الثالث عام 1163 حجر الأساس، واحتاجت تلك الأعمال لثلاثمئة عام حتى تنتهي، وهذا يتبين لنا من خلال أنماط الهندسة المعمارية المختلفة التي تزين المبنى؛ فعلى الرغم من أن الفن القوطي هو الغالب، إلا أن هناك مجالات تظهر عصر النهضة وعصر الطبيعة في البناء[3].

 

 

محتويات فنية ودينية

تتضمن الكاتدرائية إرثا إنسانيا غنيا، ففيها النقطة صفر؛ محور فرنسا. عند هذه النقطة تحسب المسافات من وإلى العاصمة الفرنسية. كما أنها تحوي جزءا من الصليب الذي حمله المسيح وأحد المسامير التي صُلب بها، وفيها السترة والتاج اللذان ارتداهما الملك لويس التاسع عندما اعتلى العرش، وثلاث آلات أرغن موسيقية تعود إلى العصور الوسطى، والعديد من الأعمال الفنية والأثاث، وعناصر قيّمة تعكس الفن القوطي، إضافة إلى الكثير من اللوحات والتماثيل والفنون التي تعود إلى عصر النهضة، ومنحوتات تجسد المسيح والسيدة العذراء، والإكليل الشوكي المقدس الذي يُروى أنه وضع على رأس المسيح قبل صلبه[4]. ويوجد فيها سرداب حديث يحوي أجزاء منهارة من الكنيسة وكل جزء يروي تاريخه وعوامل انهياره.

على جدرانها تزدان لمسات الحرفيين وموتيفاتهم وتفنناتٌ وضعت في مراحل البناء الأولى، وتماثيل فنية منصوبة عليها. يرتفع برجان في واجهتها من العصر القوطي مبنيان بطريقة هندسية فنية، وبرجها الثالث يعلو إلى 93 مترا في سماء باريس.

أما سقفها فهو مقبب ذو فتحات منحوتة بشكل معقد لتترك الضوء يتسلل بانسيابية لينير المكان من النوافذ الوردية الملطخة بآثار الطبيعة التي فككت في الحرب العالمية الثانية خوفا من قصف الألمان، وبعوارض خشبية من البلوط. والفسيفساء تملأ الفراغات بجداريات تعطي للمكان روحية نادرة.

عاشت الكاتدرائية أحداثا مهمة لا تمحى من ذاكرة التاريخ، فعند مذبحها تزوج ملوك وملكات فرنسا

أحداث تاريخية

إنها اليوم بناء جميل بالغ الروعة ذو حنايا، يتمازج في هيكله أنماط معمارية مختلفة، مع بعض التخريب الذي عبث به أثناء الثورة الفرنسية، فقد اعتدى المعادون للأديان على التماثيل الدينية فيها وخربوها، حطموا منها الكثير، دمرت بعض الأجزاء والرسومات والمنحوتات، لكنها رممت، واستطاعت استقبال العديد من الاحتفالات الدينية والأحداث التاريخية رغم اختلاف معتقداتهم الدينية، والذين ما زالوا معجبين بعظمتها الفريدة[5].

عاشت الكاتدرائية أحداثا مهمة لا تمحى من ذاكرة التاريخ، فعند مذبحها تزوج ملوك وملكات فرنسا، وفي عام 1804 توج نابليون فيها إمبراطورا بعدما أنقذها من التلف، وبعد تحرير باريس عام 1944 أقيم حفل شكر فيها بقيادة شارل ديغول[6]. وفي عام 1999 أصبحت جزءا من التراث العالمي.

ألهمت الكاتدرائية بجمالها وروعتها الفنية الأدباء والشعراء، إذ جعلها فيكتور هوغو مسرحا لروايته الشهير "أحدب نوتردام"، كما أنها مقصد الزوار والسياح (13 مليونا سنويا)

تلاشي التاريخ

ألهمت الكاتدرائية بجمالها وروعتها الفنية الأدباء والشعراء، إذ جعلها فيكتور هوغو مسرحا لروايته الشهير “أحدب نوتردام”، كما أنها مقصد الزوار والسياح (13 مليونا سنويا).

850 عاما تلاشت بالنيران، لم يبق منها إلا القليل، فما نجا من لوحات وغيرها من النار أتلفته المياه المنسكبة. نجت “نوتردام” من الحروب والقصف، فصارت رمزا وطنيا فرنسيا يحوي تاريخا تراثيا إنسانيا أمسى رمادا تحت ألسنة اللهب.

اليوم لن يسمع الباريسيون أجراس كوازيمودو التي كان يقرعها فتبعث منمنمات موسيقية تلقى صدى في آذانهم يُدخل طمأنينة وسكينة إلى نفوسهم، ولن يبحثوا عن إزميرالدا، ولن يحدق الزوار في الغرغول، سيحدقون في الحجارة الملطخة بالدخان، باللون الأسود الذي اصطبغت الجدران به، إذ بدت باريس مهزومة، مع أمل بإعادة إحياء هذا المكان المعماري الهام ذي الأهمية الدينية والروحانية، ببعده التراثي والإنساني، حتى ينهض مرة أخرى من تحت الركام.

المصادر:

[1] فيكتور هوغو، أحدب نوتردام، ترجمة رمضان لاوند (الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي/ دار العلم للملايين، 2007)، ص 109.

[2] حسين دقيل، “كاتدرائية نوتردام.. والحريق الرهيب”، مدونات الجزيرة، 16/4/2019، شوهد في 18/4/2019، في:

https://bit.ly/2Ikwcgl

[3] “Notre Dame Cathedral Paris”, accessed on 18/4/2019, at: https://bit.ly/2UIaLwi

[4] “Notre-Dame: A history of Paris’s beloved cathedral”, BBC, 16/4/2019, accessed on 18/4/2019, at:

https://bbc.in/2XdER7u

[5] “Notre Dame Cathedral Paris”, accessed on 18/4/2019, at: https://bit.ly/2UIaLwi

[6] “Fire Mauls Beloved Notre-Dame Cathedral in Paris”, The New York Times, accessed on 18/4/2019, at:


إعلان