كناوة المغرب.. موسيقى عُزفت على وجع العبيد

خاص-الوثائقية

تحيل مفردة "كناوة" في المغرب إلى إثنية أو سلالة العبيد السابقين في المغرب والمنحدرين من مملكة غانا

قبل 400 عام، اقتيدوا إلى المغرب مصفّدين بالأغلال، واشتراهم الناس على أرصفة الموانئ وفي الأسواق، فكانت قصة من الضياع والوجع والغربة والحنين.

وفي 2017 بثت الجزيرة الوثائقية فيلما وثائقيا بعنوان “كناوة.. موسيقى العبيد” سلكت فيه دروب شقائهم وتحدثت لأحفادهم عن جراح الماضي، وعن تحول الأنين إلى موسيقى دينية تعمر الزوايا والمراقد وتُعزف في الساحات والطرقات.

كانت مدينة الصويرة الساحلية المحطة الأولى لأجداد العبيد الذين جُلبوا من مالي ومن دول أفريقية أخرى ومن الصويرة ذاتها ينطلق الفيلم بلقطات تعكس الثراء الثقافي والفلكلوري والتنوع العرقي في البلاد.

وتحيل مفردة “كناوة” في المغرب إلى إثنية أو سلالة العبيد السابقين في المغرب والمنحدرين من مملكة غانا التي كانت تضم مالي.

وفي الجانب الفني، تعني “كناوة” لونا معينا من الموسيقى وطريقة روحية يتواجد أتباعها في الصويرة ومراكش وفاس وحتى في العاصمة الرباط.

يرافق الوثائقي الكناويين في زواياهم ويزورهم بمنازلهم المتواضعة ويتيح لهم الفرصة ليسردوا للناس قصة وجودهم على هذه الأرض البعيدة عن جذورهم، وكيف رضوا بقدرهم وتساموا على ضغائن الماضي وحلقت أرواحهم مع الموسيقى المشحونة بالتصوف والأسطورة والدين.

يروي الكناويون أن مجيئهم للمغرب كان في حقبة الملك مولاي إسماعيل، وأنه أمر حينها بترحيل العبيد إلى مكناس والبعض اتجه إلى طنجة وفاس، بينما بقي آخرون في الصويرة، وهي اليوم عاصمة الطريقة الكناوية.

وفي الأسواق التراثية والشواطئ المزدحمة بالسواح والمتنزهين تتواجد الفرق الكناوية بآلاتها وطبولها وأزيائها المزركشة.

 

الزاوية الحمدوشية

من داخل مقر للزاوية الحمدوشية في الصويرة، يحكي أحد رواد فن الكناوة أن “مدينة تومبكتو هي أصل الأغنية الكناوية، فالكلمات والأنغام حاضرة هناك بشدة”.

لقد جاء أجدادهم في قوافل تجارة العبيد بين المغرب ومالي، ويحكون قصصا عن زواج الأسياد آنذاك من الجواري وعن نيل حريتهم فيما بعد.

 تسمى آلة العزف الكناوي “الكمبري” ويستغرق صنعها وقتا طويلا، وإذا ما أتقنها أصحابها يدوي صوتها بعيدا ولا تحتاج لمكبرات الصوت. أما عدد أعضاء الفرقة فيتراوح بين 6 و12.

في الليلة الكناوية، هناك شخص محوري يسمى المقدم، ويُكلف بتلبية طلبات الحاضرين والبخور.

يمثل شهر شعبان موسما مهما لدى هذه الطائفة إذ تقام ليلة كناوية على وقع الموسيقى، بينما يفوح البخور في أرجاء المكان، وتقام طقوس لطرد الشياطين من أجساد المرضى الذين أعيا علاجهم الأطباء.

وفي الزوايا والمناسبات، تنظم حلق كناوية تعزف فيها موسيقى مثقلة بالإجهاد والألم الذي رافق قوافل العبيد على مر التاريخ، لكنها تعكس في ذات الوقت الرضا والتسليم ونقاء الروح والانسجام مع الزمان والمكان.

في القديم كان يمنع حضور السكارى للّيلة الكناوية للتأكيد على عمقها الديني، ولكن مثل هذه القيود لم تعد موجودة في الوقت الراهن.

يروي الكناويون أن مجيئهم للمغرب كان في حقبة الملك مولاي إسماعيل، وأنه أمر حينها بترحيل العبيد إلى مكناس

طقوس تشفي المسكون

“تعاويذ وترانيم الكناوية تشفي المرضى وخصوصا الشخص المسكون، وحتى نحن نشفى عندما نسمع هذه الأنغام”، هكذا عبّر أحد مريدي حلقات الكناوية.

وفي العادة، تنمو الأسطورة والخرافة في الأوساط الدونية والهامشية، إذ يحتمي البسطاء باللامحسوس والغيبي لمواجهة النكد والقهر المعيشي في الواقع.

لكن معلمي الكناوة ومريديها ينفون انشغالهم بالشعوذة والخرافة، ويؤكدون أن كل طقوسهم روحانية وتتمحور حول ذكر الله عز وجل والصلاة على النبي الكريم وتمجيد الأولياء والصالحين.

 وفي حديثها لوثائقي الجزيرة، تقول إحدى رائدات الطريقة “تاكناويت تتحدث عن الأرض والماء وعن خلق الكون وذكر الله والأولياء، وتوضح الكون وتشرحه ولا نستعمل الشعوذة أبدا”.

ومن زاوية الحمدوشي يتحدث الكناويون عن مساهمتهم في شفاء المرضى بالبخور والتعاويذ والموسيقى الهادئة التي تزيل الهم والحزن.

من زاوية الحمدوشي يتحدث الكناويون عن مساهمتهم في شفاء المرضى بالبخور والتعاويذ والموسيقى الهادئة التي تزيل الهم والحزن

الكناوي الحقيقي

ولئن كانت الكناوية ذات لون إثني أسود ونشأت في حضن الرق والغبن، فإنها لم تعد كذلك منذ أمد بعيد حيث اعتنقها وانشغل بها كثير من المغاربة من ذوي البشرة البيضاء.

الشروط اللازمة لتحول المرء إلى كناوي حقيقي “هي النية الصافية والعمل بإخلاص والحياء والخشوع التام”.

ويعرض الوثائقي لقطات من الفعاليات التراثية في الصويرة، ويتحدث لأناس ولدوا وهم يدندنون وسط آلات كناوة بالصويرة وطنجة وفاس.

ويروي أحدهم “امتهنت الموسيقى الكناوية بعدما توفي والدي وتركت المدرسة، أخذني خالي المعلم الكناوي إلى القصر الكبير في مكناس ومنها إلى طنجة ثم فاس”.

ويسرد آخر أن والدته حضرت ليلة كناوية بعد يومين من ولادته فقط، مما يعكس محورية هذا الطقس في حياة الناس وتحملهم المشقة من أجل الحضور.

إلى جانب الزوايا يقيم الكناويون دروس تدريب في منازلهم لتخريج جيل جديد من رواد هذا الفن

بركة الأجداد

وإلى جانب الزوايا يقيم الكناويون دروس تدريب في منازلهم لتخريج جيل جديد من رواد هذا الفن القادم من مدينة تومبوكتو التي كانت توصف قديما بأنها جوهرة الصحراء.

وتروي إحداهن “منزلي مقر تدريب ونذهب أيضا إلى الزاوية، هذه طقوس متوارثة لا يمكننا التخلي عنها”. وتحدث بعض الكناويين عن ألم الماضي بعبارات من قبيل “جابونا وباعونا، الأفارقة كانوا عبيدا”.

ويستعرض وثائقي الجزيرة جهود وزارة الثقافة المغربية في الارتقاء بهذا الفن، من قبيل مهرجان “كناوة” العالمي الذي يقام سنويا في مدينة الصويرة. ويشيد الكناويون بهذا المهرجان كونه أعطى شهرة كبيرة للفنانين، وأتاح لهم فرص للتعاون مع فنانين من دول عديدة بينها فرنسا والبرازيل وكندا والولايات المتحدة.

ويتحسر بعض رواد “كناوة” لأنها امتزجت بالطرب المعاصر ولم يعد لها وقعها الروحي، ويقولون “ينبغي أن نرتقي بموسيقى أجدادنا ونحافظ عليها من المتطفلين”.

بنات كناوة أيضا حضرن في الفيلم وتحدثن عن أمنية الارتقاء بهذا الفن والاستمرار في النهج لتظل بركة الأجداد معنا.

ويختم الوثائقي بلقطات من فعاليات تراثية حيث تزين شاطئ الصويرة لفرسان تسابقوا على وقع الأهازيج ولعلعة البارود.


إعلان