“نورة تحلم”.. المرأة القطة تحتال على المِبرَد

د. أحمد القاسمي

لماذا تسكن تلك القصة القديمة رأسي وأنا أغادر قاعة العرض؟ تقول الحكاية إن قطة كانت تلعق الدم من مبرد بسبب الجوع أو البحث عن لذة خطرة مُشتهاة، فكان المبرد يجرح لسانها ويُسيل دماءَها، وكان طعم دمها السفوح يغريها، فتلعق المزيد ويتشقق لسانها أكثر، فتسيل دماؤه. هل ذاك شأن نورة تلك الزوجة التي تتعرض للإيذاء من زوجها المجرم، ولمّا كانت تعدّ ترتيباتها الأخيرة للحصول على الطلاق والارتباط بصديقها يخرج الزوج من السجن إثر عفو رئاسي مفاجئ، فيفسد خططها وتسير الأحداث إلى مغامرات متسارعة وصراعات بين رَجُليها، وتنتهي بعودة جمال إلى السجن بعد أن يعتدي على الأسعد ويُهين كبرياءه ورجولته، وعودة نورة إلى الحلم من جديد بحياة زوجية آمنة مع حبيب آخر غير الأسعد قد لا تتحقق أبدا؟

أفهم إذن القياس الذي تقوم به ذاكرتي وتفرضه عليّ فرضا، فقد كان البحث عن الدفء العاطفي أو الحلم بحياة أسرية متوازنة يدفعان نورة إلى الغوص أكثر في الجرح، وإلى مزيد من لعق الدماء وإلى التعرض أكثر إلى العنف الزوجي اللفظي منه والمعنوي والمادي.

قطعا أعني فيلم “نورة تحلم” الذي أخرجته هند بوجمعة، ولعب أدواره الرئيسية كل من هند صبري ولطفي العبدلي وحكيم بو مسعودي، وعُرض في القاعات في خريف 2019، وشارك في العديد من المهرجانات وفاز بجوائز مُعتبرة، أهمها الجائزة الكبرى لمهرجان بوردو الدولي للسينما المستقلة، والتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية 2019، فضلا عن جوائز هند صبري عن أدائها المتميز لدور نورة، فكانت نورة تقف في مهبّ الريح، وكانت هند صبري تتقمص دورا يختلف عن جميع أدوارها السابقة، أما هند بوجمعة فكانت تنخرط في موجة جديدة في السينما التونسية، وتتحرر من نرجسية المخرج في سينما المؤلف.

نورة في مهب الريح.. بناء مُناوِر وحبكة مُراوِغة

الفيلم أيُّ فيلمٍ بناءٌ، والحبكة هندسته التي ترتّب أحداثه فتبرز مواقف يريد لها المبدعون أن تظهر، وتضبط مسارب خفية لمواقف أخرى يريدونها أن تظلّ ضامرة حتى يوجهوا المتفرّج إليها، ويقودوه بسبّابة سرية لتبنيها من حيث لا يعلم.

وفي المعجم يرتبط الحبك بالمناورة والحيل اللطيفة والملاعبة، وفي السينما لا تكون الفرجة ممتعة ما لم يورطنا المخرج في لعبه فنشعر أننا معنيون بأشد مناوراته حنكة، بداية ووسطا ونهاية. و”نورة تحلم” بناء مناور مراوغ بحبكته.

نورة شاردة الذهن في إحدى لقطات تصوير الفيلم في إحدى المعامل

 

مسار الحلم الكابوس.. السخرية من الواقع

يبدأ الفيلم بنورة تجري مكالمة عاطفية في محلّ العمل ثم تلتقي الأسعد، لنعلم أنّها تعمل على الطلاق من زوجها السجين للارتباط بحبيبها، وأنها تتطلّع لحياة هادئة بسيطة، لكنّ ظهور الزوج المفاجئ يُفسد خططها، وتنتهي مشاهده بالمرأة نفسها وهي تجري مكالمة عاطفية، ونفهم أنها تنخرط في علاقة جديدة، وأنها لا تزال تُطارد حلمها المستحيل بحب غامر وحياة مستقرّة. فيختزل الحدثان حياة نورة المجبولة على الشقاء، فزواجها كان نتيجة لعشق مُتهوّر جعلها الكافلة الوحيدة لأطفالها الثلاثة، ولوالدهم القابع غالبا في السجن، وردّة فعلها كانت أكثر تهورا.

وها هي تُطلَّق وها طليقها يعود مرة أخرى إلى السجن، وبين البداية والنهاية تحشر المخرجة العديد من التفاصيل الواقعية، فتُخرج المرأة من ثيمة العزلة، تلك الزاوية حشرتها فيها السينما التونسية، فلا تسجنها في الدهاليز السفلية لينهكها العمل المضني ويستعبدها الأسياد قهرا واغتصابا، ولا تعزلها في جزيرة بعيدة ومنازل متروكة وغرف مغلقة كما تفعل كاميرا مفيدة التلاتلي في فيلمَي “صمت القصور” و”موسم الرجال”، ولا تحاصرها في كهف وتقطع صلتها بالعالم الخارجي كما في “دواحة” رجاء العماري، وإنما تجعلها تخوض في لجّ الحياة وتصطدم بمصاعبها اليومية.

على هذا النحو نكتشف أنّ في العنوان مفارقة تسخر من الواقع في ألم، فاستلاب نورة صوّر لها الكابوس حلما، وشغلها عن إدراك حقيقتها، فهي على مشارف هاوية أعمق كما تقول لنا النهاية، ويخبرنا قانون السرد السينمائي.

نورة وعشيقها الأسعد خلال حديثهما عن حياتهما بعد خروجه من السجن

 

الكاميرا والمونتاج.. لسان دفاع نورة الفصيح

من هذه التفاصيل الكثيرة التي تتوسط بداية الفيلم ونهايته صعوباتُ نورة في إيجاد سكن يؤويها، والعراقيل التي تواجهها في تربية أبنائها وفي تدبر معاشهم، ومنها فشلها في تنفيذ خطة الخلاص من زوج هو الكابوس الجاثم على القلب، أقرب منه إلى الحبيب أو الشريك.

تنزل هذه الأحداث جميعا في وسط اجتماعي متدهور، إذ الكاميرا تتابع يوميات نورة وترصد البيئة التي تعيش فيها، فشريكتها في العمل يُسرى تسرق الأغطية لبيعها، والشرطة التي يُفترض أن تسهر على الأمن وتنفيذ القوانين تتواطأ مع المجرمين وتستخدمهم، وتمنحهم بالمقابل أمنا تسلبه من المواطن. لكنّ أخطر هذه التفاصيل تلك العلاقة الآثمة التي تجمعها بالأسعد، فمنها كان نسيج الأحداث يغوص في التفاصيل ويجعلها عينة من معاناة النساء اللواتي يفرض عليهن العيش في عالم الجريمة، ويغوص في قاع المجتمع ويعرض وجوها من تدهوره.

ولم تكن الكاميرا وحدها تصنع الحكاية وتحدد دلالاتها، فقد كان هذا النسيج يعمل باستمرار على تفهم أسباب ارتكاب نورة للمحظور عبر المونتاج، فيلحّ في عرض ظروفها الخاصة التي تدفعها إلى الهاوية، ويبحث لها عن تخفيف الحكم الذي سيصدره المتفرّج، ويرسم أكثر الحبكات مهارة ليمحو من ذهنه صورة المرأة الخائنة، ليُكرّس صورة نورة ضحية العنف المستديم، ويجعلها مستسلمة لا تملك إزاء قدرها إلاّ أن تخضع.

 

الجبلّة المتأصلة.. لا سبيل إلى الخلاص

يعرض الفيلم أكثر من حادثة ليبرز أن عنف زوج نورة حوّلها إلى آلة تفتقد للإرادة والقرار، فلحماقة بسيطة من حماقات الأطفال المعهودة يغضب جمال ويزمجر ويسلط عنفه على الجميع ويأمرهم بالخروج من المنزل، فيستجيبون آليا ويظلون أمام الباب عُرضة للبرد والصقيع، أو يدعو زوجته إلى أكل لا تريده، فلا تملك إلا أن تـأكل على كره، ولا يجعل الفيلم الأسعد شريكا في الإثم، بقدر ما يصوره مثالا للعاشق الوفي، أو نافذة المرأة للحلم بتعويض كل الكبوات في حياتها المتعثرة.

وبالمقابل لم يكن هذا النسيج ينصت لجمال أو يلتفت إلى أسباب ارتكابه لسرقاته، أو يبحث له عن مبررات بقدر ما كان يحرص على تصوير إجرامه جبلّة متأصلة فيه لا سبيل للخلاص منها، فكل ما يأتي من الأحداث في الفيلم يُختزل في العنف والسرقة وتجارة المخدرات، لذلك يتصل برفاقه القدامى حالما يخرج من السجن، ليستأنف رحلته في عالم الإجرام، وحين يطلب من نورة أن تمكنه من فرصة للتوبة ليبدأ حياة جديدة يكون فيها الزوج الحامي لزوجته الساهر على تربية أبنائه لا ينال شيئا غير الصدّ، فالمرأة قد خَبِرَته، وقد علمتها التجارب أن الجريمة طبع متأصل فيه، ولا أمل في صلاحه.

هكذا يتعاطف تركيب الأحداث مع نورة، ويكون ثنائي الكاميرا والمونتاج لسان دفاعها لدى المتفرّج ولدى المجتمع بالنهاية، فهُما وإن كانا لا يتفهمان نورة ولا يبرران حياتها بكل تأكيد، فإنهما يحاولان أن ينصتا بصبر تفتقده السينما الرجالية.

هند صبري تفوز بجائزة أفضل أداء في أيام قرطاج السينمائية عن دور نورة

 

هند صبري.. خارج الصورة النمطية

لا مناص للناقد المتمرس من الإقرار بأن الفيلم يحوز مقومات النجاح في أغلب مستوياته، وأن السيناريو مترابط يشتمل على حكاية منسوجة بإتقان، لكن لا مناص له أيضا من الإقرار بأن العمل مدين بالدرجة الأولى في نجاحه إلى ممثلته الرئيسية، فأداء هند صبري لشخصية نورة منح الفيلم قيمته الفنية المُضافة.

ومتابع أخبار تنفيذه أو العارف بكواليس تصويره يتناهى إليه بلا شك الجهد الكبير الذي بذلته الممثلة لتقمص الشخصية ولإكسابها مقومات الانسجام، من ذلك اتصالها بالمرأة التي اقتبست هند بوجمعة قصتها إلى الشاشة الكبيرة، ودراستها لشخصيتها وحرصها على الاطلاع على أدق تفاصيل حياتها. وبالقدر نفسه يكتشف المتفرّج ثمرة هذا الجهد عند مشاهدته للفيلم على الشاشة، فهند صبري تنتزعه من مقعده الثابت في قاعة العرض، وتأخذه في رحلة الغوص في قاع المجتمع التونسي، ليكتشف نمطا آخر من حياة يجهلها أو يتجاهلها.

فقد وُفِّقت الفنانة هند صبري في تجسيد دور مركب يجمع بين المرأة الفظة الآثمة المتمردة على نواميس المجتمع من ناحية، والضعيفة المستسلمة للسياق الاجتماعي بسبب الأبناء وإكراهات المجتمع من ناحية ثانية. فتطوعت نبرات صوتها وطريقة نطقها وإيقاع جسدها وتعبيرات ملامحها، وكانت تعمل باستمرار على أن تلغي من جسدِها كيانَها وهويتها الحقيقية، نقصد هوية هند صبري المرأة الحقيقية والممثلة والمنتجة والمثقفة، وكانت تزرع فيه كيانا آخر مختلفا تماما، فتسكنه كيان نورة (أو سنية في القصة الحقيقية) التي تتمرد فتواجه قدرها، وما قدرها غير حياة فظة وعنف وقهر ونبذ من المجتمع.

سر نجاح هند صبري يعود إلى سعيها في ترجمة سيكولوجيا المرأة المعنفة

 

لغة النبرة والقسمات.. احترافية الأداء

لعل سر نجاح هند صبري يعود إلى سعيها في ترجمة سيكولوجيا المرأة المعنفة -كما تخبرنا به الدراسات الميدانية إيمائيا- ترجمة وفية، فقد أبرزت على المستوى الاجتماعي عدم قدرة نورة على التعايش مع الآخرين، وجسّدتها عاجزة عن التواصل مع الجيران أو رفاق العمل، وجعلتها على المستوى النفسي أقرب إلى الاكتئاب، فهي تعيش حالة من انسحاق المحبة وانكسار القلب فاقدة لاحترامها لذاتها، وهي تعرّض نفسها للامتهان بتساهل أو تراخ.

وكانت الممثلة تكيّف إيقاع جسدها بما يتماشى مع هذه الهوية الخاصة التي تسكنها، فتجعل نبراتها متفاوتة بين ارتفاع مفاجئ للصوت يبرز المزاج الحاد والمتقلب، وانخفاض يُكرّس الخضوع للزوج المعنف بغاية إرضائه وتفادي عنفه.

وكانت تضفي على حركتها الإيماءة السريعة التي تنطلق من داخل الذات وتندفع إلى الخارج، في مبالغة تصدر لا إراديّا، وكانت تكيّف تقاسيم وجهها لتُكسبها الملمح الحاد في شدّة وانقباض، لتجعله مرآة ينطبع على صفحتها الشقاء النفسي، وإجمالا فقد جعلت هند صبري من حضورها الجسدي صدى لحركة روح نورة الباطنة المتشنجة المفتقدة للهدوء والاتزان والشعور بالأمان.

نورة مع عشيقها الأسعد في لحظة سعادة جمعتهما

 

المرأة الضحية.. أفضل أداء في المهرجانات العربية

من الأسباب التي أدت إلى صعوبة أداء دور البطلة في فيلم “نورة تحلم” وجوه أخرى ناشئة عن سياقات الفرجة، فالمُشاهد لا يتقبل الدور الذي يؤديه الممثل النجم إلا وهو يستدعي أفكارا مسبقة ناشئة عن معرفته بأدواره التي أداها سابقا، لذلك كثيرا ما يلجأ المخرجون إلى وجوه لم تستهلك بعد لتجسيد الأدوار الجديدة أو المستعصية.

أما هند صبري فتفاجئ جمهورها بدور مختلف كليا عن أدوارها المعهودة، وكان عليها لتقنعه وتجعله ينغمس في الدور انغماسا متدبرا؛ أن تنتزع من ذهنه هذه الصورة المسبقة، فلا يرى فيها المرأة الرقيقة رقة بادية تفيض أنوثة، كما في دور علياء في “صمت القصور” للمخرجة مفيدة التلاتلي، أو جميلة في فيلم “مذكرات مراهقة” للمخرجة إيناس الدغيري، ولا يرى فيها المرأة الشعبية القوية كما في دور حورية في فيلم “إبراهيم الأبيض” للمخرج مروان حامد، أو حياة في “مواطن ومخبر وحرامي” للمخرج داود عبد السيد، ولا يجد فيها امرأة تناضل من أجل العائلة كما في دور كريمة في “الجزيرة” للمخرج شريف عرفة، أو دور الأم  سلمى من “زهرة حلب” للمخرج رضا الباهي.

وكان عليها أن تجعله يفتح عينيه على صورة المرأة الضحية التي تنتهك إنسانيتها خلف صورة المرأة الآثمة، وكانت تدعوه إلى أن يدرك وجوها من العنف المُسلَّط عليها قبل الإسراع إلى إدانتها آليا، كما يحدث غالبا في المجتمعات الذكورية. ولا شك أن رفعها لهذا التحدي بنجاح مبرر لتتويجها بجائزة أفضل أداء في أيام قرطاج السينمائية بعد جائزتها عن الدور نفسه في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي بمصر، التي أقيمت في شهر سبتمبر/أيلول الماضي.

نورة وهي تفكر في صورة المرأة الضحية التي تنتهك إنسانيتها خلف صورة المرأة الآثمة

 

السينما التونسية.. من سينما المؤلف إلى الواقعية الفجة

كثيرا ما شعر المتفرّج التونسي عند متابعته لطائفة معتبرة من الأفلام التونسية بالغربة، وذلك لإمعان المخرجين في رصدهم لعوالمهم الخاصة ولأحلامهم وهلوساتهم، ولاختزالهم لبلاغة السينما في العوالم الذاتية، إلى درجة التغاضي عن كل الهموم الجماعيّة، بدل البحث عن الأساليب المبتكرة لطرح قضايا المواطن اليومية.

وعلى خلاف هذا النهج النرجسي المُحرِّف لجوهر سينما المؤلف، اتجهت كاميرا هند بوجمعة إلى الواقع وإلى الحياة الفعلية، واختارت اقتباس قصة حقيقية لسيدة تُدعى “سنية”، وسعت إلى التقيد بخطوطها الكبرى، وحولتها في الفيلم إلى نورة الباحثة –عبثا- عن توازن مستحيل، وصوّرت عائلتها مفككة، حيث يفتقد أطفالها للتهذيب الضروري وللرعاية الأبوية، وبديهي أن يُفضي الإهمال إلى فشلهم الدراسي أولا، وأن يُحوّلهم إلى مشاريع منحرفين جدد لاحقا، في وسط تَحلُّ فيه السرقة والكسب السهل محل العمل والاجتهاد، ويحلم الشباب بالهجرة السرية بدل السعي إلى مواجهة الواقع وتحدي الصعاب، ويتورط جهاز الأمن في هذا الواقع المتدهور فيقود العصابات، ويقتسم معهم الغنائم ويتلاعب بالتحقيقات، ويُكيّف التهم حسب مصالحه، ويُعلن بكل صلف أنه هو الدولة، ويكون الحصن الحامي للجريمة المنظمة، فيعقد رجاله التفاهمات الجانبية مع المنحرفين، وبمقتضاها يعتدي جمال على العشيق ويهين كبرياءه ورجولته، فكان الواقع فظّا صادما يُمعن في تصوير انحرافات المجتمع وفي محاكاة بذاءته.

تحشر هذه الخصائصُ الفيلمَ ضمن موجة السينما الواقعية، وتجعلها فجّة صادمة جريئة مباشرة فاضحة للمجتمع المرائي ولسُلَّم قِيَمه المنافق. وهي موجة قديمة متجدّدة بدأت مظاهرها تتكرّس في السينما التونسية خاصة بعد الثورة، مستفيدة من هامش الحرية الكبير، فتعلن تغيير بوصلتها من الذاتية الموجهة إلى إرضاء نرجسية المبدع إلى غيرية تعمل على طرح مشاكل الآخر. لكن هذا التغيير لا يتحقّق بمرونة، وبقدر ما يستجيب إلى تطلعات قطاع هام من الجمهور والنقاد، يثير احترازات أخرى على صلة بالشكل وبالمضمون في الوقت نفسه.

نورة تمشي مع أطفالها في إحدى الشوارع التونسية

 

مكالمة عاطفية.. المبتدأ والمنتهى

بعيدا عن التأريخ لجماليات السينما ونظرياتها، نذكر ببساطة أنّ الواقعية في السينما العربية مدارس واتجاهات، فمنها الواقعية الاشتراكية التي تجعل البطل إشكاليا يعمل على تخليص مجتمعه من التدهور، ومنها الواقعية الجديدة المُستمدة من السينما الإيطالية، والتي تجمع بين تخييل الواقع وتوثيقه في آن واحد.

وعلى اختلاف اتجاهاتها كان البطل في كل أفلامها يقاوم تدهوره وتدهور مجتمعه، تمجيدا لقيمة الإنسان وتأكيدا لحقه في الحياة الحرّة الشريفة الآمنة، فينتفض ضدّ كل مظاهر القهر والتسلط والابتزاز والتخلف والإجرام المنظّم، وامتهان حريّة الإنسان وكرامته.

أما هند بوجمعة فتجعل الفيلم يبدأ بالمكالمة العاطفية الحالمة حلما زائفا وينتهي بها، فيجسد الدائرة المفرغة التي تدور فيها نورة، وهذا ما يجعلها مستسلمة للوسط الاجتماعي وخاضعة له دون مقاومة، ويجعل مسارها في الفيلم مسار تدمير ذاتي، بداية من فقدان تعاطف الجمعيات المدنية التي تساعدها على نفقات السكن، إلى تفكك عائلتها وضياع الأطفال.

نورة مع أطفالها في حالة ضياع وتشرّد في إحدى الشوارع

 

القطة والمبرد.. سينما على إيقاع تلفزيون الواقع

إن واقعيتها صادمة جريئة، لكنها واقعية يائسة مُحبطة تكتفي بأن تدين ما هو مُدان، وتفضح عن ما هو مكشوف للجمهور، فما من مجرم أو مخترق للمحظور إلا وهو “مجرم رغم أنفه”. هكذا تقول أقصوصة علي الدوعاجي، وتخبرنا بذلك نظريات في الاجتماع وأطروحات في الفلسفة.

وبدل أن تأخذنا إلى المعالجة المبتكرة لقضايا المجتمع هذه، وبدل أن يفسّر السرد الفيلمي الظواهر ويحلّل أبعادها الاجتماعية؛ يظلّ أقرب إلى برامج تلفزيون الواقع التي تجذب الجمهور بهتك الأسرار والالتصاق بالحضيض، بحجة أنّ ما يُعرض هو جزء من حياتنا، وأن جمال الحقيقة أن تعرض عارية. والحال أن السينما وجهة نظر وموقف يفعل في الواقع، ولا يكتفي بالشهادة عليه بسلبية، فجماليا تخفي فجاجة الواقع في “نورة تحلم” حنينا إلى الواقعية النقدية التي ظهرت في أدب القرن التاسع عشر، فاكتفت بعرض تدهور الواقع بإهمال وسلبية، ثم ما لبثت أن فقدت بريقها لسلبيتها هذه.

ها قصة القطة والمبرد تعود لتستوطن رأسي من جديد وأنا أنتهي من تحبير هذه الورقة، وها أسباب تسللها إلى ذهني تبدو واضحة هذه المرة، فأن تلعق القطة المبرد فهذا حدث عادي، وأن يجرح لسانها نتيجة لذلك وأن تسيل دماؤها بغزارة فتلك الصورة الفجة فيها إدانة للجزّار الذي ترك المبرد بإهمال أولا، واستعارة صادمة قد تجعلنا نتحسس الألم في ألسنتنا ونعي بشقائنا الإنساني.

لكن القصة لا تكتسب طاقتها الإيحائية ولا ترتقي إلى مرتبة وجهة النظر المضمرة المميزة للأعمال الفنية الكبيرة، إلا حين تبتكر القطة الحيلة اللطيفة للعق الدم دون أن تضير بلسانها، وحين يبتكر من يسرد خبرها الصيغة المتفردة في عرضها دون أن يُشعر المتفرّج بأنه يمارس عليه أستاذية بائسة أو يلقنه درسا.


إعلان