الأيزيديون.. تذوب الثلوج ولكن الجبال تبقى

يسير السياسي البريطاني الشهير مارك سايكس قرب جبل سنجار أثناء ترحاله في المنطقة متعجبا مما رآه؛ ناس يلبسون ثيابا تُشعره أنه يعود بالزمن إلى أربعة آلاف عام[1].

هؤلاء هم الأيزيدون الذين ظلوا مهملين حتى تبوؤوا الأحداث منذ سنوات قليلة بعد التنكيل الذي شهدوه من تنظيم الدولة الإسلامية، فساد الحديث عن هؤلاء المنسيين منذ قرون عديدة في جبال مهملة بعيدة، على الرغم من أنهم شعب عريق تمتد جذوره لآلاف السنين، إذ إن معتقداتهم وحياتهم توحي بذلك، لكن حضورهم تقلص حتى صار مغمورا خفيا، يرتاب من الآخرين ويرتابون منه، فصار تراثهم ينقل شفاها خوفا من إظهاره بسبب النزاعات والمذابح التي تعرضوا لها.

الأيزيديون والنسبة إلى يزيد

لا بد من التفريق بين الأيزيدية واليزيدية، فاليزيدية في اللغة نسبة إلى اسم يزيد أيا كان، وفي حالة الأيزيديين يُسميهم البعض يزيديين نسبة إلى يزيد بن معاوية، فكيف يتسق ذلك والتاريخ لم يسجل أن يزيد أسس فرقة دينية؟ لكن هذا الخلط نشأ من الشخصية الجدلية عدي بن مسافر (467 – 540ه) ذي الأصول الأمَوية، والذي يعد مجدد الديانة الأيزيدية، فقد أدخل إليها تغييرات جديدة تتضمن أركانا من الديانات السماوية ضمن الجسد الأساسي للديانة المستمدة من البابلية، كما أضحى معبده في لالش (تعني العلا) الذي يعد أقدم مكان للأيزيديين مكانا مقدسا يزوره الحجاج، إذ يُفرض على كل أيزيدي أن يحج إليه كل عام على أقل تقدير لأداء المراسم الدينية والعادات والطقوس.

ويعد بعض الباحثين عدي بن مسافر مؤسس ظاهرة الأيزيدية، لكن ذلك لا ينسجم مع الحقيقة كونهم موجودين قبله، وهو أضاف عوامل تشديدية زادتهم انغلاقا وأصبحت عرفا دينيا تماشيا مع كونها ديانة غير تبشيرية[2].

يبدأ تاريخ الأيزيديين مع معبد أيزيدا المخصص لعبادة الإله نابو في المدينة البابلية القديمة بورسيبا، فهو يمثل روحانياتهم ومجتمعهم ومعتقداتهم ودار التعليم لهم، على اعتبار أنهم مجتمع مصغر فيه الاقتصاد والسياسة لتنظيم الأمور، والقوانين والأعراف التي تضبط المجتمع.

أيزيدا.. التشكيل الأول

تتألف الكلمة من ثلاثة مقاطع “أي، زي، دا” (e – zi – da)، وتعني “أي” ظرف مكان بمعنى جانب أو عند أو خلف أو على، و”زي” بمعنى إله أو قدوس، أما “دا” فبمعنى مع. فيصبح المعنى “جانب الإله” أو “مع الإله” أو “مع عقيدة الإله”.. وهذا المعنى يوحي بأن هناك جماعة تندمج مع بعضها لتكون خلف الإله في عبادته، وتتحد لتشكل جماعة المؤمنين بهذا الإله فيكون معنى اسمهم “الإلهيون” أو “القدوسيون” أي عبدة الإله أو عبدة القدوس[3].

وبما أن هذا المعبد هو للإله نابو فيمكن إطلاق لفظ الأيزيديين على الذين كانوا يتجمعون في معبد أيزيدا ويقومون بطقوس عبادة نابو الذي تطور إلى “طاوسملك” (وهو معادل مردوخ البابلي، ويعني في الآرامية الملك طاووس أو الملاك الطير، وهو ما ينطبق على تمثال طاوسملك المعروف) لاحقا كعادة الديانات المشتقة التي تحاول الاستقلال عن المنبع الأساسي، لكن الجوهر يبقى كما هو ويحافظ على الأساسيات.

التصقت عبادة الشيطان بالأيزيديين، لذا يتخوف الآخرون منهم، خاصة وأنهم سريون لا يمكن إدراك تلك الحقيقة عنهم

موحدون أم عبدة شياطين؟

التصقت عبادة الشيطان بالأيزيديين، لذا يتخوف الآخرون منهم، خاصة وأنهم سريون لا يمكن إدراك تلك الحقيقة عنهم. لكن يدحض كثير منهم هذه الفكرة ويرونها فرية ألقيت عليهم، واعتقادا خاطئا لا يتناسب مع معتقداتهم[4]، ولا سيما أنهم يعدون أنفسهم موحّدين ولديهم كتابان مقدسان هما كتاب “الجلوة” و”رش” (الكتاب الأسود)، ويصلون خمس مرات في اليوم، ويصومون أكثر من مرة في السنة[5].

واستقاء من العناصر القديمة يقدسون الحية التي يجدونها أفضل حارس للمعابد، إذ يوجد نحت حية على مدخل معبد عدي بن مسافر في لالش، كما أن التعمد بالماء من طقوسهم الأساسية.

يمتلك الأيزيديون أيضا العديد من المعتقدات التي لا توجد في الأديان الإبراهيمية، فهم لا يرتدون اللون الأزرق، ويقال إنهم لا يتناولون الأسماك والخس والقرع. ولكن يقال إن هذه القواعد الصارمة لا يتبعها إلا الكهنة[6].

الفكر الأيزيدي امتداد للحضارتين السومرية والبابلية، فدعاؤهم عند شروق الشمس (التي تُعد قِبلتهم) واتجاههم نحوها وحركاتهم الإيمانية والإشارات والطقوس التي يؤدونها تتقارب مع الطقوس والممارسات السومرية والبابلية، كما أن أسماءهم تتشابه مع الأسماء في الحضارتين[7]، ولباسهم التقليدي مستوحى منهما. ويتشاركون مع البابليين بطقس أكيتو، إذ يضع الله مقدرات الأرض بين يدي طاوسملك (معادل مردوخ البابلي) الذي يعني في الآرامية الملك طاووس أو الملاك الطير، وهو ما ينطبق على تمثال طاوسملك المعروف.

ويتضمن معتقدهم الديني تحريم الزواج في شهر أبريل/نيسان لأن الآلهة تتزوج فيه، ويوم الأربعاء مقدس لديهم وهو يوم العطلة الأسبوعية ويرمز له بكوكب عطارد، والذي هو رمز الإله نابو البابلي ويومه الأربعاء، وفي أول أربعاء من نيسان/أبريل يحتفلون برأس السنة، ويسمونه الأربعاء الأحمر لأنه في مثل هذا اليوم ضخ الرب الدم في جسم آدم فاكتمل اللحم عليه وجرى الدم في جسده، وبعثت الحياة على كوكب الأرض[8].

يتضمن معتقدهم الديني تحريم الزواج في شهر أبريل/نيسان لأن الآلهة تتزوج فيه

سنجار.. مدينة إله القمر

يقدر عدد الأيزيديين في العالم بنحو مليون ونصف المليون يعيش ثلثهم في العراق في “سنجار”، والتي تعني مدينة الإله سِن، وبلغتهم شِنكار من سِن كار، وكار: مدينة أي مدينة سِن إله القمر.

وللإيزيديين امتداد في شمال شرق سوريا، وينتشر آخرون في تركيا وروسيا وجورجيا وأرمينيا[9]. وينقسمون لثلاث طبقات هي البير والشيخ والمريد، وتتشابه التراتبية الدينية -التي تتضمن الشيوخ والأبيار والقوّالون والفقراء- مع التراتبية البابلية.

وتعزيزا للأخوة والرابطة القوية التي تربط هذه القومية يُفرض على كل أيزيدي أن يسمي أحد الأفراد الأيزيديين من طبقتي الشيخ والبير -حصرا- أخا له، لأن الديانة الأيزيدية تؤمن بتناسخ الأرواح وبالآخرة[10].

ويتفرع الأيزيديون إلى مجموعة من العشائر منها: بكران، بردحلي، بلسين، خالتي، وغيرها. كما أنهم يعتزّون بصلة الدم فلا يتزوجون إلا من قوميتهم.

تعايش الأيزيديون مع النكبات والمذابح التي يقولون إن عددها وصل إلى 72، لكنهم رغم ما عانوه يعتقدون أنهم باقون لأنهم في هذه الأرض منذ آلاف السنين، فكما يقولون في أمثالهم “الثلوج تذوب ولكن الجبال تبقى”.

 

المصادر:

[1] محمد التونجي، اليزيديون: واقعهم، تاريخهم، معتقداتهم، ص 100.

[2] أمين فرحان جيجو، القومية الأيزيدية: جذورها – مقوماتها – معاناتها (بغداد 2010)، ص 142.

[3] جيجو، ص 93-94.

[4] “Iraq’s Yazidis: Caught in the crossfire”, Aljazeera English, 2/7/2014, accessed on 20/4/2019, at: https://bit.ly/2Gmxm7l

[5] “الإيزيديون.. طائفة منزوية تخشى الغرباء”، الجزيرة، 22/12/2014، شوهد في 20/4/2019، في: https://bit.ly/2GsgoEV

[6] “The Yazidis, a People Who Fled”, The Atlantic, 13/8/2014, accessed on 20/4/2019, at: https://bit.ly/2Gz2fqM

[7] جيجو، ص 21-22.

[8] “ما هو “الأربعاء الأحمر” الذي يحتفل به الإيزيديون؟”، بي بي سي عربي، 18/4/2018، شوهد في 20/4/2019، في: https://bbc.in/2PjCFbQ

[9] “من هم الأيزيديون؟ وماذا حدث لهم في العراق؟”، الجزيرة مباشر، 6/10/2018، شوهد في 20/4/2019، في: https://bit.ly/2ZmSZNJ

[10] جيجو، ص 50.