الثقب الأسود.. كيف صوّره العلماء رغم أنه أسود؟

هاني الضليع

في العاشر من شهر أبريل/نيسان الجاري نجح فريق من علماء الكونيات في التقاط أول صورة حقيقية لثقب أسود يسكن قلب مجرة (M87)

أخيرا تمكن الضوء من الهرب من قبضة الثقب الأسود، وانتصر أينشتاين الملهم رياضيا للمرة الثانية في أقل من سنتين، مرة حين التقطت الموجاتُ الجاذبية، والثانية حين تم تصوير الثقب الأسود. فكيف حدث ذلك؟

في عام 1916 وضع ألبرت آينشتاين نظريته النسبية العامة التي تحدث فيها عن الجاذبية ودورها في تحديب “الزمكان” وتشويهه، ثم تنبأ بالنجوم الكبيرة التي تموت فتتكدس مادتها ليولد منها الثقب الأسود الذي لا يسمح حتى للضوء بالهرب منه.

وذكر ذلك النطاق المحيط بهذه الثقوب، وهو آخر حد لصوت استنجاد المادة الساقطة قبل اختفاء صوتها ونورها إلى الأبد، إنه أفق الحدث (إيفنت هورايزون)، وتيمنا باسمه كان اسم مجموعة المراصد الراديوية التي التقطت صورة ربما تعد أغرب وأعجب صورة في تاريخ الكون.

ففي العاشر من شهر أبريل/نيسان الجاري نجح فريق من علماء الكونيات في التقاط أول صورة حقيقية لثقب أسود يسكن قلب مجرة (M87) الواقعة في عنقود عملاق من المجرات في برج العذراء. فالثقب الأسود هو اللغز الذي لطالما كان أمر تصويره من المستحيلات لأنه أسود اللون ولا يشع بأي نور.

ثمانية تلسكوبات راديوية اصطفت على سطح الكرة الأرضية على شكل حرف (T) عملت على جعل كامل الكرة الأرضية صحنا واحدا لاقطا للموجات الراديوية القادمة من الفضاء وبالتحديد من لدن تلك المجرة، وبالأخص من مركزها.

لماذا مركزها بالذات؟ في الحقيقة ليست هي الوحيدة، بل معظم مجرات الكون -إن لم يكن كلها- تقطنها ثقوب سوداء عملاقة تفوق كتلة الواحدة منها كتلة الشمس ببضع مليارات من المرات، لكن أحجامها لا تتعدى عادة حجم المجموعة الشمسية، وبهذا فهي ضئيلة جدا مقارنة بحجم المجرة التي تؤويها.

وليس هذا فحسب، بل إنها مغمورة كذلك في وسط كثيف من الغازات والأغبرة التي تحجبها عن المراصد والتلسكوبات بشتى أنواعها البصرية والراديوية وتلسكوبات أشعة جاما وأشعة إكس والأشعة تحت الحمراء.  وبالرغم من ذلك تم تصوير الثقب الأسود بنجاح. فما هو الثقب الأسود وكيف التقط العلماء الضوء منه؟

الثقوب السوداء وانفجارات النجوم

إذا نظرنا إلى السماء فإننا نرى النجوم بألوان مختلفة، فمنها الأحمر والأزرق والأبيض والأصفر والبرتقالي. وما هذه الألوان إلا دلالات على درجات حرارة سطوح هذه النجوم، فالنجوم الحمراء هي الأقل حرارة بنحو 3000 درجة، والصفراء أوسطها بنحو 6000 درجة، والزرقاء أشدها بحرارة تزيد على 20000 درجة.

والنجوم كرات عظيمة جدا من غازات ملتهبة تدعى البلازما (الحالة الرابعة للمادة بعد الصلبة والسائلة والغازية)، تتجمع على شكل كرات بسبب الكتلة الكبيرة لغازاتها وبالتالي جاذبيتها العظيمة التي تحافظ على النجم ألا يتفرق إلى أشلاء، بل يعيش كتلة واحدة يحرق وقوده الهيدروجيني لبضعة ملايين أو مليارات من السنين، وربما زاد على ذلك فعاش مئات المليارات من السنين بحسب كتلته ونهمه للتخلص من وقوده.

فالنجم العملاق الأزرق (وكل النجوم الزُرق عملاقة) لا يعيش في العادة سوى بضع عشرات من ملايين السنين مقارنة بالنجوم الصفراء أو البيضاء التي تعيش بضعة مليارات منها، وعمر شمسنا هو قرابة عشرة مليارات سنة منذ أن ولدت وإلى أن تموت. وأما النجوم الحمراء والقزمة فتحرق وقودها ببطء شديد مما يعطيها فرصة لأن تعمّر عشرات بل ومئات مليارات السنين. وسواء طال بحياتها الأمد أم قصر، فإنها في النهاية لا بد أن تموت، فكيف يحدث ذلك؟

حياة النجوم

تتكون النجوم أساسا من غاز الهيدروجين بنسبة 75%، وغاز الهيليوم بنسبة 25%. وبسبب ارتفاع درجة حرارة بواطنها إلى ما يزيد على أربعة ملايين درجة (درجة حرارة باطن الشمس تبلغ 15 مليون درجة)، فإن تلك الحرارة كفيلة بأن تدمج أنوية ذرات الهيدروجين وتحولها إلى أنوية ذراة هيليوم، وتطلق أثناء ذلك التحويل طاقات كبيرة جدا من الحرارة والضوء والإشعاعات المختلفة بمقدار 0.7% من كامل الكتلة التي تدمجها كل ثانية.

فشمسنا على سبيل المثال تحول من كتلتها في كل ثانية ما مقداره ستة ملايين طن إلى طاقة خالصة، ومع ذلك نراها عاشت قرابة 4,6 مليارات سنة، ومن المتوقع أن تظل على هذا المنوال من استهلاكها لوقودها لفترة أخرى تزيد على خمسة مليارات سنة من الآن. وسبب ذلك العمر الطويل هو الكتلة الكبيرة للشمس التي تفوق كتلة الأرض بثلث مليون مرة (333 ألف مرة) وحرقها المعتدل لوقودها من الهيدروجين.

وبالرغم من ذلك فإن شمسنا تُعد من النجوم القزمة في المجرة، وموتها بعد حياتها لن يخلف سوى ما يعرف بالقزم الأبيض، بل إن الشمس حين تموت لن تعاني انفجارا يُدوّي في الأرجاء، ولن تتمزق مادتها، بل إنها ببساطة ستخلع رداءها في السماء إلى غازات زاهية الألوان متشققة الأركان رقيقة الهلام لا تحجب النجوم بل تكدرها، لتكشف لنا عن جرم سماوي باقٍ في مكانه هو قزم أبيض، نجم صغير يسطع في السماء المعتمة كما يسطع كوكب الزهرة الذي يُرى عادة مجاورا للقمر الهلال، وهذا الذي ربما عبر عنه البعض بمفهوم التكوير الذي ورد في القرآن الكريم (إذا الشمس كورت).

أما إذا كان النجم قبل استنفاد وقوده الهيدروجيني أكبر مرة ونصف المرة من كتلة الشمس فإنه ينفجر انفجارا مدويا يستعر فيه الضوء فتتناثر أشلاؤه في الفضاء، مخلفا وراءه نجما نيوترونيا أو نجما نابضا بسبب دورانه السريع حول نفسه. فهو نجم ذو كثافة عالية جدا يطلق من أقطابه نبضات كهرومغناطيسية تطرق أسماع تلسكوباتنا الراديوية إن كانت في نفس اتجاهنا، ولذلك دعاها البعض بالنجوم الطارقة تيمنا بالنجم الطارق الثاقب الوارد ذكره أيضاً في القرآن الكريم.

أخيرا، إذا زادت كتلة النجم عن ثلاث مرات كتلة شمسية فإن المستعر الأعظم سيضغط ما تبقى من النواة ليصيّرها ثقبا أسود حافته المرئية هي أفق الحدث. أما المركز فهو عالم غامض لا تحكمه الفيزياء ولا تصفه الرياضيات.

فقد سمي ثقبا لأن الداخل فيه سيدخل إلى غير رجعة، وأما كونه أسود فلأنه لا يسمح حتى للضوء بالهروب منه. ولتقريب الصورة، فإننا لو تصورنا أن الكرة الأرضية ستتحول إلى ثقب أسود فإن قطرها سيؤول إلى 1,8 سم فقط، أي أنها ستصبح قرابة نصف كرة تنس الطاولة، لكنها مع ذلك ستبقى محتفظة بمقدار كتلتها وجاذبيتها دون نقصان.

ولكن هل الثقب الأسود العملاق -في مركز مجرتنا أو في مراكز المجرات الأخرى- هو نجوم انفجرت ثم كبرت؟ الإجابة عند أغلب وأحسن الفرضيات هي نعم، إذ إن كثافة المادة وكمياتها حول المراكز تكون كبيرة فيبدأ الثقب الأسود بالتهامها شيئا فشيئا، وكلما التهم منها كمية زادت كتلته ليبلغ ما هو عليه بعد مليارات السنين التي عاشتها تلك المجرات. لكن ثمة فرضيات أخرى تفترض بأن الثقوب السوداء نشأت صغيرة بعد الانفجار الأعظم ثم كبرت مع مرور الزمن حتى أصبحت عملاقة.

الثقب.. الوحش البطل

في مركز مجرة عملاقة تدعى M87 (نسبة إلى جدول شارل مسييه لتصنيف الأجرام الخافتة) وتعد أكبر مجرة في العنقود المجري الموجود في اتجاه برج العذراء ويُرى عاليا في فصل الربيع، يقبع ذلك الوحش الذي أصبح أول أبطال السماء التي تكشف عن نفسها.

مئتا عالم ومهندس وفني يتناوبون العمل لأكثر من ثلاث سنوات؛ كي يكشفوا مخبأ هذا العملاق في باطن تلك المجرة. ولماذا تلك المجرة في الأساس؟ لماذا لم يصوروا لنا الثقب الأسود العملاق في مركز مجرتنا درب التبانة؟ أليس هو أقرب إلينا من ذلك الذي تبعد مجرته عنا لأكثر من 55 مليون سنة ضوئية، أو ما يعادل 500 مليون تريليون كيلومتر؟

هو كذلك، غير أننا ننظر إليه من داخل المجرة نفسها فتحجبه عنا مليارت أطنان الغبار والغيوم السديمية وأضواء أعداد غفيرة من النجوم. وليس هذا السبب فقط، بل إن حركة السماء في ليلة واحدة كفيلة بأن تُغير موضع الثقب الأسود مسافة كبيرة وقت تصويره من أماكن مختلفة من الكرة الأرضية، في حين أن ثقب المجرة الأخرى يسمح لبعده السحيق بأن يبقى مكانه بالنسبة للأرض فيسهل التقاط الموجات القادمة منه تزامنيا في جميع محطات الرصد الموزعة على الكرة الأرضية، والتي حوّلت الضوء الذي وصل من الثقب الأسود إلى لون برتقالي، فهل كان اللون حقا كذلك، أم أن هذا الضوء وهمي مفتعل من الحواسيب؟

شبكة تلسكوبات مرصد إيفنت هورايزن المسؤولة عن التقاط صورة الثقب الأسود، قادرة على قراءة صحيفة من مدينة نيويورك يحملها شخص جالس في قهوة في باريس

الصورة الملونة وأطوالها الموجية

يكمن اللغز في كشف موضع الثقب الأسود ومن ثم تصويره في تلك الدائرة المحيطة به والتي سماها أينشتاين أفق الحدث، فهو كما أسلفنا آخر حد يمكن للضوء أن يرتد منه قبل أن يسقط في غياهب الثقب الأسود. لكنه قبل أن يسقط وبسبب الجاذبية الهائلة في تلك البقعة ممثلة بالثقب الأسود ذاته فإن الفضاء يكون شديد التحدب، والأجسام شديدة التسارع في طريقها للداخل، وهذا التسارع يعمل على إطلاق موجات كهرومغناطيسية ذات طاقات عالية جدا على شكل أشعة إكس، بالإضافة إلى بقية الأطوال الموجية الأخرى كالأشعة المرئية والأشعة تحت الحمراء والأشعة الراديوية.

 ولأن تلسكوباتنا البصرية ذات أقطار صغيرة لا تستطيع تمييز الأشياء البعيدة جدا ولا التقاط ضوئها، حتى الفضائية منها كتلسكوب هابل؛ استخدم فريق العلماء من أجل الحصول على هذه الصورة تلسكوبات راديوية ذات صحون كبيرة موجودة على ارتفاعات تزيد على ألفي متر فوق سطح البحر، تجنبا للتشويشات الموجية القادمة من الأرض أو المتشتتة في الغلاف الجوي.

 وباتحادها معا شكلت تلسكوبا ضخما قطره قطر الكرة الأرضية. ولو كانت التلسكوبات في مدارات حول الأرض لجاءت الصورة أكثر دقة وتفصيلا على اعتبار أن مدار الأرض وقتها صحن كبير، كما اعتُبرت الأرض في هذه التجربة هي الصحن الذي التقط الأشعة الراديوية الضعيفة القادمة من الثقب الأسود.

يكمن اللغز في كشف موضع الثقب الأسود ومن ثم تصويره في تلك الدائرة المحيطة به والتي سماها أينشتاين أفق الحدث

دقة التلسكوبات

  يقوم علماء الأشعة الراديوية بتقنية ربط التلكسوبات بحيث تعمل كتلسكوب واحد كبير، وهذا يعني زيادة دقته وزيادة قدرته على استقبال موجات ذات طاقة منخفضة سافرت عبر تلك المسافات الشاسعة.

 فشبكة تلسكوبات مرصد إيفنت هورايزن المسؤولة عن التقاط صورة الثقب الأسود، قادرة على قراءة صحيفة من مدينة نيويورك يحملها شخص جالس في قهوة في باريس، وذلك يعني أن الأداة الموجودة بين أيدي العلماء هائلة الأداء.

وبإعطاء الأمر، بدأت هذه التلسكوبات بتخزين البيانات القادمة من الثقب الأسود معا وتباعا، إلى أن جمعت ما مقداره خمسة بيتابايتات من البيانات، وهو ما يعادل 5000 تيرابايت أو ما مقداره 5000 سنة من مادة سمعية مخزنة على ملف MP3. وقد قامت أربعة فرق كلٍ على حدة بتحويل هذه البيانات إلى صورة باستعمال أربع خوارزميات مختلفة ومعقدة جدا، ليخرج الجميع بنفس النتيجة ونفس الصورة التي تبين تفاصيل أفق الحدث حول الثقب الأسود.

اختار العلماء تلوينها بالبرتقالي والأصفر، وهي محاكاة تقريبية للأطوال الموجية الراديوية غير المرئية

أركان الصورة

في عام 1916 ذكر أينشتاين بأن في الكون أجراما كثيرة ذات كثافات غير معتادة تتخذ شكلا كرويا يظهر كظل محاط بحلقة مضيئة، وهو ذات الوصف الذي جاءت به الصورة، إذ اللون الأسود في وسطها ما هو إلا ظل الثقب الأسود، والحلقة المضيئة هي أفق الحدث، والغازات البرتقالية المصفرّة هي تلك التي تدور حوله مقتربة منا، أما الخافتة الحمراء فهي الغازات المبتعدة عنا.

 واختار العلماء تلوينها بالبرتقالي والأصفر، وهي محاكاة تقريبية للأطوال الموجية الراديوية غير المرئية، تأكيدا على أن الزائر لتلك المنطقة (لو فعل يوما) سيرى أكثر من تلك الألوان؛ سيرى بياضا ساطعا تعلوه بعض الزرقة، لأن الضوء الناتج من حافة الثقب الأسود سيكون شديد الطاقة يشع بألوان قوية كالأبيض والأزرق.

تتكون النجوم أساسا من غاز الهيدروجين بنسبة 75%، وغاز الهيليوم بنسبة 25%. وبسبب ارتفاع درجة حرارة بواطنها إلى ما يزيد على أربعة ملايين درجة

أول طريق الكون

على الرغم من هذا الإنجاز التاريخي والنصر للعلوم الأساسية التي تصنع الاكتشافات وتطور التقنيات، فإننا لا نزال في أول طريق الكون السحيق، فألغاز الكون تترى لم يدرك سرَّها البشرُ بعد، فالمادة والطاقة المظلمتان وأشباه النجوم والانفجار العظيم وتمدد الكون وثوابت الفيزياء وغيرها، كلها حكايات لم يبلغ العلم منها مبلغا حتى يسيرا بعد. فالعلم بحاجة إلى أدوات تكشف عن مكنونات الكون ونواميسه، وكلما تقدم العلم زادت ألغازه.

وفي ضوء ذلك يحق للسائل أن يسأل: أين دور العرب في هذه الاكتشافات العلمية؟ وأين سيقودهم إحجامهم عن تدريس علوم الفضاء والفلك في المدارس والجامعات وبناء المراصد ومراكز البحوث العلمية مع أمم سيصبح وطء القمر عندها أمرا عاديا؟!  لعلهم يتفكرون..