تشرنوبل.. صفحات من أعظم كارثة بيئية شهدها العالم

في مثل هذه الأيام يستذكر الناس –والأوكرانيون والروس منهم على نحو خاص- أعظم كارثة بيئية شهدتها البشرية تمثلت في حادثة مفاعل تشرنوبل الشهيرة التي قتلت عشرات الآلاف وتسببت بتلوث بيئي كبير.

فبعد الحرب العالمية الثانية ومخلفاتها الجسيمة، حلّت كارثة تشرنوبل النووية لتكون أسوأ كارثة بشرية شهدها العالم في 26 أبريل/نيسان 1986. فقد تراكمت الأخطاء أثناء الاختبار الروتيني لسلامة المفاعل في محطة توليد الكهرباء بمدينة بريبيات الأوكرانية، مما أدّى إلى وقوع انفجارين هائلين دمّرا سقف المحطة الصلب. فانبعث إشعاع نووي عبر الفجوة بكمية رهيبة تفوق الإشعاع الذي أحدثته القنبلة الذرية التي أُسقطت على هيروشيما بأضعاف مضاعفة، وأسفرت الكارثة عن خسائر بشرية فادحة فضلا عن التلوث البيئي الفاجع. ومن وقتها، تحوّلت بريبيات إلى مدينة موحشة ولا تصلح للسُكنى.

حلّت كارثة تشرنوبل النووية لتكون أسوأ كارثة بشرية شهدها العالم في 26 أبريل/نيسان 1986

لقد أثارت كارثة تشرنوبل المخاوف بشأن مخاطر الطاقة النووية، ليس هذا فحسب، بل وكشفت عن افتقار الحكومة السوفياتية للانفتاح على الشعب السوفياتي والمجتمع الدولي على حد سواء، كما أشارت إلى موقف الاتحاد السوفياتي الحرج فيما يخص استنزاف المليارات في عملية تنظيف مخلفات الحادثة الشنيعة، والخسارة البالغة لمصدر الطاقة الأساسي في المنطقة.

كل هذه العوامل وجهت ضربة قوية إلى كبرياء الاتحاد السوفياتي وأصابته في العمق.

تشرنوبل والمفاعل رقم 4

تقع محطة تشرنوبل في شمال أوكرانيا، على بعد حوالي 80 كيلومترا إلى الشمال من مقاطعة كييف، حيث تم بناء مدينة صغيرة تدعى بريبيات وتبعد كيلومترات قليلة عن موقع المحطة النووية من أجل استيعاب العمال وأُسرهم.

في عام 1977 بدأ بناء محطة تشرنوبل للطاقة، عندما كانت أوكرانيا جزءا من الاتحاد السوفياتي السابق، وتم إنشاء المفاعل الأول 1 و2.

مخلفات انفجار مفاعل تشرنوبل في أوكرانيا

وفي نفس العام، شُرع في إنشاء المفاعلين 3و4 ليتم استغلالهما في عام 1981 و1983 على التوالي. وكان من المخطط إضافة مفاعلين آخرين 5 و6 في السنوات اللاحقة، لكن كارثة تشرنوبل وضعت حدّاً لذلك.

وقعت الكارثة صبيحة يوم 26 أبريل/نيسان من عام 1986 بينما كان عمال محطة تشرنوبل يُجرون اختبارا روتينيا للتثبت من اشتغال نظام الطوارئ لتبريد المياه أثناء انقطاع التيار الكهربائي. وفي غضون ثوان، أدّى خطأ في التشغيل إلى تعطل توربينات المياه المستخدمة في تبريد اليورانيوم المستخدم وتوليد الكهرباء، مما ساهم في ارتفاع حرارة اليورانيوم بالمفاعل الرابع إلى درجة الاشتعال، فانصهر قلب المفاعل الرابع ودوى انفجاران كبيران تلاهما اشتعال ناري كثيف، خلّف سحابة قاتلة من الدخان الملوث والإشعاع النووي الذي انتشر بسرعة في أوكرانيا وجارتيها روسيا البيضاء وروسيا.

تدخلت فرق الإنقاذ لإخماد الحريق المرعب دون ارتداء معدات الوقاية من الإشعاع لجهلها بتسرب مواد خطيرة مثل اليورانيوم والبلوتونيوم والسيزيوم واليود. وأفادت شهادة بعض رجال الإطفاء الذين ساعدوا في مكافحة الحرائق بأن للإشعاع مذاقا يشبه المعادن، كما أنه يسبب نفس الإحساس بألم وخز المسامير والإبر على الوجه.

وبعد أيام قليلة ثبت أنّ أكثر العاملين ورجال الإطفاء لقوا مصرعهم جرّاء تعرضهم المباشر للإشعاع الحاد أو نتيجة الآثار المباشرة الأخرى للكارثة.

بحلول ظهر يوم 26 أبريل/نيسان، حشدت الحكومة السوفياتية فرقا للمساعدة في مكافحة الحريق، وجندت أمهر الخبراء والمختصين في المجال النووي لديها لتقليل خطر الانبعاثات الإشعاعية.

واستمرت عمليات مكافحة الحرائق وخفض درجة الإشعاع لمدة عشرة أيام، حيث نصح الخبراء برمي الرمال والرصاص والنيتروجين من المروحيات لإطفاء الحريق وتخفيف مستوى الإشعاع.

كما شارك نحو 600 ألف شخص -أغلبهم من أفراد الجيش بالإضافة إلى قوات الإطفاء والدفاع المدني وعمال المناجم- في عمليات إخماد النيران وإزالة مخلفات الانفجار المشبعة بالإشعاع، ثم قاموا بإخلاء المدن المجاورة والتخلص من كل الحيوانات المُصابة بالإشعاع السام.

بريبيات منطقة مُحرمة

في هذه الأثناء، تواصلت الحياة كالمعتاد في مدينة بريبيات المجاورة لمدة يوم تقريبا. وبصرف النظر عن مشهد الشاحنات التي كانت تنظف الشوارع بالرغوة، لم تكن هناك علامات كثيرة تدل على وقوع كارثة على بعد أميال قليلة فقط.

منطقة بريبيات الأوكرانية المهجورة

وفي 27 أبريل/نيسان، شرعت الحكومة السوفياتية في إجلاء سكان بريبيات البالغ عددهم 50 ألفا بعدما أخبرتهم بأنهم سيغادرون المنطقة لبضعة أيام لا غير، فأخذ سكان المنطقة القليل من الأمتعة ظنّا منهم بحتمية العودة القريبة، في حين أنه ليس متوقعا إعادة تعمير البشر للمنطقة المنكوبة في أي وقت لاحق. فقد صرحت السلطات الأوكرانية بأنه لن يكون من الآمن للناس أن يعيشوا في منطقة تشرنوبل لأكثر من 24 ألف عام.

غزو الإشعاع وتكتم الاتحاد السوفياتي

لم تفصح القيادة السوفياتية عن وقوع كارثة نووية للمجتمع الدولي إلا عندما طلب القادة السويديون تفسيرا لما سجلته محطة طاقة نووية في أستوكهولم من مستويات إشعاعية عالية بشكل ملفت قرب محطة تشرنوبل. وفي 28 أبريل/نيسان اعترف الكرملين بالحادث، لكن دون إدراك حجم التسريبات ومداها.

فإثر الانفجار الكارثي، أطلق المفاعل التالف كمية كبيرة من المواد المشعة الخطيرة مثل اليود 131 والسيزيوم 137 والبلوتونيوم والسترونتيوم 90 في الهواء لمدة تزيد عن 10 أيام، ثم تلاشت السحابة المشعة شيئا فشيئا بعدما أمطرت غبارا خانقا وشظايا حطام في الأرجاء.

صرحت السلطات الأوكرانية بأنه لن يكون من الآمن للناس أن يعيشوا في منطقة تشرنوبل لأكثر من 24 ألف عام

ورغم كميات الإشعاع النووي التي ما زالت تتدفق من محطة الطاقة المحطمة على نحو هائل، فإن معظم الناس وقتها -ومنهم الأوكرانيون- كانوا غير مدركين لحجم الكارثة وعدد الضحايا وعمليات الإجلاء السريعة لبريبيات.

ففي الأول من مايو/أيار خرجوا في موسكو وكييف ومينسك عاصمة روسيا البيضاء في مسيرات شعبية للاحتفال بعيد العمال السوفياتي بينما كانت الرياح توسع دائرة الانتشار الإشعاعي ليشمل أوكرانيا وروسيا البيضاء وروسيا الإسكندنافية وأجزاء أخرى من أوروبا.

 وبقي الأمر على هذه الحال حتى الرابع عشر من مايو/أيار حين تحدث الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف عن الحادثة وأمر بإرسال مئات الآلاف من رجال الإطفاء وأفراد الاحتياط العسكري وعمال المناجم، إلى موقع الانفجار من أجل إزالة الأنقاض واحتواء الكارثة.

خرسانة تشرنوبل الصلبة

قام طاقم العمل خلال 206 أيام بتغليف المفاعل المعطوب بالخرسانة الفولاذية الصلبة لمنع أي تسرب إضافي للإشعاع، إلا أن هذا الغلاف الفولاذي تعرض في عام 2010 إلى تشققات، فبدأت أوكرانيا بتشييدَ غلاف إضافي أكثر سُمكا وأشد صلابة بدعم مالي دولي.

منزل في إحدى المناطق المهجورة التي تأثرت من كارثة تشرنوبل

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، تم الانتهاء من بناء الحاجز الصلب الآمن الذي بلغ وزنه 35 ألف طن، والذي صُمم لعزل الإشعاع لمدة مئة عام. وإثر وضعه فوق المفاعل التالف والخرسانة السابقة المتشققة، انخفض الإشعاع بالقرب من المصنع إلى عُشر المستويات السابقة حسب ما رصدته الأجهزة الرسمية لقياس الإشعاع النووي في تلك المنطقة.

حصيلة تشرنوبل

في عام 1995 أعلنت حكومة أوكرانيا أن عدد من لقوا حتفهم من آثار تشرنوبل بلغ 125 ألف شخص. وتباينت التقديرات حتى الآن بشأن العدد الحقيقي لضحايا هذه الكارثة، ولم تجرؤ أي دراسات رسمية للحكومة السوفياتية على تقييم آثار الانفجار على العمال والسكان القريبين من مكان الحادث.

وأشارت إحصائية، إلى أن نحو ستة آلاف حالة من مصابي سرطان الغدة الدرقية و15 حالة وفاة بسرطان الغدة الدرقية تعود إلى التأثيرات الجانبية العميقة لواقعة تشرنوبل.

نصب تذكاري لمصففي كارثة تشرنوبل النووية في موسكو

كما توصلت الأبحاث العلمية التي أجريت عام 2011 من قبل المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة إلى أن التعرض لليود المشع 131 قد يكون المسؤول الأول عن سرطان الغدة الدرقية المسجلة في صفوف الأطفال والمراهقين المواكبين لتلك الكارثة.

وبالإضافة إلى الخسائر البشرية التي تُكشف باستمرار، خلّف حادث تشرنوبل مساحة شاسعة من الأراضي الملوثة بالإشعاع بلغت نحو 1.8 مليون هكتار من الأراضي الزراعية.

وبالرغم من إقبال بعض السياح على موقع تشرنوبل المجمّد والمهجور من أجل الفضول والمغامرة، تبقى كارثة تشرنوبل كابوسا مروّعا يُهدد استمرار البشرية والثروات البيئية، نظرا لما تحتويه مخلفات الانفجار من آثار مشبعة بالإشعاع النووي القاتل.