مليلية.. الجزيرة تروي غربة المسلمين في ديارهم

حبيب مايابى

قضت محاكم التاريخ والجغرافيا بأن مليلية مدينة مغربية، ولكن على معابرها يعيش المغاربة معاناة إنسانية لا يمكن وصفها

ولَكِنِّي ظُلِمْتُ فَكِدْتُ أبْكي
مِنَ الظُّلْمِ الْمُبَيَّنِ أوْ بكَيْتُ

فإِنَّ الْمَاءَ مَاءُ أبِي وَجَدّي
وَبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وَذُو طَوَيْتُ.

“تمر عجوز من معبر باريوتشينو وهي تحمل على كتفها 90 كيلوغراما من أغراضها التي تريد أن تعبر بها إلى الجانب الآخر. تعرضت العجوز للضرب من حرس الحدود، يُعامل الناس في هذا المكان كالوحوش، ليست هذه حدودا إنما هي أشبه بممرات الأبقار”.

قضت محاكم التاريخ والجغرافيا بأن مليلية مدينة مغربية، ولكن على معابرها يعيش المغاربة معاناة إنسانية لا يمكن وصفها، إهانات من الشرطة الإسبانية تتجاوز السب والشتم إلى الاعتداءات الجسدية.

وفي داخل المدينة يعاني السكان من تمييز عنصري فاضح، يتجسد في الحرمان من العمل والتعليم وعدم المساواة في دولة القانون.

وفي محاولة لتوثيق المأساة أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “مليلية.. محنة هوية” يتناول محنة المواطنين المسلمين من ذوي أصول عربية وأمازيغية في مدينة مليلية الخاضعة للسيطرة الإسبانية.

 

مظاهر خدّاعة

تقع مدينة مليلية على ساحل البحر الأبيض المتوسط وفي القارة الأفريقية وداخل التراب المغربي. مناخها الجميل وشوارعها الفسيحة وبناؤها الحضاري وسكانها الشقر ونمط الحياة الأوروبي.. كلها مظاهر خداعة لمدينة مليلية التي احتلها الإسبان منذ خمسة قرون.

يَعتبر المغرب أن مدينتي سبته ومليلية جزء لا يتجزأ من أراضيه بحكم الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الوطيدة والقيم المشتركة بين سكانها والمغاربة.

قام المغاربة قديما بمحاولات عديدة لاسترجاع المدينتين، فقد قام السلطان المولى محمد بن عبد الله بمحاصرتها عام 1474 لكنه لم ينجح في استعادتها.

وفي بداية القرن الـ20 قام المجاهد عبد الكريم الخطابي بتجييش سكان الريف المغربي وشكل ما عرف بثورة الريف حتى استعاد مليلية، لكن فرنسا دعمت الإسبان فانقلبوا على الخطابي وتم وأد ثورته في مهدها.

وفي عام 1958 حاول المغرب سلميا إجلاء جيش فرانكو عن أراضيه وتم له ذلك، لكن سبته ومليلية ما زالتا تحت سيطرة الإسبان ولا تعترف بهما الأمم المتحدة كمدينتين محتلتين.

 

السياج الحدودي.. معاناة يومية

يبلغ عدد سكان مليلية 78 ألف نسمة يشكل المسلمون منهم 40% والبقية من المسيحيين. وبحكم أنها تعتبر مدينة أوروبية وتقع على الحدود مع المدن المغربية فهي تشكل نقطة عبور لأوروبا، وفي سنة 1998 أقيم سياج على كامل حدودها بارتفاع أربعة أمتار بهدف مكافحة الهجرة السرية.

وهذا السياج مزود بكاميرات مراقبة يصل عددها 74 كاميرا وآلات إنذار إلكترونية. وقد تبين أن ما وراءه أعمق من مراقبة الحدود، إذ أصبح عائقا بين شعوب تتقاسم الكثير من الروابط والقيم والانتماءات.

يقول رئيس مركز الذاكرة المشتركة في مدينة مليلية عبد السلام بوطيب “هذا سياج شبيه بسياج المكسيك أو ما يقيمه المحتل اليهودي، ويهدف إلى عزل السكان”.

وفي حديثه بوثائقي الجزيرة، يقول وزير الثقافة والاتصال المغربي الأسبق محمد العربي المساري “إن هذا السياج هدفه التفرقة بين الشعوب، لكن لا يمكن أن تفصل مليلية عن محيطها”.

ويشكل هذا السياج عقبة كبيرة في التواصل بين سكان مليلية من الأصول المغربية مع جيرانهم مما جعلهم يشعرون بالحصار.

ويقول الناطق باسم الجالية المسلمة محمد الطيب “في الحقيقة نحن هنا في حصار، لقد أصبحنا في مدينة جدار”.

ويحتوي هذا السياج على ثلاثة معابر حدودية أهمها المعبر الشرقي المخصص للسيارات والمركبات، ويعبره يوميا 2700 عامل وأغلبهم من قبائل الشمال المجاورة ولا يلزمهم من الأوراق سوى بطاقة هوية.

 والعابرون لهذا المعبر يجدون قسطا من الإهانة كالانتظار في الطابور لساعات عديدة مع إهانة من شرطة الحدود بسبّهم وأخذ الرشوة منهم.

ويتحدث عبد السلام بوطيب عن معبر “باريوتشينو” ببني أنصار في إقليم الناطور المخصص للراجلين ومن يحملون أمتعتهم على ظهورهم، حيث “تبلغ المأساة ذروتها وتخضع عنده النساء العابرات من أجل التبضع للكثير من الإهانة، فلا يُسمح لهن بحمل البضاعة إلا على ظهورهن، وقد تحدثت نقابات العمال عن وقوع حالات ضرب وتحرش في حقهن”.

ويرى مهتمون بالقضايا الحقوقية أن بعض الممارسات تعتبر جرائم إنسانية. ويقول المحامي محمد الزروالي “ما يحدث على المعابر الحدودية جريمة ضد الإنسانية”.

وفي الوقت الذي تُسجل فيه هذه التجاوزات الخطيرة، يؤكد حاكم مليلية خوان خوسي إينمبورودا للجزيرة “إن العلاقات التي تجمع بين الناطور ومليلية علاقات متينة وقوية ولا توجد بها مشاكل”.

رغم أن نحو 40% من المواطنين ترجع أصولهم للمغرب من شرائح الأمازيغ والعرب إلا أن ذلك لم يعطهم الحق في المساواة في التوظيف

قوانين الإقصاء والإفقار

ورغم أن نحو 40% من المواطنين ترجع أصولهم للمغرب من شرائح الأمازيغ والعرب ويندمجون في المجتمع بشكل طبيعي، فإن ذلك لم يعطهم الحق في المساواة في التوظيف، بل هنالك طريقة ممنهجة لإبعادهم، وقد قاموا بعدة انتفاضات أشهرها انتفاضة 1981 والتي قادها عمر دودوح بسبب أزمة قانون الجنسية الذي طُرد بموجبه 1500 من السكان.

ولا تُنكر الحكومة المحلية لمليلية أن البطالة هي أكبر مشكلة يعاني منها ذوو الأصول المسلمة. ويقول الحاكم “إن البطالة هي أكثر ما تعاني منه مليلية وإن ما بين 40 و60% من ذوي الأصول الأمازيغية يعانون من البطالة”.

وتقول النائبة السابقة بمجلس الشيوخ سليمة عبد السلام “صادقت الحكومة مؤخرا على تشغيل كثير من الشباب، لكن شباب المنطقة لم يتم إدراجهم في اللوائح بينما يتم استغلالهم في السياسة.”

تحاصر السلطات انتشار المساجد والمدارس الدينية، فلا يوجد في المدينة التي يناهز المسلمون فيها حوالي 30 ألف مسلم سوى 14 مسجدا فقط

أزمة التعليم ومستقبل الهوية

يُرجع الكثير من سكان مليلية تفشي البطالة في صفوفهم إلى أزمة التعليم المتجذرة منذ زمن بعيد، فبالرغم من مجانية التعليم فإن أبناء المواطنين من ذوي الأصول المغربية يُطردون من التعليم عندما يَصلون للمستوى الإعدادي كما يروي للجزيرة بعض آباء التلاميذ.

وفي فيلمها الوثائقي، كشفت الجزيرة عن بعض المدارس التي يبلغ عدد تلاميذها 700 طالب ولا يتجاوز الثانوية العامة منهم سوى 23، ولا يلتحق جميع من تجاوز المرحلة الثانوية بالجامعة.

وعلى الرغم من أن السلطات المحلية أقامت بعض المهرجانات والمؤتمرات لتسويق المدينة على أنها مدينة الثقافات الأربع، فإن الواقع من الداخل يقول عكس ذلك فلا وجود إلا للثقافة الإسلامية التي تُساير الناس في جميع حياتهم اليومية أو الثقافة المسيحية التي تظهر أيام أعياد الميلاد.

تحاصر السلطات انتشار المساجد والمدارس الدينية، فلا يوجد في المدينة التي يناهز المسلمون فيها حوالي 30 ألف مسلم سوى 14 مسجدا فقط، بينها الجامع الذي بناه الجنرال فرانكو عام 1945 لإرضاء جيشه من المسلمين الذي استعان به في الزحف نحو مدريد، وكان يعد المسلمين بالاستقلال.

يعاني سكان المدينة من تمييز عنصري فاضح، يتجسد في الحرمان من العمل والتعليم وعدم المساواة في دولة القانون

مغربية السكان تقلق الإسبان

في مدينة مليلية يجتمع المسلمون على المذهب المالكي ومرجعيته، وقد ساهم ذلك في ترسيخ الهوية الإسلامية.

ولم يرُق ذلك للسلطات المحلية إذ خافت أن يزيد من تنامي علاقات السكان بالمغرب فعملت على استغلال الأئمة لبث خطابات مغايرة، لكن ذلك جاء بنتائج عكسية.

ويقول رئيس مركز الذاكرة المشتركة “لقد عمل الإسبان على قطع علاقات المسلمين بالمغرب فدخلت الحركات المتطرفة على الخط واختفى التسامح”. ولم يعد أحد من المسلمين يصدق أن مليلية مدينة الثقافات، فلا وجود للتعايش بين الثقافات إلا في الخطابات السياسية أو اللوحات المرسومة في المتاحف.

أما الترويج لثقافات متعددة كاليهودية والهندية فالهدف منها هو التضييق على المسلمين. ويقول الزروالي “إن القول بوجود ثقافات متعددة هدفه تبخيس وزن المجتمع المسلم”. وتضيف رئيسة جمعية الثقافات المزدوجة يونايضة سلام “إن القول بوجود أكثر من ثقافتين مجرد كذب وافتراء”.

وفي ظل هذا التضييق وسياسة التهميش تبقى معنويات المجتمع المسلم في ارتفاع، ويتشبثون بالحياة وقيم النضال والكدح من أجل البقاء، ويحدوهم الأمل أن تساعدهم صناديق الاقتراع في الأخذ بمقاليد الحكم عاجلا أو آجلا.