“هيب هوب المقلاع”.. سلاح يكسر الأغلال ويخرج من قفص الاحتلال

 

ينفرد الفيلم الوثائقي كنوع فني خاص بعدة مواصفات هامة تميزه عن الأنواع السينمائية والفنون الأخرى بشكل عام، وتعطيه أحقية التحدث عن الواقع بشكل أكثر مباشرة.

ومع أن هذه النقطة على وجه التحديد، تشكل أهم تهديد للفنية ذاتها، فإن هذا التهديد من جهة أخرى، يشكل بالنسبة إلى المخرج ذاته صاحب التوجه الفني والفكري أهم ما يغريه للخوض في تجربة أي فيلم وثائقي، والخروج منه بنتيجة تميزه على كلا الصعيدين المذكورين آنفاً، لتعطيه بصمة يضعها على الواقع الذي يقتبس منه أصلا.

السينما الوثائقية.. فن بصري ينبثق من واقع المجتمع

لعل من أبرز ما يميز تجربة المخرج الوثائقي، ذلك الاحتكاك الملموس بالواقع، والتأثير المتبادل المبتغى، والناتج في كل الأحوال باتجاهين، بين صاحب الفيلم والموضوع ذاته، ولعلنا شاهدنا هذا التأثير في كثير من الأفلام الوثائقية بوضوح متفاوت من فيلم إلى آخر، بحسب الموضوع وبحسب المخرج، وبحسب الحالة أو المناخ العام الذي يحتضن كلا الطرفين.

ولربما يزداد هذا التفاعل المباشر عندما يفرض الظرف المحيط ذاته بشكل أكثر مباشرة وفجاجة، لذلك ربما نستطيع القول دون مبالغة إنه في العالم الثالث إنما يزداد ذلك التفاعل أهمية وبروزا تبعا للظروف الإشكالية الكثيرة التي تسم تلك المجتمعات والتنظيمات التي تؤطر حياتها أيضا، والمثال الأوضح للتدليل على هذه الفكرة يتمثل بفيلم كالذي شاهدناه عن بورما وأحداثها، بعنوان “مراسلو بورما”.

ولكن هناك تجربة أخرى أكثر قربا منا وخصوصية، نستطيع الاستعانة بها في هذا المجال، وهي تجربة فيلم “هيب هوب المقلاع” (Slingshot Hip Hop) لمخرجته جاكي ريم سلوم، وقد شاهدناه مؤخرا في مهرجان أيام سينما الواقع، وحاز جائزة الجمهور في دمشق.

“مين إرهابي”.. أغنية تعيد المغتربة إلى أجواء الوطن

المخرجة جاكي مغتربة في أميركا، وهي ذات أم فلسطينية وأب سوري، وكان جدّها من المقاومين القدماء وأخبرها بالكثير عن فلسطين، لكن البعد فرض عليها نوعا من عدم المعرفة بالداخل الفلسطيني، وهكذا كان الدافع الأساسي لها في البداية -كما تقول- هوَ الذهاب إلى فلسطين.

ولكن عندما سمعت أغنية “مين إرهابي” لفرقة الراب الفلسطينية قررت أن تصور الفيلم، ووجدت أن هناك حركة لم تكن تتوقع وجودها، وكانت صديقتها تعرف محمود شبلي صاحب الفرقة، فأعطتها رقم هاتفه وبدأ التواصل بينهما، وبدأت الرحلة كما وصفتها.

تقول جاكي: اكتشفتُ ماذا يعني الاحتلال، وتعرفت على فلسطين 48، واستغربت مما يجري من الدمار وتحطيم البيوت، وأن عرب 48 يعانون من ضعف بإحساسهم بهويتهم، بسبب التعتيم والتغييب الإسرائيلي في المدارس والتعليم، لذلك ترى الموسيقيين يستخدمون كثيرا من أغاني التراث الفلسطيني، ويتكلمون باستمرار عن محمود درويش، والملفت أنهم يستخدمون الشرقي المدموج بالغربي في الموسيقى، كان الهدف أن أكتشف كيف يستخدمون فن الهيب هوب كمقاومة.

وعن بقية الأراضي الفلسطينية تخبرنا جاكي، كما يخبرنا الفيلم من قبل أنه لم يكن هناك راب في غزة بدايةً، ولكن في العام 2004 انتشر في غزة بسرعة شديدة، ربما لأن الناس متعطشون لما هو جديد.

” رفعتوا راسنا”.. افتخار وجدل حول اللون الموسيقي الجديد

في حديثها عن كيفية تعامل المحافظين عموما مع هذه الظاهرة الغنائية تؤكد المخرجة أنها رأت شيئا غريبا، فالكل يحترم الراب، وهناك كثيرون ممن قالوا للفرق “رفعتوا راسنا”، حتى من الكبار في السن، بينما كانت هناك أقلية رأت في هذا الشكل الجديد مظهرا غربيا دخيلا، ولكن الحضور كان يزداد دائما.

ومن جهة أخرى وافقت المخرجة جاكي على ما قاله المفكر عزمي بشارة من أن المقاومة تظهر في الدول العربية عندما تضعف السلطة وتحضر الديمقراطية، وعلى هذا الأساس رأت أن هذه الفرق الموسيقية ظهرت وانتشرت في فلسطين بشكل ليس كبقية الدول العربية. فهناك وضع خاص يمتاز بالحرية لدى الشعب الفلسطيني، كما أن طبيعة المواجهة مع الاحتلال تفرض ظهور هذا النفَس.

وعندما سألنا جاكي عن بعض جوانب الضعف الفني التي لاحظناها في الفيلم، تحدثت بصراحة أنها لم تدرس السينما، وأن الفيلم هو تجربتها الأولى، وأنها لم تكن تهتم بمصطلح الاحتراف، وأن هذا العمل جاء من قلبها، ولذلك عند صناعة الفيلم كانت الشخصيات تنسى وجود الكاميرا مثلا، وهذا ما أثرى الفيلم فنيا من جهة أخرى.

وتحدثت عن وجود امرأة مغنية في إحدى الفرق التي أظهرها الفيلم، فتقول: لأنني امرأة استطعت أن أتواصل معها وأخبرت أهلها، وربما لو كنت رجلا لما حصل ذلك، المرأة في كل العالم لديها تحديات أكثر من الرجل ولكن في الدول العربية هناك قيود أكثر.

ومن جهة أخرى لاحظت أمرا مهما، وهو أن الهيب هوب الأمريكي يتعاطى مع المرأة على أنها مجرد سلعة، وهي منه في موقع متدنٍّ، ولكن الهيب هوب الفلسطيني يحترم المرأة كثيرا، ويشجع البنات على الغناء، كما رأينا في الفيلم، وهذا شيء جيد، لأن الناس سيتبعونهم وسيفكرون مثلهم.

“يظنون أنني وغيري لن نعود مجددا”.. جريمة الملامح العربية

رغم أن المخرجة جاكي تملك جنسية أمريكية، فإنها بمجرد معرفة اسمها واسم أبيها وأمها في مطار بن غوريون، تذهب فورا إلى الشرطة، لتبدأ رحلة من نوع آخر، تبدأ الأسئلة من جديد والتحقيقات، من أنت ومن هو أبوك وأمك، ما غرض الزيارة، وتجلس منتظرة في غرفة ملأى بالعرب كلهم ينتظرون.

وعلى الحدود تتكرر التفاصيل ذاتها، ويأتي رجال الأمن ليقولوا إنهم مختلفون عن الشرطة، ويعرضون عليهم صورا: من هذا؟ أتعرفين هذا؟ كم أحضرت معك من النقود، وتمر الساعات.. ثم إلى أين أنتِ ذاهبة فتقول إلى تامر، فيقولون أعطنا رقمه، يأخذون الرقم ويتصلون به.

تقول جاكي: إنهم يفعلون ذلك، لأنهم يكرهون قدومي إلى فلسطين، وبذلك يظنون أنني وغيري لن نعود مجددا.

عليكم إذن أن تتخيلوا الصعوبات في إنجاز الفيلم الذي صور بين أراضي 48 والضفة الغربية وغزة. وقد استمر العمل على إنجاز الفيلم أكثر من أربع سنوات، بالإضافة إلى صعوبات بالتمويل، رغم مساهمة وتبرع بعض الناس والمؤسسات، ولكن ليس بشكل كافٍ.

نظرة المنتجين.. طوباوية تأباها عنصرية الأغاني الصهيونية

كان المنتجون في أمريكا يشترطون أن يظهر الإسرائيلي مع الفلسطيني في الفيلم جنبا إلى جنب كأصدقاء، فهم يريدون أن يصوروا المسألة على أن الجانبين لا اختلاف بينهما، فإذا جلسا في غرفة واحدة وتحاورا، سينسجمان في سلام ووئام، فالمشكلة كما يتخيلونها -عن سوء نية أو عن قصد- هي بين يهود ومسلمين، كأنهم يجهلون أن المشكلة في الاحتلال وأخذ الأرض من الفلسطينيين.

وتقول جاكي إن رؤيتهم وإن كانت عن حسن نية ليست مطابقة للواقع، فالفلسطينيون لا يعملون هيب هوب مع الإسرائيليين، ثم إن الهيب هوب الإسرائيلي صهيوني جدا وعنصري، إلى درجة أنك ترى بعض الفرق المتطرفة تقول في أغانيها مثلا: “الموت للفلسطينيين”. وهؤلاء على وجه التحديد يحصلون على أكثر نسبة من المبيعات بين الفرق الإسرائيلية.

وبحسب رأي جاكي فإن الراب الإسرائيلي يشبه منظمة (Klu Klux Klan) المتطرفة التي كانت تقتل السود في أمريكا، ومن جهة أخرى تشبّه راب الفلسطينيين براب الزنوج، فالإسرائيليون بهذا المعنى عكسوا الآية، فهم المظلومون والمضطهدون من خلال تبنيهم للراب.

علينا أن نسأل من جهة أخرى أعضاء الفرق الفلسطينية: ما التأثير المباشر الذي صنعه حضور جاكي بينهم؟ أما عن التأثير غير المباشر للفيلم عليهم وعلى نشاطهم، فهوَ سؤال متروك للزمن نفسه، وما سيحققه الفيلم المنجز في قادم الأيام.


إعلان