“ليش صابرين”.. حين تصبح القدس غريبة على المقدسيين
كادت القاعة أن تضج بالصخب في بداية عرض الفيلم الروائي القصير “ليش صابرين” (2009) في غزة، عندما انزعج المشاهدون من صوت ذلك الصرير الحاد الذي رافق بداية الفيلم، ظنا منهم أنه خلل فني، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا خدعة المخرج الفلسطيني مؤيد عليان، بعدما اتضحت أصوات السيارات في شوارع القدس الحاضرة، وألوانها الغائبة بالوجع.
جيفارا الصغير.. متمرد القدس الذي يرفض عروض الصهاينة
على امتداد عشرين دقيقة يحاكي فيلم “ليش صابرين” تحت الاحتلال الإسرائيلي للمدينة من خلال قصة “جيفارا” صغير يرفض العمل عند الإسرائيليين، دفاعا عن المبادئ التي استشهد والده من أجلها، الأمر الذي يسبب له كثيرا من الخلافات الاجتماعية مع أسرته، لا سيما والدته التي تحاول دوما مقارنة موقفه بموقف أبناء عمومته الذين يعملون في المستوطنات والمطاعم الإسرائيلية في القدس، فلا يسع أيمن إلا الهرب من أسئلة أمه وغضبها، قائلا لها باختصار: هاي مش أسطوانة، هاي مبادئ.
صابرين وأيمن.. قصة حب على طريق معبّد بالألم
المنحى السردي الذي يرتكز عليه الفيلم، هو حكاية صابرين، الفتاة المقدسية التي أحبها أيمن، ويريد الارتباط بها، لولا الظروف الاجتماعية التي تفرقهما.
بهذه الحبكة السردية أراد المخرج مؤيد عليان أن يظهر مفارقة اجتماعية، أثارت تساؤلات اجتماعية كثيرة، خاصة أن الإشكالية التي بدأ بها لقاء أيمن وصابرين كانت لها دلالاتها على خصوصية المجتمع الفلسطيني وتقاليده التي باتت غلافا خارجيا لثورة ما، في تغيير كثير من المصطلحات المتعارف عليها.
أما صابرين فهي فتاة قروية سمراء، تخرج من محيطها الذي يفرض الحجاب عرفا لا دينا، لتختبئ وراء كتلة إسمنتية وترفع الحجاب، مكملةً المسير للقاء أيمن، بعد أن أوقفتها نقاط تفتيش إسرائيلية كثيرة، وأما طريق أيمن فقد كان معبدا بوجع لا يقل إيلاما، فكل العناوين واللافتات الإسرائيلية التي تقابله في أروقة القدس كانت بلغة عبرية، وهو ذاته الأمر الذي جعله يتحدث للسائق بتلك اللغة الدخيلة.
“أنت عربي؟”.. أرق الانتماء ومأزق الهوية
لم يكن أيمن يبدي أي انتماء لعروبته، لكن مكالمة هاتفية كانت كفيلة باكتشاف هويته، مما دفع السائق إلى تشغيل شريط من صوت أم كلثوم، بعدما عاوده حنين الهوية، مواسيا ذاته بسؤاله: “أنت عربي؟”. لكن أسئلة السائق المستفزة وتحذيراته من الحملات المسعورة للجيش، لم تستطع إنطاق ذلك الصمت والجمود الذي تلحف أيمن به، طوال طريقه للقاء صابرين.
يعود المخرج بالمفارقة التي رمى حبالها في بداية الفيلم، فنرى صابرين تقف أمام مرآة أحد الحمامات النسائية، فتلاحظ فتاة عربية ترتدي نصف حجاب، تخرج من دورة المياه بتنورة قصيرة وقميص مكشوف الكتفين، حتى أن المشاهد لا يكاد يميزها عن الفتيات الإسرائيليات.

وهي القضية الجوهرية التي يلمح إليها المخرج، فالهوية أيضا باتت في مأزق، بين الضغوط الاجتماعية وتناقضات الواقع، وهو ما اتضح بدقة التكوين البصري للمشاهد القصيرة المعبرة، والمواقف التي تبدو عابرة للوهلة الأولى.
لقاء الحمام.. هرب من ضغط العائلة وعيون الاحتلال
تتجسد مفاجأة الفيلم في رمزية مكان اللقاء بين أيمن وصابرين، داخل أحد الحمامات العامة، بعيدا عن مطاردات الجيش وتفتيشه على هوياتهم العربية، لكن ذلك لم يُزل الحواجز الاجتماعية التي نبتت في اللاوعي لديهما، فرغم لهفة الشوق فإن شعورا ما بالخطر كان يهددهما من الاقتراب، وهناك يدور حوار قصير آخر، يكشف عن خبايا قصة المحبين.
تضغط عائلة صابرين عليها للزواج من ابن عمها، ولا جدوى من رفضها المطلق له، فموقف الأب حازم “هو انتي بدك تفضحينا بالبلد”، فلا يحق لصابرين أن تكسر كلمة العائلة في العرب وعاداتها، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى أيمن الحائر، من دون أن يعرف الجواب.
“إحنا ليش صابرين؟”
امتازت الحوارات القصيرة التي احتواها الفيلم بلغة تقليدية تكاد تكون مكررة باقتناصها للواقع، لكنها في نفس الوقت تحاكي اللهجة بقوة جميلة، حتى بالألفاظ الشعبية التي تكاد تكون أقرب إلى الفظاظة، لكن السياق البصري والسردي للفيلم طغى على تلك التقليدية، إضافة إلى تقنية الفيلم العالية وتنوعه الفني المميز.

“ليش صابرين” جملة يكررها أيمن تحت شجرة الزيتون الجبلية، ليكون ذلك القرار المصيري بالهرب:
إحنا ليش صابرين؟ بنسحب حالنا وبنهرب. نهرب؟ بدك تفضحنا؟ وين راح نهرب؟ بنروح ع مكان ما حدا يعرفنا فيه نطلع الشمال. حيفا. لا. طبريا.
تيه بين الجبال وأشجار الزيتون.. نهاية الهرب المهين
لم يكن هروب أيمن وصابرين فقط من الواقع الذي يؤرق حياتهما، ولم يكن إلى طبريا فقط، بل تعداه لهروبهما إلى نهاية جميلة، ينسجانها في بيت صغير. لا، بل ربما كانت غرفة، فيها أريكة حمراء وكاسات شاي وأصيص ورد.
لكن الأحلام تسقط أمام أول حاجز إسرائيلي يصطدم بطريقهما للشمال، وهو ذاته الذل والقهر المضاعف على هوياتهم، أيا كان لونها، حمراء أم خضراء، يرفعان أيديهما أمام البنادق والبزات العسكرية، يصرخ أيمن ملوحا بهويته الإسرائيلية، لكنها لا تشفع له ولا لمبادئه، ولا حتى لتلك الفتاة الخائفة، فالجندي يأمر “جيفارا” الصغير بخلع قميصه خوفا من كونه عربيا إرهابيا.
ثم يعود ويأمر الفتاة بشكل مهين بخلع قميصها وهي خجلة، وأيمن لا يستطيع أن يحرك ساكنا، فلم يكن منه إلا أن احتج ببضعة كلمات في الهواء تخرسها البندقية، مما جعله يخلع ملابسه وحذاءه بغضب، ليبقى عاريا إلا من ملابسه الداخلية.
أما المشهد الأخير الذي ظل مفتوحا على كل الخيارات، فكان لصابرين وهي ترمي وشاحها على رأسها، وتمضي في طريق مجهول بين الجبال والزيتون، وحيدة من دون جيفارا.
مؤيد عليان.. جوائز وترشيحات في مهرجانات دولية
يذكر أن المخرج مؤيد عليان حاز على جائزة “كوداك للإبداع الفني” في سان فرانسيسكو عام 2005، عن فيلمه الوثائقي الأول “منفيون في القدس”، كما رشح فيلمه “ليش صابرين” لعدة مهرجانات دولية، منها مهرجان “كليرمون فيراند الدولي” ومهرجان “اسبين الدولي” ومهرجان بلغراد.
يعمل المخرج عليان حاليا في مركز بيت لحم للإعلام في إنتاج برامج وأفلام وثائقية لعدة محطات دولية ومحلية.