“يافا”.. مدينة ينهشها المستوطنون

مقاربة مختلفة وتستحق الاحترام مع النقد أيضا للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري في معالجته لجرح مدينة يافا التي تتعرض لغول التهويد الإسرائيلي، تلك المقاربة البصرية والجمالية لذلك الواقع المؤلم والبائس والبارد جاءت عبر فيلمه “ميناء الذاكرة” (روائي طويل/ 63 دقيقة / إنتاج 2010).

مقاربة جرح يافا المتمثل بسياسات تهويدها وسرقة بيوتها بكل ما يعني ذلك من مأس إنسانية حملت أسلوبا مختلفا، فجاءت دون صراخ أو أساليب نمطية، دون ضجيج مفتعل أو غير مفتعل، إنها مقاربة صادقة تغور عميقا في واقع هذه المدينة التي لا تملك من قدرها إلا الانتظار، أو واقع بشر بسطاء يبدو من ردود أفعالهم بأن لا حول لهم ولا قوة، لا انفعالات ولا صراخ ولا بكائية يقوم بها الممثلين، ربما المدينة هي التي كانت تبكي جرحها وعوامل الزمن الذي نهشها وكثيرا من إجراءات الحظر والمنع وسياسات التهويد.

صنف الفيلم على أنه عمل روائي، ومولت الفيلم أكثر من جهة إنتاجية (ألمانيا وفرنسا وفلسطين والإمارات والصندوق العربي للثقافة والفنون)، وقد صنف على أنه عمل روائي، لكنه حمل نفَسا وثائقيا لدرجة حيرت البعض في تصنيفه، حيرة لا تعنينا هنا بالدرجة الأولى، لكنها في ظننا تقف في صفه إذا ما تمعنا في الفيلم والأسلوب الفني الذي اختاره، حتى وإن اعتراه الضعف في بعض مفاصله.

ضياع الوثائق.. مؤامرة بين المحتل ومحامي القضية

الفيلم بأحداثه وشخوصه القلائل يبدأ من ذات شتاء بارد في مدينة يافا، ويبدو أن برد الشتاء دفع بالسكان للاختفاء والتواري عن الأنظار، شاب فلسطيني يحمل همه ويقود سيارته إلى مكتب محامي كي يسأله عن أوراق منزله التي قدمها له قبل سنوات عشر، لنكتشف أن المحامي أضاع أوراق الشراء القديمة التي كان من المفترض أن يظهرها، بوصفها دليلا دامغا على شراء المنزل الذي يؤويه هو ووالدته العجوز والمريضة وأخته العاملة في تنسيق الزهور، أمام قرار المحكمة الإسرائيلية الذي يشكك في ملكيتهم للبيت ويدعي المستوطنون شراءه.

من هذا المأزق يبدأ الفيلم ليضعنا في جوه وأسلوبه، يعود الشاب للمنزل ويجلس مع أخته وأمه، ينظر ثلاثتهما للتلفاز ويتبادلون حديثا باردا دون أن يلتفتوا لبعضهم، تسأله الأخت عن ما سيفعلون طالما أن الأوراق التي تثبت ملكيتهم للمنزل قد أتلفت من مكتب المحامي الذي سيظهر لاحقا أنه كان يخونهم، وأنه جزء من مؤامرة على حقهم.

تنقل الكاميرا الراصدة بهدوء ويقين برودة حياة هذه الأسرة، لترينا شابا يقود دراجة نارية، يقف على أحد المفترقات، يخلع قبعة الحماية ويبدأ بالصراخ بأعلى صوته وبشكل هستيري، ثم يتوقف ويكمل مسيرته وتجواله في جسد المدينة المنهك.

مجنون المدينة.. شاهد على انهيار المدينة

يتكرر ذلك الفعل من مجنون المدينة ذاك بكل ما يرمز له من دلالة إذ يبدو معادلا رمزيا للعين التي تدور في أرجاء المدينة، وتكشف ما تتعرض له من أخطار محدقة واختفاء سكانها عبر صراخه المتكرر. وفي آخر مشهد لهذا الشاب المجنون نراه يعاين التغييرات التي طرأت على المدينة، حيث البناء الحديث والحدائق الإسرائيلية التي حلت مكان بيوت الفلسطينيين ومقابرهم، يقف ومن خلفه البحر على تلة صغيرة، ويبدأ بالضحك الهستيري هذه المرة، بينما تعمل جرافة ضخمة من خلفه بموازاة البحر، في دلالة رمزية على السخرية مما يفعله الاحتلال بحق المدينة التي تدمر لمصلحة المحتلين.

ذات الكاميرا الهادئة تدفعنا لزيارة أحد مقاهي المدينة الفارغة، شابان يجلسان معا بلا حديث حميمي، يبدو أن أحدهم صاحب المقهى، يقف ويذهب إلى موقد النار، يشعل منه سيجارة، ويقرب جمرة النار من نفسه في محاولة لتدفئته، ينفخ على الجمرة مرات كثيرة، ويعود لصديقه، يجلسان بملل وحيرة وكسل بائن، حالة من الفراغ لا تدفع على الحوار والحكي، وإنما الانتظار الذي يكتم رغبات ما.

عجائز الفيلم.. خيبة أمل وحسرة على عمر مضى

على الجانب الأخر عجوز ستيني يرتدي لباس قبطان بحري، يرمق التلفاز المشغل على فيلم أجنبي صور في ذات أحياء المدينة التي يعيشون فيها ويصورهم على أنهم إرهابيين، ذلك العجوز يبدو كأنه قادم من زمن لن يعود، هو زمن ميناء المدينة الذي يعاني الخراب من جهة والعمران الاحتلالي الجديد، ليبقى الزي وحالة القبطان بهيئته وصمته دلالة على عمر مضى ولن يعود.

تأخذنا الكاميرا بصبر تدفعنا لتقبله إلى عائلة مسيحية في ذات الحي القديم، فتاة كبيرة السن ووالدتها العجوز، كل ما تفعله تلك العائلة هو التجول في أنحاء المنزل، نرى الفتاة تنهض كل صباح لتطعم القطط الكثيرة التي تقف خلف الباب وتعود على إيقاع الجرافات التي نسمع أصوتها المزعجة لنستنتج أنها تنهش المنازل القديمة وتقيم بدلا منها عمارات حديثة.

العجوز ستيني الذي يرتدي لباس قبطان بحري ويقضي يومه في مشاهدة التلفاز

أما المرأة العجوز والمريضة فتراقب التلفاز طوال الوقت، تشاهد فيلما عن المسيح، بينما قط الأسرة الناعس ينام بكسل فوق جهاز إرسال التلفاز.

“بيدي هاتين بنيت هذا الجمال”.. تزوير الحقائق

تأخذنا كاميرا المخرج إلى أولئك الشخوص المحدودين أكثر من مرة، تعاينهم بلا ملل أو كلل، وتعيد التأكيد على واقعهم، لتنقل لنا جزءا منه، وبين تلك النقلات أو الزيارات الدورية يعمل المخرج على سرد بصري يؤثث فيه عمله.

نرى مشهدا يظهر فيه مخرج إسرائيلي يطلب من ممثل يهودي يبدو من لكنته أنه قادم من روسيا أن يقول جملة: “بيدي هاتين بنيت هذا الجمال” ويشير لسقف منزل فلسطيني يعتبر تحفة معمارية، يطلب منه المخرج أن يعيد الجملة بالعبرية مرات عدة ويفشل في ذلك كل مرة.

كما نرى مجموعة من المستوطنين تتجول في الحي القديم وتتفحص بيوته التي ستكون الصيد القادم في موسم السرقة الممتد، ونرى يهودية تطرق باب أحد البيوت وتسأل عن إمكانية بيع البيت أو استئجاره، ونرى مشهدا يظهر إعلانات لشراء بيوت الفلسطينيين، وآخر لفتاة تغسل يديها باستمرار كأنها تعاني هوس النظافة، ونرى مشهدا لجرافات إسرائيلية تحفر عميقا بعد أن هدمت بيوتا.

كما تقف الكاميرا طويلا عند لقطات لنوافد بيوت وقد أغلقت بالأسمنت، وعلى بيوت نصف مهدمة، وعلى شوارع فارغة، وعلى مفترقات طرق باردة، وعلى أبواب أكلها الصدأ، وعلى حجارة البحر التي قذفت من جوفه واستقرت على رمله، ونرى البحر ومقبرة مهترئة الشواهد… إلخ من المشاهد الفرعية التي أثث فيها المخرج فيلمه، ونسج منه حكايته ومرثيته لتلك المدينة التي تسمى يافا.

وكأن جل هدفه معاينة المكان وبعض شخوصه، مكان خاوٍ إلا من بعض العائلات التي تجاهد للحفاظ على بقائها بكل ما تستطيع، فهل ستجدي دعوات الصمود لبشر يعتبر ذلك جزء من حياتهم.

كل ذلك جعلنا أمام فيلم له جمالياته البصرية والدرامية والجمالية الخاصة به.

أقارب المخرج.. أداء مميز وإيقاع بطيء في مدينة عاجزة

حمل شريط الصوت في الفيلم ما يوازي المدلول البصري وأثره، فهناك أصوات جرافات تدق الأرض، أصوات هدم منازل، أصوات عمليات البناء، نعيق غربان موحش، هناك الصمت الذي يشي بكثير من انعدام الحيلة وانعدام أي أفق للغضب والثوران، صمت الممثلين الذين نرى أنهم أمام عجزهم يفقدون قدرة الكلام إلا لماما.

هنا نقول إن رحلة تتبع الفيلم لحركة عدد قليل من الشخصيات التي تدور في دائرة مجهولة النهاية بدا متقنا، وتحديدا في قدرته على التعامل مع الشخصيات والخروج بأصدق تعبيرات لمشاعرهم وفي حالات ضعفهم الإنساني، وهو ما تحقق بفعل قرب المخرج من هذا الفريق، فكثير من الممثلين هم أقارب للمخرج، وهو ربما ما أوصله إلى درجة عالية من الأداء التمثيلي تركز على حركة الوجوه والانفعالات والعلاقات والصمت، والارتكاز على تعابير الممثلين وحركاتهم اليومية والتقليدية أيضا.

أما فيما يخص إيقاع الفيلم البطيء، فكان تجليا لإيقاع المدينة أو الحي القديم والبشر المهددين فيه بالتهويد، لكنه بدا مملا ورتيبا في كثير من الأحيان.

إيليا و”غودار”.. أسلوب غير موفق يقتبس من الكبار

يدرك المشاهد بسرعة أن مخرج “ميناء الذاكرة” ممسوس بأسلوب المخرجين الفلسطيني إيليا سليمان في فيلم “يد إلهية” و”الزمن الباقي”، وكذلك المخرج الفرنسي “جان لوك غودار” الذي كان من رموز ما عُرِف بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية.

المخرج الفلسطيني كمال الجعفري

ففي العمل الجديد حاول الجعبري تقليد أسلوب إيليا سليمان من حيث الحوار القليل جدا، والاعتماد على الصور وجمالياتها ومحاولة استنطاقها، وكذلك الاتكاء على تعابير الممثلين الذين أدوا شخصيات مختلفة للتعبير عن الحالة النفسية التي يعيشونها وواقعهم، وتكرار المشاهد لمنحها دلالات بعينها… إلخ من الفنيات التي عرف بها إيليا سليمان و”غودار” أيضا.

لكن ذلك الأسلوب لم يكن متقنا بالدرجة الكافية، فمحاولة تقليد إيليا الذي يبهر المشاهدين بأفلامه لم تصل إلى درجة النضج، بدت تقليدا غير متقنا، وهو ما أوقع الفيلم في مطبات منها بطء الإيقاع الذي أورث المشاهدين شعور الملل بفعل التكرار غير المدروس لمشاهد منحت دقائق من زمن الفيلم، دون أن تضيف الكثير في رصيد الفيلم أو في التأثير على المشاهدين.

ملل الشخصيات.. فيلم مختلف يبحث عن مُشاهد مختلف

في اللحظة التي شعر المشاهدون فيها بالملل والرتابة وتساءلوا عن جدوى التكرار في بعض المشاهد، وقع الفيلم في خلل، هنا لم يكن ذلك الشعور نابعا من إحساس المشاهد بالشخصيات وواقع المدينة، وهو الهدف الأصلي لذلك الأسلوب الذي استخدمه المخرج.

فهناك ملل تعيشه الشخصيات، واقع بارد مليء بالانتظار والرتابة والمصير المجهول، هي حالة تقطع الأنفاس، واقع تلك المدينة والحي الموحش ثقيل جدا، رغب المخرج بتوصيله للناس، جزء منه وصل فعليا بينما جزء آخر منحهم مللا ربما كسر تلك الحالة من الإحساس بالشخصيات في ظل عدم وجود أحداث فعيلة تحرك الفيلم أو دراما واضحة، اللهم إلا الدراما الداخلية للعمل نفسه، دراما عاشتها الشخصيات دون أن تخبر بها.

بقي أن نقول إن الفيلم حائز على جائزة “لويس ماركوريل” في تظاهرة مهرجان أفلام الواقع في باريس، وهو عمل مختلف رغم بعض عيوبه الفنية، لكنه يحتاج يقينا إلى مشاهد مختلف أيضا، فهل يحفر هذا النمط من الأفلام شعورا عميقا في نفوس متلقيه، في ضوء وعينا الكبير بتكرار الألم الفلسطيني وامتداده طوال خمسين عاما، وهو ما يتطلب طرقا وأساليب فنية جديدة ومختلفة لتناوله وعكسه وتقديمه.