“الحارقون”.. جريمة السواحل التي تطعم البحر أجساد أبنائها

يمثل موضوع الهجرة غير الشرعية موضوعا أثيرا لدى سينما العالم الثالث في صنفيها الروائي والوثائقي، وقد بدأ هذا الموضوع يشكل ظاهرة في السينما المغاربية، ومن الطبيعي أن يكون لتونس نصيبها من هذه الظاهرة السينمائية مثلما كان لها نصيب مهم من ظاهرة الهجرة غير الشرعية نفسها.

تابع الجمهور التونسي هذه الأفلام في اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي وفي أيام قرطاج السينمائية عام 2010. ومن أهم ما عرض في اللقاءين فيلم وثائقي للمخرجة ليلى الشايبي بعنوان “الحارقون”، وهو فيلم قصير في 26 دقيقة يعالج موضوع الهجرة غير الشرعية، لكنه ينطلق من حادثة حقيقية، وهي غرق قارب مجموعة من المتسللين للضفة الأخرى من المتوسط، وكان معظمهم من مدينة المرسى التي تقع على ضفاف البحر الأبيض المتوسط على بعد 18 كيلومترا شمال مدينة تونس، وينحدر هؤلاء الضحايا من منطقتي البحر الأزرق وعين زغوان، وهي أحيانا تمثل جزءا من حزام خطير من الفقر عرف بعمليات السلب وتفشي الجريمة.

“شكون ما هوش محروق؟”

يبدأ الفيلم بصباح تونسي عادي وشاب عاطل يتثاءب أمام البحر، ثم يأتي المشهد الموالي لصورة أناس من كل الشرائح الاجتماعية تتصفح الجرائد، قبل أن تأخذنا الصورة إلى عناوين الصحف التي تروي قصص الحارقين والمفقودين في البحر القاتل، ثم تبدأ مقدمة البداية لتعلن عن عنوان الفيلم “الحارقون” وسط موسيقى جنائزية تنتهي مع العنوان بصوت احتراق.

يبدأ الفيلم على صوت التكبير “الله أكبر” ليكون المشاهد منذ البداية أمام جنازة وكأن تلك النيران التي سمعنا صوتها خلفت ضحية أولى تظهر في الشاشة محمولة في تابوت على الأكتاف ويحمل التابوت اسم المنطقة عين زغوان.

هذا التابوت الذي حمل جثة واحدة يحوّله الفيلم بطريقة فنية موحية إلى تابوت جماعي يحمل اسم المنطقة كلها، وكأن الجنازة جنازة حي بأكمله، بعضه داخل التابوت وبعضه خارجه، لكن كلهم ميتون بوجوه الحزن التي يحملونها. وتأخذنا الكاميرا الذكية الأمّارة بالتأويل إلى معنى الغرق الجماعي في رمزية الغريق الواحد، والاحتراق الجمعي هو ما تؤكّده المخرجة في التقاطها لعبارة يتيمة من فم امرأة في المأتم حين قالت: شكون ما هوش محروق؟

ليس الشاب، إذن، إلا رمزا لبقية الشباب الذين هم في طريقهم إلى القدر المحتوم، لذلك لا تتردد المخرجة في المراوحة بين الحديث عن المفقودين، وبين الحديث مع العازمين على الحرقة، وتصوير آخرين في حال من اليأس في الشوارع، ينظرون إلى البحر العدو والملاذ.

مطاردة الحلم والهروب من إزعاج الأمن.. دوافع الهجرة

تبدأ رحلة الكاميرا بين المحترقين بنار الفقدان: عائلات الضحايا ووجوه الأصدقاء والحالمين بقارب الموت مدفوع الأجر. تأتي الشهادة الأولى لأحد الناجين من الحرقة بعد أن غرق رفاقه، ويؤكد أنه دفع 1500 دينار تونسي ليعيش تجربة الموت، أو يشتري الموت بالمال كما قال.

الفيلم عبارة عن شهادات حية للأهالي ولأبناء المنطقة ورصد لهواجس الشباب، وهم يغالبون الحلم البعيد في الضفة الأخرى بمعاقرة الخمرة وحفر الأوشام على الجلد، يسترجعون قصصهم عن الحرقة ومحاولات الإفلات من اليابسة واقتحام البحر، مذكرين بجماعة رواية “الديكامرون” للكاتب “جيوفاني بوكاشو” الذين يغالبون الطاعون والمجاعة برواية القصص لبعضهم.

أسئلة كثيرة يطرحها الفيلم عن عالم الحرقة أسبابه ونتائجه، ترجع العائلات سبب الظاهرة إلى حاجة الشباب وبطالتهم وتطلعهم لحياة أفضل، ويرى البعض الآخر أنها تفاقمت نتيجة حب التقليد والرغبة في الإمساك بالحلول السهلة، بينما يرجع والد الشاب المفقود سبب الظاهرة إلى الضغط المسلط عليهم من قوات الأمن، أو ما يسميه بالرافل الذي أصبح يطارد هؤلاء الشباب في الشوارع، مما جعلهم يفكرون في الهجرة بأي طريقة، وهو ما دفع ابنه إلى أن يدفع ألفي دينار لشق البحر الذي أدّى إلى مقتله غرقا.

“خرجت كاره الدنيا”.. صرخة قهر من أجساد يائسة ناقمة

لئن كان الحلم أهم الدوافع التي تكرّرت في الأفلام التي تناولت الموضوع، فإن فيلم “الحارقون” سلّط الضوء على سبب آخر بدا مغيّبا في الأفلام الأخرى، وهو خطورة المجتمع الطارد للأفراد، ليسوا الفقراء هذه المرة، وإنما هم التائبون أو أصحاب السوابق الخارجون من السجون، والعائدون إلى القانون الذي خرجوا عنه. شريحة تجد أمامها الرفض المطلق من المجتمع ومن المؤسسة، فلا أحد يريد أن يشغلهم. أجساد مدرّبة على اقتراف أي شيء تُجوّع بتهمة السوابق العدلية.

تبدو هذه الأجساد مثل القنابل الموقوتة أجسادا يائسة وناقمة، تقول شخصية من شخصيات الفيلم “خرجت كاره الدنيا”، فالكراهية إذن هي كل ما كسبه من دفعه ثمن جريمته ودخوله السجن، كراهية زرعها فيه المجتمع الطارد، وما زاد الأمر تعقيدا هو أن هذا الطريد يحمل قناعة أن الدولة تخصص مشاريعها لأصحاب الشواهد، وهو لا يرى نفسه مذنبا بعدم إكمال تعليمه، ولا يرى في ذلك سببا لأن يقضي نحبه جوعا يقول “أنا ما قريتش على روحي. نموت؟”

من يرى نفسه ضحية بهذا الشكل، ويرى أنه مهدد بالموت من التهميش، سيقدم على الموت إذا كان فيه نسبة ضئيلة من النجاة، ولكن الأخطر أنه مثلما يقدم على قتل نفسه، ربما يقدم عل قتل الآخرين، ما دام في قتل الآخر أمل في النجاة أيضا من الفقر ولو لحين.

هكذا يزرع التهميش أولى بوادر ولادة التطرّف في المجتمع، هؤلاء هم الفريسة المطلوبة لمافيا التطرف والإرهاب، وقد أومأ إليها الفيلم ولم يطرحها صراحة، وهذا من مميزات الفيلم، أنه يتركك تفكّر وتكمل ما بين السطور دون عملية تلقين صريحة.

أرواح  مهدورة بين أمواج البحر.. جريمة مجتمع

يقول الباحث الجامعي العادل خضر في دراسة له بعنوان “الحارقون والمحترقون”:” يخوض الحارقون مغامرة البحر، فهم يواجهون خطر الموت غرقا، لكنهم بركوبهم البحر يستعيدون النّشاط الملاحيّ القديم، أي نشاط المخاطرة، وقد أضيفت إليه تقنيات السّعادة الجديدة، فكلّ واحد من الحارقين إنّما هو ذاك الكائن الذي يتّجه دوما إلى الأمام بالارتماء في المجهول. فهو يمثّل انتقالا من “الكائن المقذوف في العالم” على حدّ عبارة “هيدغر” إلى الكائن المندفع في العالم، الّذي أضحى شكل وجوده هجوميّا اقتحاميّا في العالم، في سياق معولم يبيح انتقال البضائع والأشياء والمواضيع بجميع أشكالها المادية أو الافتراضيّة، ويعطّل في شبكته الهائلة تنقّل البشر.

ويضيف في المقال نفسه: ضرب الحارقون في مغامرتهم عرض الحائط بتلك الحكمة القديمة التي تقول “الداخل إلى البحر مفقود، والخارج منه مولود”، وتستعيد في الآن نفسه الخيار الذي راج في الأزمنة الحديثة، زمن الاكتشافات والاستكشافات؛ “المرفأ أو الموت”، فبين الرّهبنة الدّينيّة والانتحار يبدو عبور البحر حلا ثالثا يمنح الحارقين خلاصا مؤقتا من حياة أصبحت لا تطاق في وطن مخيب لكل أمل، وهم بهذا الخيار يصنعون جنّة تقع في هذا الما بعد الأرضي المنفتح على كلّ الأخطار.

فيلم “الحارقون” لا يحقق في جريمة بعينها كما قد يتراءى للبعض، فلو كان همه أن يحقق لتتبع بعض التعليقات والتصريحات حول مسؤولية الحرّاق، وإنما كان همه التحقيق في جريمة أكبر، وهي فكرة الحرقة في حد ذاتها، لماذا نرمي بأنفسنا للبحر؟ يتساءل الفيلم بين طياته هل المجتمعات التي ترمي أبناءها إلى الجحيم يمكن أن تكون مجتمعات سوية؟

تظهر قمة اليأس على شاب متزوج وأبٍ لطفلة، يروي قصة فشله في الحرقة، ويختم حديثه أنه لم يستبعد فكرة الحرقة، وأنه لن يفوّت فرصة جديدة تتاح له، ولكنه إن وجد المال سيصرف على زوجته التي يحبها وعلى ابنته، ولن يغادر.

“الحبس، ولا الحبس في بيتك”.. كائنات ضارية تحركها الخصاصة

يترك الأب في الفيلم أبناءه وزوجته، ويفر إلى المجهول لتأكله الأسماك، وتبقى الزوجة تطارد لقمة العيش لها ولأطفالها، وتفكّر كيف ستجيبهم عندما يسألونها عن قبر والدهم الهالك.

فيلم “الحارقون” يصور أحلام الشباب الضائعة في لقطة خاطفة لحذاء معلّق على خيط الكهرباء، إشارة إلى عبارة “تعليق الصبّاط” (أي الحذاء).

لقد يئست الأجساد النشيطة قبل أوان اليأس بفقدان الأمل، فحتى الأطفال بعضهم يحلم بأن يكون ضابط شرطة لكيلا يسجن، إنه انعكاس لما يعيشونه، فالكبار العاطلون أصحاب السوابق من أقاربهم ومعارفهم مطاردون دائما ومراقبون، وهذا ما عبّر عنه الرجل العاطل صاحب السوابق الذي رفضه أرباب العمل، إذ قال “الحبس، ولا الحبس في بيتك”، فهو من مجموعة مشتبه فيها دائما ومثار ريبة طوال الوقت، إنها كائنات ضارية يحرّكها الجوع والخصاصة.

ينتهي الفيلم على صوت أخي مروان الغريق الذي يُعرّف الحَرقَة بأنها حرقة قلب وفقدان واحتراق لنصفه الآخر؛ أخيه. قارب ورقي تلوح به الأمواج حتى تقلبه، رمز لهشاشة هذه الأحلام التي تقلبها أمواج المتوسط بسهولة، ولكنها تقلب معها أوضاعا وعائلات ومجتمعات وشعوبا تنزل أكثر فأكثر نحو الجريمة والتطرّف، وتبتعد رويدا رويدا من تحت خط الفقر.

مأساة البحر.. تنين يحرق فلذات الأكباد

يختصر فيلم ليلى الشايبي “الحارقون” عالم الحرقة من خلال قراءته للمجتمع الذي يقوم بتفريخ الحارقين والحاقدين؛ هذه الشعوب التي يأكلها البحر وتلفظها الشواطئ. إذ البحر في الفيلم يظهر مثل وحش بشع يصطاد شباب البلاد وفلذات الأكباد وأرباب الأسر، فكلما أظهرت المخرجة البحر رافقته موسيقى مرعبة، كما لو كان تنّينا عظيما يخرج ليحرق الرجال.

يستجوب الفيلم شخصيات عدة، ولكنها في النهاية تروي قصة واحدة تكمل بعضها، وقد نجحت المخرجة في توليفها عبر مونتاج جيد وموسيقى جنائزية موحية بفداحة الخسران.

بعض مشاهد هذا الفيلم ذكّرتني بفيلم “المطار حمام الأنف” لسليم بالشيخ الذي يتطرّق إلى نفس الموضوع من المنطقة الأكثر شهرة للحرقة؛ منطقة حمام الأنف، حتى أنها سميت بالمطار تجاوزا.


إعلان