“ثمن الانتظار”.. استيطان محتال يلتهم منازل المقدسيين لمحو الوجود العربي

بعد احتلالها بالقوة العسكرية، غداة الخامس من حزيران عام 1967، لم تترك قوات الاحتلال الإسرائيلي وسلطاته وسيلةً إلا انتهجتها، ليس من أجل إحكام السيطرة على مدينة القدس فقط، بل من أجل إجراء تغييرات جوهرية تطال طابع المدينة وهويتها، لتمحو عنها الصفة العربية والإسلامية، وتؤسس لهوية يهودية إسرائيلية تتوافق مع المشروع الصهيوني الاستيطاني الإجلائي الإحلالي.

تحاول المخرجة أماني الخياط في وثائقيها المتوسط الطول “ثمن الانتظار” (2009)، أن تكشف سياسة الإجراءات الإسرائيلية وخطورتها تجاه مدينة القدس، بالعمل على إفراغها من سكانها العرب، والسعي إلى تهويدها بمختلف الحجج والذرائع والممارسات المعلنة والسرية، الواضحة والخفية، المكشوفة والغامضة.

أملاك الغائبين.. اقتحام البيوت المقدسية على أهلها

يتمثل القسط الأول -وربما الأهم من الفيلم- في الكشف عن سياسة إسرائيل في قضم القدس بيتا بيتا، فمنذ البداية نرى امرأة فلسطينية مقدسية تعبر عن مخاوفها من ممارسات المستوطنين: “والله يا أختي أنا ما بفتح لحدا، كسروا الباب، فتحوا باب الدار الرئيسي، دخلوا من الباب، ومن ع السطوح”. لتكشف عن عمليات اقتحام البيوت الفلسطينية التي تكون تارة بالقوة وتارة بالتحايل، وأخرى باستغلال غياب أصحاب البيوت لأي شأن من شؤونهم اليومية، واعتبارها من “أملاك الغائبين”.

بات من الشائع في القدس أن يقوم مستوطنون من عتاة الصهيونية باقتحام بيوت عربية ودخولها، ثم احتلال غرف منها، أو التمركز على أسطحها أو في باحاتها، ووضع أشياء من الأثاث، مما يعني في النهاية وضع اليد على البيت.

تتواطأ الحكومة الإسرائيلية بأجهزتها المختلفة من الجيش والشرطة والبلدية وجهات أخرى معلنة ومستترة، في تيسير عمليات قضم البيوت هذه، متذرعين بإمكانية الاحتكام إلى القضاء الإسرائيلي، للبت بالأمر، في حين يريد آخرون تحويل الأمر إلى مقايضات وإغراءات، مقابل تحذيرات ومضايقات.

“إذا جاء مليونير واشترى بيتا، فأين المشكلة؟”

يقول د. “مردخاي كيدار” وهو أستاذ في مركز بيغن للدراسات الاستراتيجية: “إذا جاء مليونير واشترى بيتا، فأين المشكلة؟ هل لأن هذا المليونير يهودي؟” في تبسيط فاضح من المفترض أن لا يليق بمكانته الأكاديمية التي يدعيها.

بينما تكشف جهاد أبو زنيد، وهي نائب في المجلس التشريعي عن القدس، عن وجود عصابات ومستوطنين ومؤسسات تدفع الملايين، من أجل الاستيلاء على بيت صغير في القدس، مما يعني أن الأمر يتجاوز مجرد كون البيت عقارا قابلا للبيع والشراء.

معمر مقدسي متشبث بجدار بيته ويخاطب المحتل بأنه لن يرحل

البيت في القدس ليس مجرد عقار، إنه هوية وحياة ووجود، والمرأة الفلسطينية المقدسية تقول إن المستوطنين باتوا يأتونها في الأحلام على شكل كوابيس، وهي لا تملك سوى الدعاء للرب أن يحميها ويبقيها في بيتها، وأن تمضي بقية العمر في دارها.

“تثبيت الوجود الإسرائيلي في الحي العربي”.. معركة الهوية

يعرض الفيلم لعدد من مظاهر معاناة الفلسطينيين المقدسيين، فبينما يؤكد أحد سكان جبل المكبر أنهم يعيشون في بيوت من الصفيح معزولين منفيين، ينامون على فرش على الأرض كأسنان المشط؛ يصف آخر الظروف المادية الصعبة، والاضطرار إلى الاستدانة من أجل بناء بيت يعيش فيه، ويعرف أن البلدية سرعان ما ستهدمه، ويبين ثالث الامتيازات الممنوحة للمستوطنات، مقابل الإهمال الذي يواجهه الحي العربي في القدس.

قضم القدس بيتا بيتا هو ركيزة أساسية لسياسة “الاستبدال الهادئ” الذي يجري بواسطة سياسات ملتوية غير قانونية، كما يقول أحد المحاميين الفلسطينيين، والهدف هو “تثبيت الوجود الإسرائيلي في الحي العربي بالقدس الشرقية”، في حين تكشف النائب جهاد أبو زنيد عن خطة إسرائيلية للاستيلاء على 4 آلاف بيت وهدمها، ومصادرة المزيد من الأراضي، ومنع بناء أي بيت، بحجة أنها “أراض خضراء”.

وقفة احتجاجية رفضا لقرار إخلاء منزل عائلة صالحية في حي الشيخ جراح بالقدس

وفضلا عن الاستيلاء عن البيوت، ووضع اليد عليها بالقوة أو بالتحايل، تستكمل الحكومة الإسرائيلية إجراءاتها من خلال سحب الهويات من الفلسطينيين المقدسيين، والامتناع عن الموافقة على طلبات لمّ الشمل، ومطاردة حمَلة هوية الضفة الغربية، من خلال اعتبار وجود المرء منهم غير قانوني، حتى في بيته. نعم في منطق الاحتلال الإسرائيلي، أصبحوا مقيمين غير قانونيين في بيوتهم التي جرى ضمها.

يختتم الفيلم بالمرأة الفلسطينية المقدسية وهي تقول: والله خايفة على داري، زي ماني خايفة أكثر من روحي، هذه حياتي الدار، لما تعيشي كل حياتك فيها، كل الأيام الحلوة فيها، بيهون لك فيها؟

ويبقى سؤالها يتردد، والآذان في صمم.

“ثمن الانتظار”.. بحث عن التميز في حقل السينما الفلسطينية

ليس من المبالغة في شيء القول إن الأفلام الفلسطينية -على الأقل- لم تترك جانبا مما يتعلق بالقدس، إلا تطرقت له بشكل من الأشكال، سواء في الأفلام الوثائقية أو الروائية القصيرة، وحتى الروائية الطويلة، الأمر الذي يمكن أن يشكل صعوبة مضافة تواجه من يريد المساهمة في الموضوع، خاصة إذا رام تحاشي التكرار، وتلافي وقوع الحافر على الحافر، وإذا كان في صلب أهدافه تقديم قول جديد، أو طرح رؤية أخرى، أو تناول تفصيل مما تحفل به القدس؛ مدينةً وقضية ومصيراً.

وبمقدار ما تمثل القدس قضية محورية وعنصرا جوهريا في مسائل الصراع العربي الصهيوني، وبمقدار ما يمكن للقدس أن تكون ركيزة في أي تحرك مستقبلي في المنطقة عموما، ولدى الفلسطينيين خصوصا، فقد كان للقدس أن تأخذ حضورها في وسائل التعبير كافة، من الشعر إلى القصة والرواية، ومن الفن التشكيلي إلى المسرح والسينما، ولم تتأخر الفضائيات والشركات الإنتاجية المتخصصة وغير المتخصصة عن المساهمة في هذا الإطار.

في العام 2009، ومع العزم على إنتاج هذا الفيلم “ثمن الانتظار”، يمكننا النظر إلى المشهد الفيلمي الفلسطيني المنجز بصدد القدس، لنجده يعج بتناولات متعددة، متوازية ومتقاطعة، تتفاوت فيها الاتجاهات والآليات والوسائل والسبل التي اعتمدتها هذه الأفلام للقول بشأن القدس.

صحيح أن منها أفلاما بلغت ذرى درامية سينمائية عالية، وأخرى اكتفت بصيغة التقرير التلفزيوني والتحقيق الصحفي، إذ احتفت بالمضمون على حساب الشكل، على اعتبار أن الموضوع (القدس) في غاية التعقيد بين ما هو ديني ودنيوي، وما هو سياسي ووطني وقومي، إلى الدرجة التي يمكن معها القول إن القدس هي تاج القضية الفلسطينية وركيزتها، ولكن الصحيح أن صورة القدس تتوزع بين هذه الأفلام في تقاطعات واسعة، وتشابهات راسخة.

يدخل فيلم “ثمن الانتظار” هذا الحقل، وهو يدرك صعوبة العثور على أرض غير محروثة من قبل، سواء أكان المراد الحديث عن الرواية التاريخية للقدس منذ أقدم العصور إلى اليوم، أو مأساة سقوطها تحت سنابك جند الاحتلال الإسرائيلي غداة الخامس من حزيران 1967، وصولا إلى الحديث عن الممارسات الإسرائيلية تجاه مدينة القدس؛ المدينة المكان، والبشر السكان، والهوية الوجود، والمستقبل والمصير.

لا شك أن الفيلم يلفت النظر منذ البداية إلى أنه يتمتع بتصوير مميز، أمكنه أن يظهر القدس مدينة أصيلة راسخة الوجود والحضور، ولعل اعتماده على البناء الصوتي أساسا سمح للصورة أن تتحرك بحرية وطلاقة، من دون كثير من التقيد، حتى بدا أن جزءا من الفيلم -بمصاحبة الشهادات والآراء الصوتية- أتى على شكل استعراضات بصرية تقدم القدس، ببيوتها وحاراتها وأزقتها ودكاكينها، بجدرانها وأرضياتها وألوانها.

صوت الفيلم.. دعاوى مالك الأرض المظلوم والمحتل المحتال

منذ اللحظات الأولى يكشف الفيلم أن عماده الأساس هو القول، إلى درجة أنه يقدم في مشاهده الأولى تمهيدا أوليا يقوم على مونتاج صوتي لأقوال فلسطينية وإسرائيلية، ووجهات نظر متناقضة تكاد تلخص الفيلم كله، ويمكن استغراب هذا الأمر، على اعتبار أنه غير متعارف عليه في الفيلم الوثائقي، لكن لا يمكن رفضه، خاصة أنه ينجح في شد انتباه المشاهد ودفعه إلى المتابعة، ربما بالفضول.

يقوم الفيلم على صوتين أساسيين يتوزعان على بنية الفيلم، الصوت الأول هو للفلسطيني المنكود بالاحتلال والمرصود بالطرد والتهجير، ولعل هذا ما جعل صوته في الفيلم يدور حول تفاصيل واقع الحال الراهنة، والمشكلات التي يبرع الاحتلال ودولته وسلطاته في اختراعها، أما الصوت الثاني فهو للمحتل الإسرائيلي الساعي للقفز فوق واقعة الاحتلال، بالادعاء بأحقيته التاريخية في القدس منذ ثلاثة آلاف عام، باعتبارها “أرض الميعاد”.

بيت في سلوان بالقدس تم الاستيلاء عليه من قبل المستوطنين اليهود ويضعون عليه علم إسرائيل

تهتم صورة الفيلم بإبراز الهوية الفلسطينية للمكان، بمواجهة الوجود الإسرائيلي الغريب والنافر عن المكان، سواء تبدى من خلال الأعلام المرفوعة والأسلاك الموضوعة، أو الجنود المنتشرين، أو المستوطنين المأفونين، لكن ثمة صوتا يقدمه الفيلم على أنه إسرائيلي (د. دووف حنين)، يبدو محاولا التوازن بين القول بحق الفلسطينيين بالحياة في بيوتهم من جهة، وحق إسرائيل في أخذ الاعتبارات الأمنية التي تقلقها من جهة أخرى.

“ليس هناك سبب للتنازل عن القدس”

لا يتوقف الفيلم عند تفصيل ما ليشبعه قراءة أو رصدا أو تحليلا، بل إنه يمر على كل ما يمكنه من تفاصيل، تبدأ من السيطرة على البيوت بالقوة أو بالاحتيال، ويتحدث عن المصادرة والمنع والطرد والتسفير وأشكال الحصار والضغط، من فرض الضرائب الباهظة على المحلات والدكاكين، إلى الاستملاك ووضع اليد، وليس انتهاء بالمشكلة الديمغرافية التي تنفخ في كيرها المحتل.

“سنعود”.. شعار كل الفلسطينيين في العالم

تبقى المشكلة الأكبر أن وضع الصوت الفلسطيني في مواجهة الصوت الإسرائيلي، على النحو الذي ظهر في الفيلم، لم يكن موفقا بالشكل المناسب، فالفلسطيني يشكو من سوء الحال وبؤس الواقع وإجحاف الممارسات، بينما المحتل الإسرائيلي يستحضر التاريخ ويتحجج بالقوانين ويتلطى وراء القضاء.

يقول د. “مردخاي كيدار”: “ليس هناك سبب للتنازل عن القدس”. وعلينا القول إن الجهود الشعبية الفلسطينية لأهالي القدس جميعها، لا تكفي وحدها، وبالتالي لا بد من دعم المقدسيين، وتمكينهم من البقاء في القدس، وإلا فلنبدأ منذ الآن كتابة بيان نعي القدس.


إعلان