“تونسيون من الضفتين”.. جمعيات الجيل الجديد من المغتربين في المهجر

فيلم “تونسيون من الضفتين” هو رابع عمل للمخرج التونسي المقيم بباريس فتحي السعيدي، ويتنزل الفيلم في نفس السياق الذي تخيّره السعيدي لمجمل أعماله، فهو لا يهتمّ بالكمّ بقدر ما يسعى لتقديم سينما وثائقية ترضي رغبته الإبداعية، بعيدا عن تعب البحث عن التمويل والدعم.

ينتج فتحي السعيدي للمرة الرابعة عملا وثائقيّا طويلا على نفقته الخاصة، ويرى أنّ عدم التزامه بشركة إنتاج أو دعم حكومي يترك له هامشا من حرية اختيار الحيّز الزمني لصنع الفيلم، لذلك فهو يأخذ وقته بالكامل في التصوير والمونتاج، فلا ضغوط تلزمه بالإسراع في إنهاء أي عمل من أعماله.

الأنثروبولوجيا البصرية.. أسلوب فريد يميز أعمال السعيدي

أنتج المخرج فتحي السعيدي فيلم “بحبح وأنا” سنة 1995، ونال عنه جائزة أول إنتاج في مهرجان “جون روش السينمائي” بباريس في نفس السنة، ثم أنتج فيلمه الثاني “عمارة” سنة 2002، ثم فيلم “فراق” أو (Séparation) عام 2010، وكان ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة في أيام قرطاج السينمائية في دورتها الماضية.

بعد هذه التجارب الثلاث يستعد السعيدي لوضع اللمسات الأخيرة على عمل سينمائي وثائقيّ جديد يحمل عنوان “تونسيّون من الضفتين” ويأتي في نفس التمشّي، وهو اعتماده الإنسانَ منطلقا وهدفا، ليشتغل على الأنثروبولوجيا البصرية، من خلال العمل على واقعية السيناريو وعدم الاعتماد على الحوارات المباشرة، بل يترك للكاميرا حرية التجول والتصوير، ومن ثمّ تأتي عمليات الانتقاء الآنية، فالسعيدي يقوم بعمليات المونتاج الأولية أثناء التصوير، بما يتلاءم والفكرة العامة للعمل.

جمعيات الغربة.. فعاليات لخدمة المحتاجين في المهجر

بدأ السعيدي تصوير عمله الجديد هذا منذ أكتوبر 2010، وهو فيلم وثائقي يسعى لتقديم نظرة أخرى عن المهاجرين التونسيين في فرنسا، من خلال التركيز على عمل جمعيتين تونسيتين في باريس، الأولى تعدّ من أقدم الجمعيات هناك، وتقدم دورا مهما للعائلة التونسية في المهجر، كما تقوم بمساعدة المهاجرين الجدد، وخاصة المهاجرين بشكل غير شرعي.

أمّا الثانية فهي جمعية حديثة أسسها جيل جديد من التونسيين وجميعهم من أصحاب الشهادات الجامعية، إمّا أنهم درسوا في فرنسا واستقرّوا بها، أو أنهم انتقلوا إليها بعد إتمام دراستهم، في إطار الهجرة الاختيارية، وتقوم الجمعية بعدد من الفعاليات، لعلّ أهمّها مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة من التونسيين المقيمين في بلدهم، وفي ذلك تأكيد على تواصل الأجيال لا صراعها.

 

هجرة الجيل الجديد.. مفاهيم مغايرة للغربة والاندماج والمواطنة

يريد الفيلم التأكيد على أنّ الغربة لم تعد تعني مفهوم المسافة والبعد عن الأهل والبلاد، ولكنها تكتسي أشكالا جديدة، وتحمل أبعادا أخرى قد تلغيها تماما عوامل ما فتئت تتكرس في المجتمعات الحديثة، ويبرز ذلك من خلال عمل الجمعيتين على كسر حاجز الغربة بمفهومها التقليدي.

فالفيلم كما يقول صاحبه “يعالج القضايا المتصلة بالهجرة، وربطها بالاندماج والمواطنة والتضامن والتنمية في المجتمع الفرنسي والمجتمع التونسي. مع التأكيد على أهمية عمل الجمعيات للمهاجرين، في إطار من القيم التي تنتقل وسط المجتمع المدني والمشاركة والتبادل الثقافي والحضاري. مع السعي لإبراز أوجه المشاركة في النسيج المجتمعي الفرنسي اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا للتونسيين الذين اختاروا العيش في فرنسا”.

اشتغل المخرج على دور جمعيتين تبدوان مختلفتين من حيث الدوافع والأهداف، ولكنهما في حقيقة الأمر تصبّان في خانة واحدة، وهي خدمة المهاجر التونسي والمواطن التونسي المقيم في تونس ولو بطرق مختلفة، الأولى هي جمعية تونسيو فرنسا في باريس، وهي من أقدم الجمعيات، والثانية هي (TunAction) أول جمعية إنسانية يؤسسها تونسيون في فرنسا ويقودها شبان. علما أنّ فرنسا تسمح بتأسيس جمعيات لكلّ الأجانب المقيمين بها في إطار تشجيع التنوع الثقافي.

هجرة الأدمغة.. نزيف يضرب جسد الأكاديمية التونسية

هذا الفيلم -حسب ما يؤكد مخرجه- يضعنا أمام هجرة جديدة، ليست تلك التي تعتمد اليد العاملة في الصناعات والبناء مثلا، ولكنها هجرة خاصة جدا، هجرة كفاءات تونسية مبدعة غيّرت علاقة المهاجر ببلده الأصلي، وجعلته يرتبط ارتباطا تضامنيا مع بلاده التي تركها مختارا وليس مكرها.

وتتجلّى قيم تك العلاقة فيما تقدمه الجمعية الثانية من أعمال تضامنية مع جمعيات تعنى بالمعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة في تونس، ليس فقط بمدها بالمساعدات، بل بمتابعة سير عملها ودعمها.

ومما يحسب لهذا الجيل الجديد من المهاجرين تمكنهم من أحدث تكنولوجيات العصر، واعتمادهم على ما توفره التقنيات الاتصالية الحديثة والتحاور والتشاور وتبادل الخبرات والآراء في كل ما يتعلق بفعاليات الجمعية ومشاريعها، وكل هذا في إطار عمل جماعي متكامل ومتواصل.

تزايد تكاليف الإنتاج.. بحث عن التمويل لصناعة المشاريع القادمة

ها هو التصوير قد شارف على نهايته، رغم أن المخرج يودّ إضافة بعض المشاهد، لكنه في نفس الوقت يؤكد أنه يمكن أن يكتفي بما سجلته عدسته، ليدخل في عمليات المونتاج الأخيرة، ويبدو أنه اختار تأجيل ذلك لبداية العام، وكما أكد سابقا فإنه لا يعمل تحت ضغوط إنتاجية، لأنه ينتج أعماله ويصورها بنفسه، مما يجعله يعمل في ارتياح كبير.

وحول الدعم والتمويل أشار السعيدي أنه سيحاول الحصول على دعم من وزارة الثقافة التونسية لو أمكنه ذلك، فالتكاليف تزداد يوميا، وهو يعتمد على إمكاناته الخاصة في صنع أفلامه، لأنه اختار تمشيّا فنّيا لا تجاريّا لمسيرته، مما يقلّل فرص الدعم والتمويل الخاص.


إعلان