“قصيدة غزة”.. كارثة تضرب الإنسان والحيوان والأحلام والأرض
الفيلم الوثائقي “قصيدة غزة.. فلسطين” (Gaza-Strophe, Palestine) الذي أخرجه الفرنسيان ذوا الأصول العربية سمير عبد الله (لبناني) وخير الدين مبروك (جزائري)، هو أول فيلم اعتنى بتوثيق آثار الاعتداء الإسرائيلي على غزة في سنة 2009.
وهو أيضا أول كاميرا تتخطى معبر رفح لتصور كارثة أخرى، أو جريمة أخرى تضاف إلى جرائم إسرائيل الكثيرة ضد الإنسانية، وضد الفلسطينيين تحديدا، بعد صبرا وشاتيلا ودير ياسين وجنين وغيرها. وقد عرض الفيلم كاملا (95 دقيقة) في اليوم الختامي من مهرجان الفيلم المغاربي (الدورة الثالثة) بولاية نابل التونسية. وكان قد عرض تكريما لغزة وللمقاومة الفلسطينية.
نذكر في هذا السياق أن هذا الفيلم قد منع بثه في جميع القنوات الأوروبية، بضغط شديد من التنظيمات اليهودية ذات النفوذ في أوروبا، لأنه فيلم قد كشف عن بشاعة جريمة، بله كارثة إنسانية. ولذلك تعد كل صورة وكل لقطة وكل مشهد، وثيقة إدانة، بل إن الفيلم بأكمله هو شهادة، أو اتخذ شكل الشهادة، بالمراوحة بين الصورة والكلمة، أو بكليهما معا، لتوثيق هذه الكارثة.
ليس الشاهد شخصا محايدا رأى الوقائع، وروى ما جرى، ثم مضى كما يمضي كل شاهد في المحاكم القضائية، بل الشاهد في هذا الفيلم هو الصورة ذاتها. فماذا تحتوي؟
“الأرض الخراب”.. جولة على أطلال القصيدة الكارثية
الفيلم بأكمله هو جولة في مناطق غزة المختلفة من رفح وكفر دارم ودير البلح وخان يونس، إلى غزة وجباليا وبيت حانون، مرورا بالمناطق الزراعية ثم الصناعية فأحياء المدينة وبيوتها، وجميع مشاهده هي متشابهة من الدمار والإبادة والخراب. إنه تجسيد لقصيدة “الأرض الخراب” للشاعر الإنجليزي “توماس إليوت”، ولكن على أرض غزة.
إنه محاولة لتحويل هذه الكارثة التي لا تحتمل إلى تراجيديا، تفسح للذين نجوا من الموت مجال الحديث عما حصل بالكلام والشعر والغناء أحيانا، و”ما حصل” و”ما جرى” و”ما وقع” قد سجلت الصورة آثاره المرعبة، مشاهد لا نهاية لها من الدمار، منازل قد هوت تماما، وأخرى بقيت أنقاضها، وكثير منها صار أثرا بعد عين.
يحاول بعض من صورهم الفيلم من الضحايا أن يتذكروا مواقع الديار القديمة، وتخرج من تحت الأنقاض صبية مبتسمة، كانت تفتش عن لعبها وثيابها، وقد وجدتها مهشمة، ولكنها لم تجد ذويها.
“ماذا تبقَّى منكَ غيرُ قصيدةِ الروحِ المحلِّقِ في الدخان قيامةً
وقيامةً بعد القيامةِ؟”
محمود درويش
يقظة في عائلة لم تُبق إلا الذكريات.. قاعدة الحرب
القاعدة في أيام الحرب هي أن تستيقظ من نومك على دوي القصف والقنابل والرصاص، فلا تجد شيئا سوى جثث العائلة وأشلائها ودمائها. معظم الناجين هم بقايا عائلة من الأطفال، كانوا يرسمون على الأوراق ذكريات لا تروى بالكلام، تتحدث طفلة عن رسومها، فهذا أبوها، وتلك أمها، وهؤلاء إخوتها وأخواتها، لم يبق منهم أحد حيا.
حكايات التمزق العائلي والتشرد والشتات كثيرة، لكن أكثرها بشاعة على الإطلاق هو قتل الأبرياء أمام منازلهم، على مرأى من عيون الصغار. لم يستثن العدو أحدا، الشيوخ والأطفال والشباب، كل من يقبض عليه تطلق عليه رصاصة أو أكثر “بدم بارد”، إما في الرأس أو في الظهر أو في الفخذ.
وكان للطائرات نصيب الأسد من التدمير، فقد قصفت كل شيء تقريبا بطريقة منظمة، حتى لم يبق شبر من غزة سليما معافى عامرا، فطريقة القصف ليست حربية، وليس هدف الطائرات الانتصار على العدو وإخضاعه ليستسلم، بل إن طريقة القصف تعلن عن نوع جديد من الحروب هو حرب الإبادة.

“الدمار الشامل”.. جرائم تدمر الإنسان والحيوان والحلم
كلمة “الدمار الشامل” لها معنى حسي في هذا الفيلم، إذ لا يوجد استثناء، فالقصف بالقنابل وبالفسفور الأبيض، وبكل أسلحة الدمار الحديثة، قد أتى على الزرع والضرع، والأخضر واليابس، والعباد والبلاد، والجامد والمتحرك، فمشاهد الأبقار الميتة وخلو السماء من الطيور والأشجار المجروفة تُغني عن كل تعليق.
لم يبق من الحيوان إلا ثغاء كبش، وكلب هزيل، وجحش أعرج قد جرحت رجله الخلفية، أو الحمام الذي عاد إلى أطلال دياره القديمة، لم يبق من الطيور إلا الحمام، ولم يبق من الناجين شيء سوى ذكريات الذين ماتوا، أو صورهم المعلقة وأسماؤهم.
لقد أصاب العدو كل شيء، العقول والأحلام والكلام، حتى ترى بعض الضحايا يتكلم بوضوح، لكن سرعان ما يهذي ويضطرب كلامه، وترى شابا في عتمة الليل يتحدث عن أبسط الحقوق، حق الحياة، فقد صارت أحلامه كوابيس يومية، إذ يرى نفسه عاريا تماما في منامه، وجندي إسرائيلي يخرجه من منزله ويضعه أمام مدفع، ثم يطلق عليه قذيفة فيموت. هل هو الحلم بالحق في الموت بعد فقدان الحق في الحياة؟
حب الأرض.. إرادة قوية تقهر جيوش الاحتلال
أمام هذه الكثرة الكاثرة من المشاهد الجحيمية، هناك شيء واحد لم يتهشم، لم يفلح العدوان الإسرائيلي في قهره وإبادته، وهو هذا التعلق العظيم بالأرض، وهذه الإرادة الصلبة التي لم تزدها الجرائم اليومية إلا صلابة وعنفا، إنها إرادة الحياة.
ينتهي الفيلم بمشاهد البحر ومويجاته وقوارب الصيادين، وعودة الحياة في الأسواق، فنرى سوق الأنفاق بغزة، حيث تباع السلع المهربة وقد ارتفعت أسعارها أكثر من 200 مرة، ونرى اجتماع أبطال الفيلم في سمر، وبعض النكات الساخرة وخطابا لشاعر غاضب.
تتخلل مشاهد الفيلم، من حين إلى آخر، مقاطع من شعر محمود درويش من قصيدته “حصار لمدائح البحر”، وهو ينشدها بصوته العميق. يمكن أن نتساءل لماذا الشعر؟ لنتذكر أن درويش قد كتب إثر حرب بيروت سنة 1982 قصيدته العظيمة “قصيدة بيروت”.
صراع الكارثة والقصيدة.. عنوان مشبع بالمعاني والتأويلات
يتلاعب عنوان الفيلم بمعنيين، هما الشعر والكارثة. فكلمة (Strophe) الواردة في العنوان (Gaza-Strophe) يمكن أن تترجم بطريقة كنائية بعبارة “قصيدة غزة”، هذا إذا استحضرنا أن لفظ (Strophe) يعني في اللسان الفرنسي مجموعةً من الأبيات المنظومة في نسق محدد.
ويمكن أن نترجم عبارة العنوان (Gaza-Strophe) بـ”غزة الكارثة”، هذا إذا استحضرنا لفظ (Catastrophe) الذي يعني في أصله الإغريقي “جولة إلى الأسفل” (Katastrophe)، وليس الأسفل في سياق هذا الفيلم سوى غزة، أو استعارة غزة كما يقول المخرجان، أو عالم غزة السفلي، هذا العالم المسالم الذي قلبته الحرب رأسا على عقب، بالدمار والخراب والموت.
تتصارع في الفيلم “الكارثة” و”القصيدة” في تحد عجيب لقول “تيودور أدورنو” فيلسوف فرانكفورت “لا شعر بعد أوزفيتش”، وهو معتقل شهير أبيد فيه اليهود.
هذا الصراع يؤكد بعنف أن “ليس بعد الكارثة إلا الشعر”، فكل الجرائم -مهما كانت فظاعتها التي لا تحتمل- ليس لها أفق آخر لإدانتها سوى “الشعر”، وليس لها أفق لفضحها سوى “الصورة”. وبهذا نعد فيلم (Gaza-Strophe) فضيحة لجريمة لا تغتفر، وإدانة لكارثة لا تحتمل.