“هنا أعيش وهناك أحيا”.. قلوب المهاجرين المعلقة بين الوطن والمهجر

يتفاعل كثير من الأفلام الوثائقية مع الأحداث والنقاش السياسي والاجتماعي الذي تمر به الدول والمجتمعات، فيستجيب مخرجوها للآثار المتنوعة التي تتركها هذه الأحداث في محيطها.

وعلى خلاف معظم التغطيات التلفزيونية لتلك الأحداث، تبحث هذه الأفلام عن مقاربات تسعى لكشف التعقيد الذي تتضمنه ظواهر معينة، بتقربها من الذاتي للشخصيات التي تقدمها، وربط الإنساني بالقضايا السياسية والاجتماعية، وهو ما يقود كثيرا إلى خلاصات تظهر عدم صواب التبسيط الذي يحيط عادة بتغطيات الإعلام لأحداث كالتي تتناول أفعال مجموعات من البشر.

ازدواجية الجنسية.. جدل إعلامي تؤججه أحزاب اليمين

يعد فيلم “هنا أعيش وهناك أحيا” (Hier woon ik, daar leef ik) الذي أخرجته الهولندية ذات الأصول المغربية فاطمة جبلي الوزاني (2012)، مساهمةً سينمائية في النقاش الإعلامي والشعبي بموضوع الجنسية المزدوجة لأبناء المهاجرين في هولندا، الذي اشتعل مع صعود الأحزاب السياسية اليمينية قبل عشرة أعوام تقريبا، ويجد من يصب الزيت عليه بين فينة وأخرى.

فقبل أسابيع قليلة عاد النقاش من جديد مع اهتمام الإعلام الهولندي برفض لاعبي كرة قدم من أصول مغربية اللعب في المنتخب الهولندي، وتفضيل فريق بلد آبائهم، رغم أن هؤلاء اللاعبين ولدوا وتدربوا في فرق هولندية حياتهم كلها.

ذوات الأصول التركية.. مناصب رفيعة وتمسك بالجنسية الأم

لن تكون شخصيات فيلم “هنا أعيش وهناك أحيا” من أجيال المهاجرين المغاربة، بل من الأتراك، وهم يشكلون مع المغاربة الجالية الأضخم في هولندا، وقد تعرضوا في السنوات الماضية لانتقادات كبيرة من حزب “الحرية” اليميني الذي يتزعمه السياسي المثير للجدل “خيريت فيلدرز”.

وكان ذلك بسبب رفض سياسيات ذوات أصول تركية أن يتخلين عن جوازات سفرهن التركية، رغم عضويتهن في البرلمان الهولندي، وشغلهن مناصب رفيعة في الحكومات الهولندية في السنوات الماضية.

يقدم الفيلم أربع شخصيات نسوية من أجيال مختلفة من المهاجرات التركيات، فهناك عجوز تمثل الجيل الأول من الهجرة التي بدأت منذ نهايات الخمسينيات من القرن الماضي، في حين تنتمي النساء الثلاث الأخريات إلى أجيال لاحقة، بعضهن ولدن في هولندا، أو يعشن هناك أغلب حياتهن.

نساء الفيلم.. صراع بين موطن الآباء وموطن النشأة

تهيمن أسئلة الهوية وبلد الأجداد والبلد الثاني على حياة نساء الفيلم، أما العجوز المسنة فقد حسمت النقاش، فالبلد الأصلي الذي تركته عندما كانت شابة سيبقى بلدها المفضل، فلسانها لا يجيد سوى لغة البلد الأول، ولولا الأبناء والأحفاد الذين يعيشون في هولندا، لكانت عادت إلى تلك القرية، وهي اختارت منذ زمن طويل أن تدفن هناك.

المخرجة المغربية فاطمة جبلي وزاني

وهناك شخصية أخرى من الفيلم، تمثل مجموعة صغيرة من المهاجرين الذين بدؤوا بالعودة لبلدانهم الأصلية، بسبب تغير المناخ الليبرالي العام في هولندا في السنوات الماضية، وهذه المرأة التي تجاوزت عقد الثلاثين، قررت العودة حين كانت تقضي إجازة عادية في تركيا، قبل أن يسلب روحها جمال بلدها، لتبقى هناك، وتعمل دليلة سياحية هناك.

أما الشابة المحجبة التي تعمل ممرضة في هولندا، فتتمنى أن تنتقل إلى تركيا لتعمل مع مرضى من أبناء بلدها. في حين حددت الهوية الجنسية للمرأة الرابعة خياراتها، فأصبح البلد الذي يمنحها فرصة العيش كما تشاء، هو خيارها الأول.

قلق المهجر.. أوضاع عميقة تعكر المزاج الأوروبي

يمكن تتبع بعض من فصول الهجرة المسلمة إلى أوروبا من قصص السيدات الأربع، فالمرأة العجوز هي إحدى نتائج السياسية الأوروبية المتساهلة مع المهاجرين وقتها، فالانعزال الذي عاشته، والعالم الضيق الذي أحاطت نفسها به، كان يعود في بعضه إلى قله الانتباه الذي أولته دول أوروبية لإشراك مهاجرين بالحياة العامة، ودفعهم إلى تعلم لغة البلدان الجديدة كما يحدث حاليا.

في حين تمثل الشخصيات الثلاث الأخرى إحدى تمظهرات علاقة المسلم مع الدول الأوروبية، فمكانة الدين في تلك العلاقة لا يمكن تجاهل أبعادها العميقة، وخاصة في السنوات الماضية القريبة التي شهدت تبدلات في البلدان الأوروبية، إضافة إلى أخرى لا تقل جدية في البلدان الأصلية لهؤلاء المهاجرين.

فعندما تتوجه الممرضة التركية الأصلية إلى الكاميرا، وتبوح بأنها تفضل خدمة مرضى أتراك عن هولنديين، فهذا يشير في جزء منه إلى الجو المتعكر في هولندا. أما الشخصيتان الأخريان فهما بعنادهما وبحثهما المستمر عن الذات والسعادة تمثلان تأثيرات الحياة الأوروبية بمرجعياتها وفلسفاتها على سكانها.

سيدة الأعمال.. معاناة الأشهر الأولى في الوطن الأم

يخصص الفيلم مساحة طويلة نسبيا للمرأة التي تركت بلدها واختارت العيش في بلد آبائها، فتجربتها هي نموذج لظاهرة حديثة العهد، وتستحق انتباها مضاعفا.

تروي المرأة التركية صعوبة الأشهر الأولى بعد عودتها، وكيف عانت من معاملة مهينة من أبناء بلدها، بسبب لغتها التركية المكسرة وقتها، وكيف اكتشفت سريعا أن تركيا التي كانت تزورها في عطل سريعة، هو بلد يملك مشاكله وتعقيداته.

ورغم أنها ما زالت غير نادمة على قرارها العيش في تركيا، فإنها تملك كثيرا من الحنين لشوارع هولندا وأسلوب الحياة هناك، وربما تعود يوما إلى هناك، فالحياة لسيدة اعمال قوية الشخصية ليست سهلة ابدا في تركيا، حسب شخصية الفيلم.

“خرب حياته في زقاق ما في العالم”

يقدم الفيلم صورة قاتمة عن الأفق المسدود لحياة المهاجر، وضياعه الأبدي بين البلدان، فحتى العودة إلى البلد الأصلي لا تمنح حلا جاهزا للسعادة. كأن ما قاله الشاعر اليوناني “قسطنطين كفافيس” عن الذي “خرب حياته في زقاق ما في العالم”، ينطبق في كل مكان وزمان.

كما يؤكد الفيلم على اختلاف تجارب اندماج المهاجرين المسلمين والعرب مع الدول التي اختاروا العيش بها عن تجارب أبناء ثقافات أخرى، وهو أمر تدعمه أيضا بحوث وإحصاءات من دول أوروبية وأخرى من العالم الجديد، كالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وكندا.

فاطمة الوزاني.. أعمال مهمومة بقضايا المرأة المغربية

ولدت المخرجة والصحفية فاطمة جبلي الوزاني في المغرب، وهاجرت مع أهلها إلى هولندا وهي في عامها العاشر، وحين بلغت 18 عاما رفضت الزواج التقليدي، فنبذها والدها أكثر من 15 عاما.

وهو الأمر الذي همين على فيلمها الوثائقي الأول “في بيت أبي” (In het Huis van Mijn Vader) الذي عرض في عام 1997، وقد عادت فيه إلى تجربتها الشخصية المؤلمة، وهي تسجل تحضيرات لزواج مرتب لفتاة هولندية من أصل مغربي في إحدى القرى المغربية.

كما أخرجت في عام 2000 فيلم “الخطيئة من جديد” (Het was weer zondig)، ويتطرق إلى مكانة عذرية النساء في المجتمعات العربية.


إعلان